18/09/2005

من أجل حداثة محلية

 

 في البحرين، مثل تركيا والعراق ولبنان والمغرب والجزائر وماليزيا واليمن ومصر وغيرها من الدول الاسلامية، تحولت الجماعات السياسية الاسلامية عن المطالبة بحكومة دينية صرفة الى المطالبة بالديمقراطية كنظام للحكم وادارة المجتمع.

بعض هؤلاء صادق في دعواه، مؤمن ايمانا عميقا بأن الديمقراطية هي الصورة المثلى لتوزيع الموارد وادارة التعارضات السياسية وغير السياسية في عالم اليوم اما البعض الاخر كما هو الحال بالنسبة للجيل الجديد من المحافظين الايرانيين فهو يعتبر الديمقراطية مرحلة وسطية بين الاستبداد العلماني والدولة الاسلامية الكاملة او دولة العدل الالهي كما يسمونها.

يمثل هذا التحول تطورا هاما في ثقافة المسلمين السياسية التي طالما انحصرت بين قمع الافكار وتلقين الافكار ومن سخرية القدر ان معظم الاسلاميين قد تخلوا عن افكارهم السابقة بعد ان نجحوا في الوصول الى السلطة، بمفردهم في بعض الاقطار وشركاء لغيرهم في اقطار اخرى.

ربما كان ابرز تلك المفارقات هو تحول النظام الديمقراطي الى مورد اجماع بين الاحزاب العراقية، بما فيها الاحزاب الدينية الشيعية التي كانت حليفة لايران، والسنية التي تتكون من رجال دين وتلاميذ لمدرسة المرحوم سيد قطب، فضلا عن الاحزاب ذات الجذور الماركسية، سواء العربية او الكردية.

في الجزائر ايضا فان ابرز جماعتين اسلاميتين، اي جبهة الانقاذ وحركة مجتمع السلم (حماس)، تتحدثان بدون تحفظ عن الحاجة الى تكريس الديمقراطية. وفي مصر والكويت وسوريا فان الاخوان المسلمين الذين اعتبروا يوما ما ابرز المشككين في الديمقراطية، لا يرون اليوم نظاما بديلا عنها. اما في لبنان وماليزيا وتركيا والباكستان، فقد انخرطت المجموعات الاسلامية في العمل السياسي ، وقبلت من دون تحفظ قواعد اللعبة الديمقراطية.

 في مقابل هذا فاننا لا نجد احدا اليوم يدعو الى نظام سياسي يقوم على قاعدة ولاية الفقيه ، كما هو الحال في ايران، فضلا عن نظام الامارة الاسلامية التي اقامتها طالبان، او حكومة المستبد العادل التي حاول العسكريون تطبيق نموذجها في السودان ، ومن قبلها باكستان في ظل الجنرال ضياء الحق.

واظن ان هذا التحول قد تعزز في السنوات الاخيرة ، بسبب الانفجار الهائل للعنف السياسي الذي يتلبس عباءة الاسلام، ولا سيما منذ الهجوم على نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر 2001.

وخلال الشهور الثلاثة الاخيرة استمعت مثل سائر الناس الى عدد من دعاة العنف السياسي ومنظريه يتبرأون على شاشات التلفزيون من الدماء والدمار الذي سببته دعواتهم السابقة.

 وخلال هذا الاسبوع ، سمعت احدهم يتحدث بالخصوص عن قيمة القضاء المستقل في بريطانيا ، وكونه الملجأ الوحيد الذي يحميه ويحمي كل مواطن ، من عسف الدولة وانحياز السياسيين. ولا شك ان استقلال القضاء وكونه الضمان الثابت للحقوق الدستورية للمواطن، هو واحد من ابرز فضائل الديمقراطية ولا شك ان انفجار العنف ذاك ووصول نيرانه الحارقة الى كل مكان، بما فيها تلك الاماكن التي ظنها المتطرفون دوائر آمنة لهم، قد حمل الكثير منهم على اعادة النظر في عواقب تلك الدعوات وأثرها عليهم وعلى اتباعهم فضلا عن غيرهم.

هذه التطورات الهامة تشير الى ما اظنه بداية انقلاب في الخطاب السياسي العربي والاسلامي بصورة عامة نحن نتحدث عن الخطاب السياسي في معنى اللغة السائدة اي التعبيرات الثقافية التي تستهدف تبرير او تفسير المواقف والاتجاهات، والمفاهيم التي يتعامل معها كمسلمات، ونوعية الاهداف التي يختارها الجمهور او النخبة، وما يترتب عليها من منظومات مصالح والتزامات سياسية او اجتماعية.

