15/01/2005

الانتخابات البلدية باعتبارها تدريباً على السياسة


الذين يحلمون بأن تؤدي الانتخابات البلدية الى تغيير فوري في الحياة السياسية واهمون، والذين يرون انها بلا فائدة واهمون ايضا. المجالس البلدية التي ستسفر عنها تلك الانتخابات ليست معنية بالامور السياسية بالمعنى الفني. ولهذا فلا ينبغي تقييمها من هذه الزاوية. من الافضل التفكير فيها باعتبارها خطوة في طريق, وانها اختبار لقدرة النخبة السياسية والنخب التي تتمتع بشيء من المكانة والنفوذ في المجتمع على التعامل مع نتائجها وانعكاساتها على هيكلية العلاقات الاجتماعية. منذ عقد من الزمن تقريبا تبنى برنامج الامم المتحدة للتنمية البشرية مفهوما معدلا للتنمية السياسية يركز على ان مهمة الحكومات هي ايجاد البيئة المساعدة للتطور الديمقراطي. فكرة البيئة المساعدة تبلورت بعد دراسات كثيرة لتجارب التنمية السياسية في المجتمعات النامية والاسباب المحتملة لتعثر او انعدام الحراك النشط باتجاه الديمقراطية. قدمت تلك الدراسات مفهوما جديدا يربط بين التنمية المستديمة وبين قابلية المجتمع المحلي للتعامل الايجابي مع انعكاساتها، ولهذا ايضا جرى استبعاد المفهوم القديم الذي يقلل من اهمية الدور الذي تلعبه الثقافة المحلية في تاسيس او تطوير المنظومات القيمية والعملية الضرورية للتحول الديمقراطي. على ضوء الفهم الجديد فان الحكومات يجب ان تتخلى عن نمط الادارة المركزية وان تحول ما امكن من صلاحياتها وسلطاتها الى الادارات المحلية التي تمثل الاهالي بشكل مباشر، حيث تمثل المجالس البلدية، وفي مستوى اعلى مجالس الحكم المحلي المنتخبة، الصيغة المثلى لتحقيق هذه الفكرة. ضمن هذا الاطار ينظر الى الانتخابات المحلية باعتبارها وسيلة لتدريب المجتمع على الحياة السياسية الحديثة وكقناة لتطوير نخبة جديدة يؤدي دخولها في هذا الميدان الى توسيع تدريجي لدائرة اصحاب القرار في البلد.
معارضو التطور الديمقراطي في أي من مجتمعات العالم النامي يطرحون الكثير من الحجج، من ابرزها تمسك المجتمع بالمنظومات التقليدية كمرجع في تقرير خياراته. وفي مثل هذا الحال فان الديمقراطية لن تكون تعبيرا عن انتقال الى الحداثة بل اعادة انتاج للمرحلة التقليدية في المضمون ولو تغير الشكل والاطار الخارجي. ثمة حجة تشكك في تطابق الديمقراطية مع تعاليم الدين الحنيف، وثالثة تخشى من تنامي دور الطبقات الجديدة، ولا سيما الشباب والطبقة الوسطى، وما يتركه ذلك من تاثير على منظومات الضبط الاجتماعي. هذه الاحتجاجات قد تكون صحيحة وقد تكون مجرد اوهام، لكن ليس في الامكان اختبار مصداقيتها الا من خلال التجربة الفعلية.
لكي تكون الانتخابات البلدية خطوة صحيحة في الطريق الى ايجاد البيئة المساعدة للنمو السياسي والاجتماعي، فمن الضروري ان يكون التمهيد لها ثم اجراؤها مثالا على الروحية الجديدة التي نريد سيادتها بعد هذه الانتخابات. اذا جرت العملية على نحو روتيني يفتقر الى الحماسة, ويشارك فيها عدد قليل من الناس فإنها ستكون شهادة على فشل هذا المسار، في هذا الوقت على الاقل. والحقيقة ان ثمة دواعي جدية للقلق من هذا الاحتمال ففي وقت سابق شكا عدد من الكتّاب من ان الاقبال على التسجيل في قوائم الانتخاب كان ضعيفاً كما حدث في الرياض مثلا, وبرره أحدهم بأن المجتمع لا يريد المشاركة، وهذا اغرب دليل يمكن ان يسوقه كاتب. وفي ظني ان الادارات المسؤولة عن هذه العملية بحاجة الى التوقف جديا عند هذه الظاهرة. بالمقارنة بين المدن التي سجلت نسب اقبال اعلى وتلك التي تدنت فيها هذه النسب, كان الفارق ناتجا عن حجم الجهد الأهلي الذي بُذل للتعريف بأهمية الانتخابات لكي نعقد انتخابات تعزز شرعية النظام الاجتماعي وتمتص الاشكالات او تعالجها، فاننا بحاجة الى استنهاض كافة مكونات المجتمع من الشباب والشخصيات العامة والموجهين وذوي النفوذ، بل وحتى طلاب المدارس كي يتفهموا طبيعة هذا التحول ويشاركوا في توضيحه لبقية الناس. نحن بحاجة الى تشجيع الناس على النقاش الجماعي الحر, المنظم وغير المنظم, حول هذه الانتخابات. يجب ان نتعامل بمرونة مع من يُعارضها أو يُشكك في فوائدها لان النقاش الحر هو ما يجعل الانتخابات جدية ومهمة للجميع. ليس من الصحيح ان ندعو الناس الى المشاركة في انتخابات حرة ولا نُشجّع على عقد الاجتماعات التي تستهدف مناقشة هذه الانتخابات.

