16/11/2005

خديعة الثقافة وحفلات الموت


سوف نخدع انفسنا اذا ظننا ان تشجيع العنف ياتي بالسلام. الشارع الاردني كان مصدوما هذا الاسبوع بالمجزرة التي حدثت في فنادق عمان. في الشتاء الماضي وجدت صحافة عمان مستمتعة باخبار القتل الجماعي في العراق. كأن السادة نسوا الحكمة العربية القديمة: من حلقت لحية جار له فليسكب الماء على لحيته.
لعل مسؤولية الذي حمل القنبلة لا تزيد كثيرا عن مسؤولية السياسي والكاتب والمتفرج ما يجمع هؤلاء هو الثقافة العمياء التي نتكر الحياة بينما تفرح للقتل وتمجد القاتل
تأملت صورة الطفلة تولين التي اصبحت يتيمة في شهرها الثالث. لحسن الحظ فقد حصلت على رضعة مختصرة وودعت امها الوداع الاخير. من قتل ام تولين؟: الابوات الثلاثة الذين ارسلهم ابو مصعب الزرقاوي، ام الزرقاوي نفسه، ام اسامة بن لادن الذين عينه اميرا للقتلة، ام الكتاب والخطباء الذين برروا حفلات القتل اليومي، ام السياسيون الذين استثمروا قنابل القتلة ودماء القتلى، ام عامة العرب الذين استمتعوا باخبار القتل مثلما يستمتع المضاربون بمؤشر البورصة. كلهم مسؤولون بقدر او بآخر، ولعل مسؤولية الذي حمل القنبلة لا تزيد كثيرا عن مسؤولية السياسي والكاتب والمتفرج ما يجمع هؤلاء هو الثقافة العمياء التي نتكر الحياة بينما تفرح للقتل وتمجد القاتل.
يجب ان لا نخدع انفسنا فنبرئها من هذا العيب تنظيم القاعدة لم يخترع ثقافة الموت. ففي اوائل التسعينات، قبل ولادة القاعدة قتل المتطرفون ما يزيد عن مئة الف مدني في الجزائر، وفي السبعينات حصدت الحرب الاهلية اللبنانية ما يزيد عن هذا الرقم. انكار الحياة وتمجيد الموت هو ثقافة راسخة في تراثنا وتقاليدنا. وخلال القرون الماضية قتل الملايين منا وضاعت اسماء معظمهم، وسيقتل مثلهم في المستقبل، لأن ثقافة الموت هذه كانت ولا تزال حية نشطة، وهي تجد دائما من يعيد تجديدها وينفض عنها غبار السنين.
 كتب الدكتور محمد جابر الانصاري مرة ان المواطن العربي مستعد للخروج من بيته ملبيا نداء القتال لكنه غير مستعد لتنظيف الرصيف امام بيته هذا المواطن قد يكون انا او انت او اي شخص آخر. هذا المواطن قد يتحول الى صدام حسين لو وصل الى السلطة، او ابو مصعب الزرقاوي لو اصبح اميرا لكتيبة الذبح. لان الثقافة التي صنعت هذين الرجلين هي الثقافة التي نحملها جميعا.
من اين اتتنا هذه الثقافة؟.. هل هي رد فعل على سقوط حضارتنا القديمة، ام هي تجسيد لحيرتنا ازاء الحضارة المعاصرة، ام هي ثمرة التفسير الاعوج لتعاليم ديننا، ام هي نتاج انفعالنا بثقافة الصحراء التي ملكت البر والبحر من حولنا، ام هو العجز عن استنباط تجسيدات مدنية وحضارية للقوة والفخر والاعتزاز بالذات؟.
ايا كان مصدر هذه الثقافة العمياء فنحن المسؤولون اولا واخيرا عن افعالنا. مسؤولون عما يحدث اليوم وما سيحدث غدا. لقد طافت حفلات الموت في عواصم عديدة، وثمة اخرى على قائمة الانتظار. من بيروت الى الجزائر وبغداد والرياض واخيرا في عمان، ولا ندري من هي المدينة القادمة، لكن كل قادم قريب ما لم نتصد جميعا لكتيبة القتل الجوالة فقد نكون ضحاياها القادمين، وسوف تنظم اسماؤنا الى ملايين الاسماء التي ضاعت منذ ايام الحجاج بن يوسف حتى ايام ابو مصعب الزرقاوي.
نحن بحاجة الى اجماع جديد على ادانة كل شكل من اشكال العنف بدءا من عنف الدولة ولا سيما التعذيب والاهانة في دوائر الامن، مرورا بالخطب التي تمجد العنف.. وانتهاء بانظمة التربية المدرسية
سوف نسمع في هذا الاسبوع والاسابيع التالية اصواتا تندد بمجزرة عمان. وهي تنديدات غرضها في العادة رفع العتب. بل ان بعض الذين سيشجبون لن يخجلوا من القول مثلا: لا تذبحوا الناس هنا.. ركزوا جهدكم هناك.. الاردن ليست ارض جهاد، ارض الجهاد هي الحلة او كربلاء او كابل او غروزني او ربما صعدة او نيودلهي... «اللهم حوالينا ولا علينا». هؤلاء الذين يدعون بمثل هذا - صراحة او مداورة - هم جزء من كتيبة القتل وان لم يقتلوا.
نستطيع وضع نهاية لحفلات القتل الجوالة تلك اذا وضعنا نهاية للثقافة التي تبررها. نحن بحاجة الى اجماع جديد على ادانة كل شكل من اشكال العنف بدءا من عنف الدولة ولا سيما التعذيب والاهانة في دوائر الامن، مرورا بالخطب التي تمجد العنف في المساجد والحسينيات والقنوات التلفزيونية والصحف، وانتهاء بانظمة التربية المدرسية التي تخلق شخصيات عاجزة عن التكيف مع المختلفين والمخالفين، ولا ننسى مناهج التربية الحزبية التي تربط بين المجد والبندقية
يجب ايضا ان ندين وباصرح الالفاظ تلك المراحل من تاريخنا التي سادت فيها لغة السيف والدم، ندينها كي نتحرر من ثقلها المعنوي ومن هيمنة قيمها الحمقاء على رؤيتنا لانفسنا وعالمنا. نحن بحاجة الى اعادة النظر في علاقتنا مع بعضنا: هل نريد علاقة على اساس الشراكة في الارض فيكون لكل منا حق متساو مع الاخر في فعل ما يريد في حياته، في الاعتقاد بما يريد، في الطموح الى ما يريد، ام علاقة تقوم على تحكم شخص او فئة في مصير البقية، في حياتهم وموتهم.
نداء الحياة هو نداء للجميع اذا اردنا ان نعيش في سلام فيجب ان نلغي ذلك الجانب من ثقافتنا الذي يصنف الناس الى الى درجات، والذي يسمح لنا بالاستهانة بقيمة الغير لمجرد انه لا ينتمي الى قومنا او لا يصدق بمعتقدنا او لا يقبل بجميع افكارنا. لا يكفينا ان نقول - في معرض السجال كالعادة - اننا اهل تسامح وحوار، بينما نشكك في مجالسنا الخاصة في قيمة الاخرين وكونهم امثالا اكفاء لنا، لهم مثل حقوقنا وعليهم مثل ما علينا. ثقافة الموت تبدأ بتصنيف الناس الى درجات، وثقافة الحياة تبدأ بالايمان الكامل وغير المشروط بان الناس سواء. كي نستعيد السيطرة على مصيرنا، فلابد ان نسيطر على الثقافة التي تحتويها انفسنا، نحن بحاجة الى التخلص من ثقافة الموت قبل ان تجرفنا حفلات الموت في غفلة.