 اقول انه بداية انقلاب وليس انقلابا كاملا، لأن التحولات رغم اهميتها ما تزال محدودة في سطح الممارسة السياسية ولم تنزل بعد الى العمق نزولها الى العمق يعني بصورة محددة اندماج المفاهيم والقيم الاساسية للديمقراطية في النسيج الثقافي المحلي بحيث تتحول مثل سائر مكونات الثقافة المحلية الى خلفية للتفكير والسلوك الفردي والجمعي، اي جزء من مكونات الهوية ورؤية الذات والعالم.

من المحتمل ان يتحقق هذا الاندماج في وقت ما في المستقبل، لكننا لا ندري هل سيكون هذا المستقبل قريبا ام بعيدا ومصدر القلق تجاه التوقيت يكمن في الخشية من ان تطاول الزمن قد يسمح بقيام ما نصفه بذهنية ملتبسة، اي خلفية ثقافية تتجاور فيها قيم الديمقراطية والقيم  الموروثة من العصر الابوي الديكتاتوري، من دون ان تتفاعل او تندمج ولدينا تجربة سابقة على هذا النوع من التجاور بين قيم الحداثة العقلانية والتقاليد الاسطورية، أدت في حينها الى تطور مشوه، لا هو بالحداثة الحقيقية ولا هو بالتقليد، رغم انه ساعد في اطالة عمر النظام الاجتماعي التقليدي ولو كسيحا ومشوها.

بناء على هذا فان المجتمع، بنخبته المثقفة وجماعاته السياسية، فضلا عن عامة الناس، بحاجة الى مناقشة معاني تلك التحولات، ولا سيما ما يترتب على التحول في الخطاب السياسي من تغير في المفاهيم وديناميات العمل والمحاور الكبرى للثقافة الشعبية وكمثال على ذلك، فان حديثنا عن الديمقراطية او الحريات العامة او حقوق الانسان، يستلهم  عن قصد او غير قصد النموذج القائم في الغرب هذا النموذج لا يأتينا من فراغ، بل هو محمول على خلفية معرفية وفلسفية وتجربة اجتماعية خاصة، قد لا يكون معظمنا راغبا في التسليم بها. من الضروري اذن ان نفكر فيها تفكيرا نقديا لتحديد ما نستطيع القبول به وما لا نستطيع.

اظن ان التعامل النقدي مع مكونات الحداثة هو السبيل الوحيد الى اكتشاف فضائلها وعيوبها، وصولا الى صياغة نموذج محلي للحداثة والديمقراطية، يستلهم مفاهيمها وقواعدها الكبرى من دون ان يصادم المكونات الاساسية لهويتنا الثقافية او متبنياتنا التي هي حقيقة ذاتنا.

صحيح ان الحداثة لا تنفصل عن التجربة المعرفية والاجتماعية التي قامت في اطارها، لكن من ناحية اخرى فانها، مثل اي تجربة انسانية اخرى، قابلة للنقد والتفكيك ومن هذه الزاوية فان بامكاننا صياغة حداثتنا الخاصة لكن هذا الامر يتوقف على نقاش لا يستثني ايا من مسلماتنا الثقافية، بما فيها تلك التي تبدو لأول وهلة غير قابلة للنقد او المجادلة.

صحيفة الأيام - البحرين  - 18 / 9 / 2005م

مقالات ذات علاقة

 

اقامة الشريعة بالاختيار

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

التحدي الذي يواجه الاخوان المسلمين

توفيق السيف في مقابلة تلفزيونية حول الربيع العربي وصعود التيار الاسلامي

جدل السياسة من الشعارات الى البرامج

حاكمية الاسـلام … تحــولات المفـهــوم

الحد الفاصل بين الاسلام و الحركة

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية

 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

الحركة الاسلامية: الصعــود السـر يـع و الا سئـلة الكبرى

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟

الديمقراطية في بلد مسلم

الديمقراطية والاسلام السياسي

سلع سريعة الفساد

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة

مصر ما زالت متدينة لكنها خائفة من التيار الديني

مكانة العامة في التفكير السياسي الديني: نقد الرؤية الفقهية التقليدية للسلطة والاجتماع السياسي

ملاحظات هامشية: مناقشة لفكرة الحداثة الدينية

من الحلم الى السياسة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

31/07/2005

العدالة كوصف للنظام السياسي


بكلمة موجزة فإن ما يميز النظام الاجتماعي العادل هو التزامه بالتوزيع المتوازن للفرص والامكانات المتاحة في المجال العام بين جميع المواطنين. وعلى العكس من ذلك ، فإن النظام الظالم هو ذلك الذي يسمح بتسخير موارد البلاد العامة لفريق محدد من المواطنين يستأثرون بها دون سواهم. 

رغم بساطة هذا المفهوم الا انه استهلك جهودا طائلة من الباحثين في محاولة الاجابة عن سؤال: ما دام العدل ممكنا وبسيطا.. فلماذا لا يقوم به جميع الناس؟.

