07/12/2005

كي نتخلص من البطالة

مشكلة البطالة التي تواجهها دول الخليج واحدة من مشكلات كثيرة ترجع الى سبب واحد ، يتمثل في انعدام التاسيس النظري المناسب للنظام الاقتصادي في اقطار الخليج. لو وجدت نظرية عامة للاقتصاد فان استراتيجيات العمل الاقتصادي ، وبالتالي القرارات الحكومية ذات العلاقة سوف تاتي منسجمة، متناغمة ومتكاملة. وفي غياب هذه النظرية، فان كل قرار سوف يبنى على قاعدة منفردة ، بل وربما متعارضة في بعض الاحيان مع القواعد التي بنيت عليها قرارات سابقة، او متعارضة مع الاعراف السائدة في قطاع الاعمال مثل هذا التعارض لا بد ان يؤدي الى اشكالات غير مريحة: تعطيل القرار مرة وتعطيل النشاط الاقتصادي مرة اخرى.

هذا الاستنتاج ليس مجرد فرضية بل هو واقع محسوس ولعل اخر الامثلة عليه هو الاقتراح المقدم من بعض وزراء العمل الخليجيين ، وفحواه تحديد الفترة القصوى التي يسمح للعامل الاجنبي بالبقاء في المنطقة. وهو قرار غير منطقي وغير قابل للتطبيق، ولهذا فقد واجه معارضة فورية من جانب قطاع الاعمال كما ظهر في بيان غرفة تجارة الرياض مثلا.

الفرضية المعتادة ترجع مشكلة البطالة الى قلة فرص العمل، وهذا بدوره يرجع الى ضآلة حجم الاستثمار الحكومي او الاهلي. لكن دول الخليج لا تعاني من قلة المال. حتى في سنوات العسر الاقتصادي الماضية كان الحجم الاجمالي للاستثمار قادرا على توفير فرص عمل كافية. لكننا وجدنا ان معظم هذه الفرص ذهبت الى عمال وافدين. والسبب في ذلك كما يبدو لي هو عدم التوازن بين مستويات الفرص المتاحة. الشريحة الاعظم من الفرص تتعلق بوظائف قليلة العائد ولا تحتاج في العادة الى كفاءات كبيرة كما ان الشريحة العليا من الوظائف هي بطبيعة الحال ضيقة ولا تستوعب سوى نسبة صغيرة جدا من المؤهلين، وهي على اي حال ليست رهانا جديا للاغلبية الساحقة من طالبي العمل.

 اما النقص الحقيقي فهو في الوظائف المتوسطة التي تعادل عائداتها الاساسية ضعف المتوسط العام لكلفة المعيشة. ان الشريحة الاوسع من سكان الخليج ينتمون الى الطبقة الوسطى من حيث الكفاءة العملية ومستوى المعيشة ولهذا فان الوظائف المتوسطة هي خيارهم الطبيعي.

كانت امارة دبي هي الوحيدة في الخليج التي وضعت نظرية عامة لاقتصادياتها حين قررت ان الخدمات المالية والتجارية سوف تكون محور حياتها الاقتصادية. وبناء عليه فقد اعادت صياغة كامل منظومتها القانونية والادارية لخدمة هذا الاتجاه، ووجدنا كيف حققت نتائج مدهشة في فترة قصيرة. ولهذا فان هذه الامارة هي الوحيدة بين نظيراتها في الخليج التي لا تتحدث عن بطالة، بل عن فرص عمل متزايدة.

لو اردنا وضع نظرية كلية فلا بد ان تقوم على اعتبار البترول المحور الرئيس لاقتصاديات الخليج، ذلك ان الاحتياطي المتوفر والمتوقع سوف يكفي لما لا يقل عن نصف قرن. ويمكن لنا بالاعتماد على البترول وحده توفير فرص عمل كافية اليوم وغدا، بشرط ان يتحول الى صناعة متكاملة. رغم ان تصدير البترول يمثل في الوقت الحاضر المورد الاول والحاسم للدخل القومي، الا انه لم يتحول بعد الى عصب للحياة الاقتصادية. بكلمة اخرى فان صناعة البترول لا زالت محصورة جغرافيا في مناطق محددة وموضوعيا في قطاعات محددة، اما باقي القطاعات الاقتصادية فهي مجرد عالة على صادرات البترول وليست جزءا متفاعلا معها.