18/10/2005

ظرف الرفاهية واختصار الكلفة السياسية للاصلاح

 لا يستطيع المال حل جميع المشكلات لكنه يستطيع بالتاكيد ايجاد الظرف الملائم لتيسير الحل. في ظل ندرة الموارد فان النقاط الضعيفة في النظام الاجتماعي تميل الى التأزم وتظهر على السطح في صورة معضلات مثل البطالة والفقر وتقلص الفرص وغيرها . وبالعكس من ذلك فان وفرة الموارد توفر وظائف جديدة  كما تعزز الامل في نفوس الناس بامكانية تحقيق الاهداف الحيوية. ما نلاحظه اليوم من انشغال مفرط للجمهور بسوق الاسهم وغيرها من قنوات الاستثمار هو مؤشر على تراجع فعلي  للمشكلات التي سادت خلال السنوات الماضية وشكلت موردا متجددا للشكوى سواء في الصحافة او في الملتقيات الاجتماعية . تجدد الامل نشهده ايضا في الارتفاع الكبير للانفاق الفردي كما يظهر في عودة الازدهار لسوق البناء والانشاء التي يقدر بعض التجار الزيادة فيها بنحو 40 بالمائة قياسا الى العام الماضي .

يعرف اهل السياسة مثل هذا الظرف بظرف الارتخاء السياسي ، وهو على وجه التحديد الفترة الزمنية التي يسود فيها التفاؤل بين الناس ويتحدثون عن آمالهم ومكاسبهم اكثر مما يتحدثون عن احباطاتهم ومشاكلهم . بالنسبة للقادة السياسيين فان هذا الظرف هو الفرصة المثالية للقيام بالتغييرات المثيرة للجدل . في العادة فان الشعور بالحاجة الى تغييرات اساسية في النظام الاجتماعي او الاستراتيجيات السياسية الكبري يتولد في ظروف الازمة . ذلك ان الازمة بذاتها هي دليل على وجود خلل ما او قصور ما يحتاج الى علاج . لكن في الوقت نفسه فان معظم السياسيين لا يميل الى التغيير في ظرف الازمة ، خشية ان يثير ردود فعل معاكسة ، ربما تعمق التازم بدل ان تعالجه.  والسر في ذلك واضح ، ففي ظروف الازمة (الاقتصادية او السياسية او الاجتماعية)  يميل الناس الى الارتياب والسلبية .

