11/12/2004

اين ينجح الاسلاميون واين يفشلون



المشكلة التي تواجه التيار الاسلامي في العراق هي ذات المشكلة التي تواجه هذا التيار في جميع دول العالم العربي وبعض الدول الاسلامية الاخرى. اي مشكلة الانتقال من شعار "الاسلام هو الحل" الى بيان طبيعة هذا الحل وتفصيلاته .

وفي ظني ان على الاسلاميين العرب دراسة التجربة السياسية لنظرائهم في تركيا وماليزيا . ففي هذين البلدين لم يتردد الاسلاميون في القبول بالنظام السياسي العلماني ما دام يتيح فرصا متساوية للجميع ، الاسلاميين وغيرهم . وفي التجربة التركية بالذات ، فان المجال المتاح للاسلاميين كان ضيقا الى ابعد الحدود لكنهم واصلوا مجاهدة ذاتهم ومجاهدة الغير حتى استطاعوا توسيع ذلك المجال وتحقق لهم ما هو متاح لغيرهم من فرص متساوية .

 في كلا التجربتين ، فقد كان هناك من يدعي ان حزبا اسلاميا لا يستطيع قيادة دولة ذات دستور علماني ، لأن مقتضى ذلك هو التعهد بحماية هذا الدستور والدفاع عنه ، وهو يقتضى ايضا القبول – على مستوى الفعل - بالكثير من السياسات وقواعد العمل المخالفة للشريعة .

وفي المقابل كان هناك من يدعي ان ما لا يدرك كله لا يترك اقله ، وان الاسلاميين لا يستطيعون ان ينصبوا انفسهم بديلا عن الشعب كله ، بل وحتى لو استطاعوا فليس ذلك من حقهم فالدولة هي دولة الشعب اولا واخيرا وليست دولة الجماعة الاسلامية .  بالنسبة لماليزيا مثلا ، فان المسلمين يمثلون اقل من ثلثي السكان وكان التفكير في اقامة نظام اسلامي مدعاة لاستثارة المخاوف العرقية والدينية وربما تفكيك البلاد . لهذا فان المجموعات الاسلامية الرئيسية  ركزت بدلا من ذلك على البرامج التي يسعى اليها جميع الناس ، فهي اوضحت بشكل لا يقبل اللبس انها مع الحريات العامة والتزمت بحماية التعددية الدينية والثقافية واللامركزية في الحكم . وفضلا عن ذلك فقد قدمت برنامجا لتحفيز الاقتصاد الوطني يكفل تحويل البلاد الى دولة صناعية وتوفير مصادر عيش كريم للجميع .

بين بداية السبعينات ونهاية التسعينات الميلادية تحولت ماليزيا فعليا من الاعتماد على صادرات المواد الخام الى اقتصاد متعدد المصادر يعتمد بشكل رئيسي على تصدير المواد المصنعة ولا سيما الالكترونيات . وكان هذا التحول ثمرة لبرنامج طموح قام على تطوير هيكل التعليم والتدريب وتشجيع الاستثمار في قطاع الصناعة . المظهر العام لماليزيا اليوم يعطي صورة عن دولة متقدمة وغنية ذات شعب متدين . لكن في الوقت نفسه لا يتحدث احد عن فرض الدين بالقوة ولا عن تقييد الحريات العقيدية والثقافية ، ولهذا فان الناس لا يرون اي تناقض بين التزامهم باحكام الدين وتمتعهم بحرية كاملة في العمل والسلوك والمظهر والعلاقة مع الغير. بكلمة اخرى فهم يطبقون دينا اختاروه بمحض ارادتهم ولم يفرضه عليهم احد ، ولذلك فهو دين منسجم ومتناغم مع كل ابعد الحياة الاخرى.

التجربة التركية هي الاخرى جديرة بالتامل . فقد وصل الاسلاميون الى السلطة في الوقت الذي كان اقتصاد البلاد على وشك الانهيار، بل ان القطاع المالي كان قد انهار فعلا . في تلك اللحظة لم يضع الحكام الجدد وقتا في الخطب حول مكارم الاخلاق او فضل الالتزام بتعاليم الدين . اعلى القيم الدينية هو توفير فرص العيش الكريم لعامة الناس ، واثبات ان الاسلام اذا اتى فانه ياتي لا يضيق على الناس ما توسعوا فيه . لا زال الوقت مبكرا للحكم على التجربة التركية ، لكن من الواضح حتى الان انها تتقدم بثبات ، فقد تجاوزت البلاد حدود الخطر على المستوى الاقتصادي ، كما ان مساحة الحريات العامة قد اتسعت في ظل الاسلاميين بصورة لم يسبق لها مثيل . التعدد الثقافي والتحول الديمقراطي يتعزز هو الاخر يوما بعد يوم .

ما يحتاجه الاسلاميون العرب ، في ظني ، هو التامل في كلا التجربتين . الاسلاميون العراقيون بشكل خاص بحاجة الى التقليل من انشغالهم المكثف بالخطب والكلام الصحافي والتعبوي ، والتفكر مليا فيما يستطيعون تقديمه للعراقيين ، كل العراقيين ، من برنامج سياسي يعيد تشكيل النظام ، فلربما كان العراق فرصة لاقامة ماليزيا الشرق الاوسط. لا يهم الناس ان يحكمهم رجل يسبق اسمه لقب الدكتور او المهندس او الشيخ ، ولا يهمهم ان يكون الحاكم رجلا او امرأة ، ما يهم في نهاية المطاف ، هو البرنامج الذي سيقوم الحاكم بتطبيقه ، البرنامج الذي ياتي بالحرية والرفاه للجميع ، او ياتي بالكبت والفقر للجميع.