 ولهذا فان احد اغراض النظرية هو تنسيج صناعة البترول في كل اجزء الدورة الاقتصادية وتحويل هذه الدورة الى منظومة متفاعلة تدور حول الاستفادة القصوى من ذلك المورد. ويتحقق ذلك من خلال مسارين: الاول هو التحول من تصدير البترول الخام الى تصدير المشتقات البترولية والمنتجات الثانوية، والثاني هو التوجه نحو الاكتفاء الذاتي في التجهيزات والتقنيات المتعلقة بصناعة البترول. ونشير هنا الى الدعوات الملحة التي اطلقها اقتصاديون واكاديميون خلال العقود الثلاثة الماضية، لاستثمار العائدات البترولية في تنويع قاعدة الانتاج الوطني. هذه الدعوات تجاري قاعدة معروفة في علم الاقتصاد فحواها ان الاعتماد على تصدير المواد الخام يجعل المصدر اسيرا للمشتري، كما ان الاقتصار على محصول واحد يقلص مستويات الامان

فيما يتعلق بالمسار الاول فان التحول الى تصنيع البترول يتوقف على التوسع في انشاء مصانع التكرير والبتروكيمياويات وتتمتع دول الخليج بميزة استثنائية على غيرها من دول العالم هي توفر رؤوس الاموال اللازمة لهذه الصناعات التي تحتاج الى استثمارات ضخمة. التوسع في هذه القطاعات سوف يضاعف عائدات التصدير، ويوفر عددا كبيرا من الوظائف الجديدة، كما سيرفع المستوى العملي والتقني للبلاد في الحقيقة فان دول الخليج قادرة على التحول الى موفر رئيسي لمشتقات البترول والمواد الوسيطة للصناعات الكيميائية في العالم، مثل ما هي اليوم الموفر الرئيسي للبترول الخام ومع هذا التحول فان موقعها في السوق العالمي سوف يتعزز وسوف يوفر حماية اضافية لاقتصادياتها من تقلبات الاسواق الدولية.

اما بالنسبة للمسار الثاني، فان جانبا هاما من عائدات البترول الخليجي يذهب من جديد الى الدول المستهلكة ثمنا لاستيراد التجهيزات والتقنيات التي تحتاجها هذه الصناعة من المؤسف اننا لا نملك حتى الان قاعدة علمية مناسبة لتطوير التقنيات التي نحتاجها، كما لا نملك قاعدة صناعية توفر ما نحتاجه من عتاد وتجهيزات، على الرغم من وجود العديد من الكليات الجامعية المتخصصة والالاف من الشباب الذين درسوا في التخصصاات ذات العلاقة في الجامعات الاجنبية. واظن ان السبب وراء هذا النقص هو انعدام التاسيس النظري الذي اشرنا اليه.

لو ذهبنا في هذين المسارين، فان عائدات البترول سوف تقفز الى اضعاف العائدات الحالية، كما انها ستوفر فرص عمل ليس في مواقع الانتاج فقط، بل في كل مستويات الاقتصاد الوطني. ان صناعة البترول توفر اليوم اقل من عشرة بالمائة من الوظائف، اما النسبة الاعظم فهي ناتج ثانوي لعائدات التصدير. مع التحول المشار اليه فان صناعة البترول قادرة على مضاعفة الفرص الوظيفية، كما ان تضاعف العائدات سوف يلبي البقية الباقية ويزيد.

قلنا في البداية ان مشكلة البطالة تتعلق بالشريحة المتوسطة من الوظائف. ونضيف هنا ان طلاب هذه الشريحة سيكونون ابرز المستفيدين من التحول المطلوب. اذا نظرنا الى صناعة البترول والبتروكيمياويات الحالية فسوف نجد ان معظم وظائفها تنتمي الى هذه الشريحة. وبطبيعة الحال فان التوسع فيها سيقود بالضرورة الى توسع مواز في فرص العمل لهذا نعود الى القول بان مشكلة البطالة يمكن ان تختفي تماما من دول الخليج لو وضعت نظرية مناسبة للعمل الاقتصادي، نظرية تتواصل مع الامكانات القائمة فعلا وتبني عليها.