عكاظ 15-1-2005

03/01/2005

الازمان الفاسدة والناس الفاسدون

في الاسابيع الماضية انتقد عدد من الكتاب توسع بعض اهل الفقه في اصدار فتاوى التحريم ، ووجدوا انهم لا يستندون الى أدلة متينة بل الى اعادة تفسير لتلك الادلة او اغراق في السماح بتسلسل الحكم الى موضوعات تتجاوز – واحيانا تختلف ذاتيا وعلائقيا – عن موضوع الحكم الاول . وقد وجدت ان كثيرا من تلك الفتاوى تستند الى قاعدة ثانوية من القواعد المعمول بها في اصول الفقه هي قاعدة "سد الذرائع" . والمقصود بسد الذرائع هو منع الافعال التي يظن ان الاخذ بها مؤد في الغالب الى الفساد حتى لو لم يكن الفعل بذاته ممنوعا في الشريعة . وعلى هذا الاساس صدرت الفتوى في سياقة المرأة للسيارة وكثير من الفتاوى المماثلة.
في قديم الايام كان خطيب المنبر يعلمنا قولا من المأثورات "اذا حسن الزمان فظن بالناس خيرا واذا فسد الزمان فظن بهم شرا" وكانت الاشارة الى ان الزمان يتجه الى الفساد . وكبر الولد الصغير وتحولت محفوظاته الى اسئلة: متى يحسن الزمان ومتى يفسد؟ ، وما هي حدود الفساد وما هي حدود الظن؟. حين شب الولد ودرس اصول الفقه ، تعلم ان من القواعد الراسخة في منهج الاجتهاد هي قاعدة "بناء العقلاء" ، وهو ما يساوي في لغة اليوم الرجوع الى العرف العام باعتباره توافقا ضمنيا بين العقلاء ، وقاعدة "حمل عمل المسلم على الصحة" وهي تساوي اعتبار قصد الاحسان في عمل الغير حتى لو لم تعرف دوافعه . ثم تقادمت الايام فتعلم الولد التفريق بين الصور الذهنية عن الاشياء والحقيقة الواقعية لتلك الاشياء ، وفي التطبيق وجد ان الصورة الذهنية لعامة الناس في الادب المدرسي هي اعادة انتاج للفكر اليوناني القديم.