( السبت - 29/10/1425هـ ) الموافق  11 / ديسمبر/ 2004  - العدد  1273

04/12/2004

حدود السياسي وحدود الايديولوجي ، تشابك الخارج والداخل


 في الجدل حول الملف النووي الايراني تركز اهتمام الاعلاميين على المفاوضات الطويلة بين ايران والوكالة الدولية للطاقة النووية  والترويكا الاوربية . هذا المقال لا يتناول تلك المفاوضات على وجه الخصوص ، بل يسعى لاستخلاص العبر القابلة للتعميم الى حالات سياسية اخرى.

واشير هنا الى ثلاث ملاحظات على وجه الخصوص: انقل الاولى عن الاستاذ عبد الرحمن الراشد الذي اشار الى ثلاثة نماذج من السلوك السياسي في هذا النوع من القضايا: نموذج العراق/صدام حسين الذي رفض التفاوض حول برنامج اسلحة الدمار الشامل فانتهى الى تدمير نظامه السياسي كليا ، والنموذج الليبي الذي استسلم دون مفاوضات فخسر ما بناه ولم يربح شيئا ، والنموذج الايراني الذي تمسك بالمفاوضات كسبيل وحيد لحل الخلاف بين ايران والدول الغربية. 

اما الملاحظة الثانية فانقلها عن الاكاديمي الايراني صادق زيبا كلام الذي قارن بين المفاوضات الحالية حول الملف النووي ومفاوضات ايران مع الولايات المتحدة حول ملف الرهائن ، التي انتهت الى اتفاقية الجزائر عام 1982 . ويشير زيبا كلام الى مفارقة جديرة بالاهتمام ، فهو يقول ان المفاوضات الاولى جرت في سرية كاملة ولم يعرف الايرانيون مجرياتها حتى اليوم ، بخلاف المفاوضات حول الملف النووي التي ترافقت مع نقاش واسع في الصحافة الايرانية ،  وكانت محاور الخلاف ومطالبات الجانبين ، الايراني والدولي ، وهامش المناورة المتاح لكل منهما معروفة تماما.

ويرى زيبا كلام ان ايران قد خسرت في مفاوضات الجزائر ، بينما ربحت في المفاوضات النووية ، وهو يرجع السبب الى جو الانفتاح النسبي السائد في البلاد. يقول زيبا كلام ان المفاوضين الاوربيين كانوا واعين لحقيقة ان الحكومة الايرانية لن تستطيع تمرير اي اتفاق تحت الضغط ، لان الشعب ببساطة كان عارفا بما يجري وان اي اتفاق لن يصمد اذا واجه رفضا شعبيا واسعا . هذه النقطة التي خدمت الايرانيين هذه المرة لم تكن موجودة في 1982 ، لان المفاوض الامريكي كان سيقول لنظيره الايراني ببساطة: "حسنا ، لا تعلنوا عن تفاصيل الاتفاق ولن يغضب احد" .

بكلمة اخرى : ان طرح القضايا العامة ، بما فيها تلك الشديدة الحساسية للنقاش العلني العام يعزز موقف البلاد في مفاوضاتها مع الاجانب ، لان المفاوض الاجنبي سيعرف حينئذ ان نظيره لا يستطيع الموافقة على اي عرض . من ناحية اخرى ، فان طرح القضية للنقاش العام سيحمي الحكومة ومفاوضيها من تهمة التفريط في الحقوق الوطنية او الرضوخ لضغط الاجانب ، ان اطلاع الشعب على اطراف القضية منذ البداية سيسلط الضوء على الابعاد المتعددة لها ، مما يجعل التفكير الشعبي فيها اكثر عقلانية .

الملاحظة الثالثة : طبقا لهذا الاتفاق فقد قبلت ايران رسميا وعلنيا بالتخلي عن اي جهد يمكن ان يؤدي الى تسخير برنامجها النووي للاستخدامات العسكرية . وكانت في العادة تنكر هذا الجانب ، لكن الانطباع العام في الشارع الايراني وفي العالم ايضا ، ان الطريق الذي يتخذه المشروع النووي سيؤدي في نهاية المطاف الى تمكين ايران من استخدامه في المجال العسكري. وجاء هذا التراجع الايراني على عكس ما اشتهاه التيار المحافظ ، ولا سيما العسكريون الحاليون او السابقون ، مثل محسن رضائي القائد السابق لحرس الثورة والمرشح الحالي للانتخابات الرئاسية القادمة ، الذي وصف الاتفاق بالخديعة .

 في النهاية فقد اقر الايرانيون بانه ثمة فارق بين ما يريد الانسان وما يستطيع الحصول عليه . وهذا هو الفارق بين الاعلانات الايديولوجية وبين الممارسة السياسية . حينما يعتلي السياسي منبر الخطابه وحين يصدر التصريحات ، فانه يستطيع قول ما يشاء لان احدا لن يعارضه ، لكن حين يفاوض ، ففي جعبة الطرف المقابل رد على كل كلمة وموقف احتياطي  تجاه كل موقف ، وهكذا تجري السياسة في جانبها الواقعي. هذه القضية بشكل عام تكشف عن حقيقة تلاشي الحدود بين السياسة الداخلية والخارجية ، اي عن انحدار مبدا السيادة في ميدان التطبيق ، وتحول العامل الخارجي الى جزء من معادلات الداخل والعكس.
اوائل ديسمبر 2004

حكاية سعودية.. تحولات اياد مدني

  عدت في الايام الماضية الى كتاب الاستاذ اياد مدني "حكاية سعودية" الذي نشر العام الماضي باللغة الانكليزية. وهو من نوع الكتب التي ...