16/11/2005

خديعة الثقافة وحفلات الموت


سوف نخدع انفسنا اذا ظننا ان تشجيع العنف ياتي بالسلام. الشارع الاردني كان مصدوما هذا الاسبوع بالمجزرة التي حدثت في فنادق عمان. في الشتاء الماضي وجدت صحافة عمان مستمتعة باخبار القتل الجماعي في العراق. كأن السادة نسوا الحكمة العربية القديمة: من حلقت لحية جار له فليسكب الماء على لحيته.
لعل مسؤولية الذي حمل القنبلة لا تزيد كثيرا عن مسؤولية السياسي والكاتب والمتفرج ما يجمع هؤلاء هو الثقافة العمياء التي نتكر الحياة بينما تفرح للقتل وتمجد القاتل
تأملت صورة الطفلة تولين التي اصبحت يتيمة في شهرها الثالث. لحسن الحظ فقد حصلت على رضعة مختصرة وودعت امها الوداع الاخير. من قتل ام تولين؟: الابوات الثلاثة الذين ارسلهم ابو مصعب الزرقاوي، ام الزرقاوي نفسه، ام اسامة بن لادن الذين عينه اميرا للقتلة، ام الكتاب والخطباء الذين برروا حفلات القتل اليومي، ام السياسيون الذين استثمروا قنابل القتلة ودماء القتلى، ام عامة العرب الذين استمتعوا باخبار القتل مثلما يستمتع المضاربون بمؤشر البورصة. كلهم مسؤولون بقدر او بآخر، ولعل مسؤولية الذي حمل القنبلة لا تزيد كثيرا عن مسؤولية السياسي والكاتب والمتفرج ما يجمع هؤلاء هو الثقافة العمياء التي نتكر الحياة بينما تفرح للقتل وتمجد القاتل.
يجب ان لا نخدع انفسنا فنبرئها من هذا العيب تنظيم القاعدة لم يخترع ثقافة الموت. ففي اوائل التسعينات، قبل ولادة القاعدة قتل المتطرفون ما يزيد عن مئة الف مدني في الجزائر، وفي السبعينات حصدت الحرب الاهلية اللبنانية ما يزيد عن هذا الرقم. انكار الحياة وتمجيد الموت هو ثقافة راسخة في تراثنا وتقاليدنا. وخلال القرون الماضية قتل الملايين منا وضاعت اسماء معظمهم، وسيقتل مثلهم في المستقبل، لأن ثقافة الموت هذه كانت ولا تزال حية نشطة، وهي تجد دائما من يعيد تجديدها وينفض عنها غبار السنين.
 كتب الدكتور محمد جابر الانصاري مرة ان المواطن العربي مستعد للخروج من بيته ملبيا نداء القتال لكنه غير مستعد لتنظيف الرصيف امام بيته هذا المواطن قد يكون انا او انت او اي شخص آخر. هذا المواطن قد يتحول الى صدام حسين لو وصل الى السلطة، او ابو مصعب الزرقاوي لو اصبح اميرا لكتيبة الذبح. لان الثقافة التي صنعت هذين الرجلين هي الثقافة التي نحملها جميعا.
من اين اتتنا هذه الثقافة؟.. هل هي رد فعل على سقوط حضارتنا القديمة، ام هي تجسيد لحيرتنا ازاء الحضارة المعاصرة، ام هي ثمرة التفسير الاعوج لتعاليم ديننا، ام هي نتاج انفعالنا بثقافة الصحراء التي ملكت البر والبحر من حولنا، ام هو العجز عن استنباط تجسيدات مدنية وحضارية للقوة والفخر والاعتزاز بالذات؟.