إن أسهل الاجوبة هو الجواب الاخلاقي الذي يلقي بالمسؤولية على شريحة من المجتمع. فكأنه يقول ان مشكلة العدل هي مشكلة شخصية ، ولو ان من بيدهم المال او القرار كانوا ملتزمين بمكارم الاخلاق لاصبح العدل سيرة طبيعية. لكن هذا الجواب لا يقدم اي تفسير ، لسبب بسيط ، وهو ان ما نُطلق عليه مكارم الاخلاق ليس مفهوما محددا متفقا عليه بين جميع الناس. الاخلاق - في معناها المثالي - تجارب فردية ويستحيل ان تتحول الى سلوك عام. أما في معناها النسبي فهي مجرد سلوكيات اعتيادية يقوم بها الناس انطلاقا من خلفياتهم الذهنية وقناعاتهم وتجاربهم الحياتية.

ان ابسط تعريف للنظام الاجتماعي "الذي يشمل الدولة والمجتمع" هو اعتباره وسيلة لتوزيع الموارد العامة. وتشمل هذه الموارد القيم المادية والمعنوية المملوكة لجميع افراد المجتمع بالاصالة

 وتشمل هذه الموارد القيم المادية والمعنوية المملوكة لجميع افراد المجتمع بالاصالة. القيم المادية هي المال العام والمناصب العامة اما القيم المعنوية فهي الحريات والحقوق التي يستطيع الافراد تطويرها بمبادراتهم الخاصة الى قيم مادية. وقد اطلق بعض الباحثين على مجموع هذه القيم المادية والمعنوية اسم السلع السياسية ، مقارنة لها بالسلع التجارية التي تتعامل فيها المؤسسات التجارية. ضمن هذا التعريف ، فان النظام الاجتماعي العادل هو ذلك النظام الذي يوزع السلع السياسية بصورة متوازنة بين جميع اطرافه.

تميل الليبرالية الكلاسيكية الى اعتبار اقتصاد السوق اطارا مثاليا لضمان التوزيع العادل. وتقوم هذه الفرضية على اعتبار الكفاية المالية وسيلة مثلى لضمان الحقوق والحريات ، فكأنها تفترض ان القيم المادية والمعنوية كلتيهما من نوع السلع القابل للتبادل: من يملك احداهما فهو قادر على شراء الآخر او استبداله بالآخر. 
لكن اغلب المفكرين الذين اهتموا بالتنمية السياسية في المجتمعات النامية يميلون الى الفصل بين النوعين. وسبب هذا الاتجاه هو اعتقادهم بان الدولة في العالم الثالث لا زالت مستقلة عن المجتمع الى حد كبير ، وهي - بسبب هذا الاستقلال - تسيطر على الجزء الاعظم من الموارد العامة وتتحكم في توزيعها.

بكلمة أخرى فان العدالة الاجتماعية لا تتحقق من خلال اعلان سياسي يمتدحه الصحفيون ، ولا من خلال اتصاف بعض الناس بمكارم الاخلاق ، بل من خلال اصلاحات هيكلية تعيد توجيه السياسات والموارد بما يضمن حصول اكبر عدد من اعضاء النظام الاجتماعي على اكبر عدد ممكن من الفوائد التي يفترض انها متاحة للجميع. وفي ظني ان كل مجتمع من المجتمعات لديه قابلية كبيرة للمساهمة في تحقيق العدالة اذا اتيحت له الفرصة للمساهمة في هذا السبيل ، ولهذا ايضا فان توسيع المشاركة السياسية وازالة القيود المفروضة على الحريات العامة ، يمكن ان ترفد المسعى الحكومي بقوة المجتمع وهي قوة بناءة هائلة اذا جرى توجيهها وتنظيمها وحمايتها بقوة القانون.

ولهذا فهم يدعون الى ان تتحمل الدولة المسؤولية الرئيسية في تحقيق العدالة الاجتماعية ، ويتخذ هذا ثلاثة خطوط عمل:

 الاول: هو التوزيع المتوازن للموارد المالية على مختلف انحاء البلاد من خلال الاستثمار في التنمية والخدمات العامة.
الثاني: ضمان حد معقول من الحريات العامة للجميع من دون تمييز لتمكينهم من تطوير ما يحصلون عليه من قيم الى قيم أخرى.
الثالث: ضمان التمثيل المتوازن لجميع شرائح المجتمع في الادارة العامة. ويتحقق هذا بالحيلولة دون استئثار شريحة محددة بالوظائف الكبرى ، لا سيما تلك التي تعطي اصحابها امتيازات سياسية او اجتماعية.
- « صحيفة عكاظ » - 31 / 7 / 2005م 

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...