 واذا كان التغيير المنشود مخالفا لرغبات شريحة اجتماعية ما ، فلعلها تتخذه مبررا جديدا للتاكيد على شكوكها السابقة . وقد شهدنا في بلاد عربية واجنبية كثيرة ، ان محاولات الاصلاح الاقتصادي مثلا قد اثارت غضبا عارما بين شرائح عريضة من المجتمع ، رغم القناعة الكاملة من جانب المخططين بانها الحل الانجع للازمات والمشكلات التي تواجه تلك الشريحة بالذات. ولعل احدث الامثلة على ذلك هو الاضطرابات التي شهدتها اليمن في اواخر يوليو الماضي بعد قرار الحكومة الغاء الدعم على المشتقات البترولية ، الامر الذي ادى الى رفع اسعارها في السوق المحلي . هذه الاضطرابات التي ذهب ضحيتها قتلى وجرحى هي مثال على نوعية ردود الفعل التي يمكن ان تثيرها سياسات الاصلاح الحكومية . الاصلاحات الاقتصادية تثير غضب الشارع وربما تفجر احتجاجات عنيفة ، اما الاصلاحات السياسية فتثير ردود فعل غاضبة في داخل الحلقات القريبة من مراكز القرار ، اي ضمن النخبة التي تشارك في السلطة السياسية او تؤثر فيها مباشرة . ولهذا فهي - رغم لينها النسبي قياسا الى غضب الشارع - تولد تاثيرا اكبر على اصحاب القرار . ذلك انها تنطوي على تهديد جدي بتفكك نظام العلاقات الداخلية او تضعضع الاجماع الذي يتكيء عليه النظام السياسي . في الحقيقة فان السبب الرئيسي لتردد الكثير من الحكومات العربية في تبني اصلاحات جذرية وواسعة النطاق يرجع الى القلق من تخلخل البيت الداخلي للنخبة السياسية العليا ، او خسارة القوى الاجتماعية التي تحتاج النخبة الى دعمها .

في ظل ظروف الازمة تتحاشى النخبة الاقدام على اصلاحات ذات معنى ، خشية ان تستغل من جانب القوى الاهلية الغاضبة في فرض مراداتها ومطالبها .  ان ظرف الازمة هو ظرف عدم استقرار ، وربما يؤدي الاقدام على  خطوات مثيرة للجدل الى المزيد من عدم الاستقرار . وعلى العكس من ذلك فان ظرف الرخاء الاقتصادي  يقود بالضرورة الى ارتخاء اجتماعي وسياسي ، وهو ظرف يسود فيه الامل والتطلع الى الاحسن . وبالتالي فان الاكثرية الساحقة من الناس تميل الى القبول بالتجديد والتغيير ، بل وتحتمل حتى التغييرات التي لم تكن ترضى بها في ظروف اخرى. كما تميل الى المهادنة والقبول بالحلول الوسطى والتوافقات . والسر في ذلك يرجع الى ان الرخاء المعيشي وتوفر الموارد يولد في داخل الانسان نوعا من الاستقرار والسلام النفسي ، والميل الى التعامل او المداهنة مع الغير بدل الارتياب فيهم . الامان المعيشي يعزز الامل في المستقبل . في ظل هذا الظرف فان المجتمع سيكون اكثر استعدادا للقبول بالتعاون مع السلطة بدل استثمار الاصلاحات في الانتقاض عليها . ولهذا السبب فان ظرف الارتخاء هو الفرصة المثالية للاقدام على اصلاحات سياسية كبيرة ، لانها سوف لن تستثمر في الانقضاض على السلطة كما تخشى النخبة عادة .

وفي اعتقادي ان ظرف النشاط الاقتصادي الذي تشهده حاليا دول المشرق العربي ،  ولا سيما الدول الخليجية هو الفرصة المثالية للقيام بالتغييرات التي طال الحديث عنها ، اي تلك التغييرات الضرورية لتحديث نظام الادارة السياسية والهندسة الاجتماعية وانماط المعيشة والانشغالات الثقافية والعلمية . ليس من الصالح التسويف والتاجيل لاننا لا ندري ان كانت حقبة الرخاء الحالية سوف تستمر سنوات طويلة ام انها سوف تتلاشى بعد عامين او ثلاثة . نقول هذا وخلفنا تجربة الثمانينات من القرن الماضي حين قفزت اسعار البترول الى خمسة اضعافها خلال خمس سنين ثم عادت فهوت من جديد مخلفة وراءها ازمات وضيق معيشة ومشكلات على اكثر من صعيد . ان الاستثمار الامثل للثروة المتوفرة اليوم يكمن في اصلاح الخلل المزمن في نظامنا الاجتماعي كي يكون اقدر على مجابهة التحديات المختلفة التي تتوجه اليه من كل صوب ، سواء التحديات المرتبطة بتراجع الدخل الوطني او تغير الظرف السياسي الاقليمي او الدولي او تغير الثقافة والسلوكيات بسبب الانفتاح المتزايد في العالم .
الايام 18 اكتوبر 2005

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...