ايا كان مصدر هذه الثقافة العمياء فنحن المسؤولون اولا واخيرا عن افعالنا. مسؤولون عما يحدث اليوم وما سيحدث غدا. لقد طافت حفلات الموت في عواصم عديدة، وثمة اخرى على قائمة الانتظار. من بيروت الى الجزائر وبغداد والرياض واخيرا في عمان، ولا ندري من هي المدينة القادمة، لكن كل قادم قريب ما لم نتصد جميعا لكتيبة القتل الجوالة فقد نكون ضحاياها القادمين، وسوف تنظم اسماؤنا الى ملايين الاسماء التي ضاعت منذ ايام الحجاج بن يوسف حتى ايام ابو مصعب الزرقاوي.
نحن بحاجة الى اجماع جديد على ادانة كل شكل من اشكال العنف بدءا من عنف الدولة ولا سيما التعذيب والاهانة في دوائر الامن، مرورا بالخطب التي تمجد العنف.. وانتهاء بانظمة التربية المدرسية
سوف نسمع في هذا الاسبوع والاسابيع التالية اصواتا تندد بمجزرة عمان. وهي تنديدات غرضها في العادة رفع العتب. بل ان بعض الذين سيشجبون لن يخجلوا من القول مثلا: لا تذبحوا الناس هنا.. ركزوا جهدكم هناك.. الاردن ليست ارض جهاد، ارض الجهاد هي الحلة او كربلاء او كابل او غروزني او ربما صعدة او نيودلهي... «اللهم حوالينا ولا علينا». هؤلاء الذين يدعون بمثل هذا - صراحة او مداورة - هم جزء من كتيبة القتل وان لم يقتلوا.
نستطيع وضع نهاية لحفلات القتل الجوالة تلك اذا وضعنا نهاية للثقافة التي تبررها. نحن بحاجة الى اجماع جديد على ادانة كل شكل من اشكال العنف بدءا من عنف الدولة ولا سيما التعذيب والاهانة في دوائر الامن، مرورا بالخطب التي تمجد العنف في المساجد والحسينيات والقنوات التلفزيونية والصحف، وانتهاء بانظمة التربية المدرسية التي تخلق شخصيات عاجزة عن التكيف مع المختلفين والمخالفين، ولا ننسى مناهج التربية الحزبية التي تربط بين المجد والبندقية
يجب ايضا ان ندين وباصرح الالفاظ تلك المراحل من تاريخنا التي سادت فيها لغة السيف والدم، ندينها كي نتحرر من ثقلها المعنوي ومن هيمنة قيمها الحمقاء على رؤيتنا لانفسنا وعالمنا. نحن بحاجة الى اعادة النظر في علاقتنا مع بعضنا: هل نريد علاقة على اساس الشراكة في الارض فيكون لكل منا حق متساو مع الاخر في فعل ما يريد في حياته، في الاعتقاد بما يريد، في الطموح الى ما يريد، ام علاقة تقوم على تحكم شخص او فئة في مصير البقية، في حياتهم وموتهم.
نداء الحياة هو نداء للجميع اذا اردنا ان نعيش في سلام فيجب ان نلغي ذلك الجانب من ثقافتنا الذي يصنف الناس الى الى درجات، والذي يسمح لنا بالاستهانة بقيمة الغير لمجرد انه لا ينتمي الى قومنا او لا يصدق بمعتقدنا او لا يقبل بجميع افكارنا. لا يكفينا ان نقول - في معرض السجال كالعادة - اننا اهل تسامح وحوار، بينما نشكك في مجالسنا الخاصة في قيمة الاخرين وكونهم امثالا اكفاء لنا، لهم مثل حقوقنا وعليهم مثل ما علينا. ثقافة الموت تبدأ بتصنيف الناس الى درجات، وثقافة الحياة تبدأ بالايمان الكامل وغير المشروط بان الناس سواء. كي نستعيد السيطرة على مصيرنا، فلابد ان نسيطر على الثقافة التي تحتويها انفسنا، نحن بحاجة الى التخلص من ثقافة الموت قبل ان تجرفنا حفلات الموت في غفلة.

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...