طبقا لراي افلاطون فان الانسان لو ترك وشانه لكان اميل الى الفساد منه الى الصلاح ، وان اجتماع الناس بذاته مولد للفساد ، ولهذا فانه نظر الى السلطة باعتبارها اداة ردع للفساد في المقام الاول . وقد تأثر بهذا الاتجاه معظم العلماء المؤسسين للتراث الاسلامي الذين حفظ الزمان نتاجاتهم ، ولا سيما علماء القرن العاشر الميلادي ، وتاثر بها الطوسي والغزالي والماوردي وابن سينا وغيرهم . وانتقل منهم الينا عبر قراء التراث المعاصرين. والحقيقة انه قد اثر ايضا على مساحة واسعة من الفكر الاوربي فانتج ما يعرف اليوم بالتيار المحافظ الذي تجده في السياسة والفلسفة والسوق وفي كل مجال.
من ابرز سمات التيار المحافظ السياسي هو تعظيمه من شأن النخبة وتهوينه من شأن عامة الناس وتركيزه على فكرة الردع باعتبارها مضمونا بارزا للسلطة . فكرة الحاكم المطلق التي دعا اليها المفكر المعروف توماس هوبز هي نتاج للوهم الانثروبولوجي الذي اسماه بمجتمع الحالة الطبيعية الذي يتقاتل فيه الافراد على المصالح والرغبات حتى يصل الى حالة الحرب الاهلية بين الافراد. الصورة التي يقدمها هوبز لمجتمع الانسان ، هي ذاتها التي عول عليها افلاطون ومن تاثر به .
التساهل في التحريم والميل الى اساليب الردع قد يكون ثمرة لتلك الخلفية الثقافية التي تنظر الى الناس كمادة للفساد ، ولا سيما في الازمان الفاسدة . والمشكلة انه لا توجد اي وسيلة معيارية لقياس ما يوصف بالفساد او الصلاح ، كما ان السائرين على منهج التجريم لا يظهرون عناية كبيرة بالقواعد الاصولية الراسخة ، مثل "حمل عمل المسلم على الصحة" و"بناء العقلاء" وما يماثلها من الامارات المعتبرة من قبيل الرجوع الى العرف العام في تقرير المصالح والمفاسد. وفي ظني ان المدارس الدينية هي الان اكثر ميلا الى اعتبار الزمان الحاضر زمان فساد ، ويرجح عندي ان هذا التصور هو احد انعكاسات ما يسميه الاجتماعيون المعاصرون بالصدمة الثفافية التي نجمت عن الانفتاح على المدنية الغربية ، وما اثمر عنه ذلك من تفكيك واسع لبنى المجتمع التقليدي ، الثقافية والاقتصادية والعلائقية ، الامر الذي ادى الى انهيار منظومات القيم ومعايير السلوك المتعارفة في المجتمع القديم او انكماشها الى نطاقات ضيقة تنكمش بالتدريج.
ضمن هذا الاطار الموسع نسبيا ، فاننا نفهم الميل الى تجريم العامة والتساهل في تحريم الافعال ، باعتباره نوعا من الرفض الذهني للتغيير القسري في الحياة الاجتماعية . وهو رفض يقف عند حدود التمرد على هذا الواقع لكنه لا يقدم بديلا افضل منه ، ولهذا فانه سرعان ما يتلاشى ويصبح مجرد خبر . هذا هو المصير  الذي آلت اليه محاولات مماثلة في اوقات سابقة ، مثل تحريم تعليم البنات ، وتحريم بعض العلوم مثل الجغرافيا واللغات الاجنبية ، وتحريم العمل في بعض القطاعات مثل البنوك والجمارك ، وتحريم السفر الى بلاد الاجانب ، ووو.. الخ

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...