11/09/2004

مؤشر السوق ومؤشر القلق

 قد لا يختلف اثنان على ان القلق اصبح ظاهرة ملموسة في مجتمعنا خلال السنوات الاخيرة . الاوضاع الاقتصادية والازمات في المحيط الاقليمي والشعور المتفاقم بالغموض حيال المستقبل ، كلها تمثل مصادر لهذا القلق الذي قد ترتفع مؤشراته في ظروف الازمات كما تتراجع في ظروف الرخاء . من المؤسف انني عاجز عن تقديم ارقام محددة رغم محاولتي الحصول على اية مؤشرات جديرة بالثقة . لكن اذا اخذنا صور التعبير المختلفة واحاديث الناس عن انفسهم كمؤشرات اجمالية ، اضافة الى المقارنة مع الدراسات الميدانية في مجتمعات مماثلة ، فانه يمكن القول اننا بحاجة الى اخذ المسألة بقدر كبير من الاهتمام قبل ان تتحول الى علة عسيرة العلاج .
قبل عدة اعوام شدد د. الببلاوي في دراسة له على فاعلية الحراك الاقتصادي في امتصاص الميل للمنازعة في نفوس الافراد ، واستخدم المؤشرات المسجلة عن ثورة الشباب في فرنسا (1968) لوضع مقارنة بين العوامل المختلفة التي تقوي الميل للمنازعة او تضعفه . لكن منذ ذلك الوقت فان البحث عن عوامل التذمر الفردي والاجتماعي مال الى التركيز على مسالة الهوية باعتبارها صلب الموضوع . على المستوى الفلسفي فان المشكلة نفسها تعالج كطرف من قلق الوجود ، او افتقاد الانسان للقدرة على تحديد مكانه او السيطرة على مصيره في هذا المحيط الكوني الهائل والمذهل.

وجود القلق في مجتمعنا هو امر طبيعي تماما اذ يستحيل ان يخلو منه اي مجتمع على الاطلاق . الذين تخلصوا من القلق هم اولئك الذين انقطعت صلتهم بالعالم الذي حولهم وما فيه من الناس والاشياء. ايا كان تعريفنا لمشكلة القلق او جذورها ، فان ما يهمنا هو فهم المشكل ثم احتواؤه ضمن الحدود الطبيعية بحيث يستطيع الفرد ضبط انعكاساته بنفسه او بمساعدة الاليات الاجتماعية المتوفرة. تحول القلق الى ميل للتمرد والمنازعة هو الجانب الخطر في المشكلة. وتزيد احتمالات هذا التحول في ظروف اختلال التوازن على المستوى الاجتماعي او السياسي ضمن المحيط الذي يتفاعل معه الفرد.

في مثل هذه الاحوال فان واضعي السياسات واصحاب القرار عموما بحاجة الى الاخذ بعين الاعتبار الانعكاسات المحتملة لقراراتهم على نفوس الناس ، بكلمة اخرى عليهم ان يدرسوا ما اذا كان تطبيق تلك القرارات سيثير الارتياح في نفوس الشريحة الاوسع من الجمهور ام انه سيثير ضيقهم .  الضيق هو العامل الرئيس في تحويل القلق الطبيعي الى ميل للمنازعة في نفوس الافراد . نحن نسمع في نهاية كل شهر عن مؤشر ثقة المستهلكين في اسواق الدول الصناعية كدلالة على اتجاهات الاقتصاد . وثمة مؤشرات مماثلة للرضى تعكس في العادة انطباع الجمهور عن الوضع السياسي والاجتماعي . هذه المؤشرات التي توضع على اسس علمية تساعد كثيرا من تحسين القدرة على اتخاذ القرار ، بنفس الدرجة التي يساعدنا بها مؤشر سوق الاسهم في اتخاذ قرارات الاستثمار.
الامر المؤكد ان كفاءة القرار في المجال العام تعتمد جوهريا على فلسفة العمل التي يتبعها اصحاب القرار. حينما يكون رضى الجمهور هدفا محوريا فان الانعكاسات المحتملة للقرار على نفوس الناس سوف تكون عاملا منظورا في اتخاذ القرارات ، والعكس بالعكس. وأظن اننا في هذه الظروف بحاجة الى التخلص من تلك السياسات والاجراءات التنفيذية المثيرة للضيق والتي لا يرغب فيها الا اقلية من الناس . ثمة قائمة طويلة جدا من الاجراءات التي يمكن تصنيفها ضمن هذا الاطار .

شكوى الناس من الروتين ومن المعاملات المعقدة ، ومن سوء معاملة الموظفين ، هي في حقيقتها احتجاج على هذا النوع من الاجراءات التي وضعت لغرض محدد لكنها تحولت مع مرور الزمن الى ما يشبه العقوبة الجماعية . واظن ان المسؤولين في الدوائر الرسمية بحاجة الى استعرض كافة القرارات المتخذة والاجراءات التنفيذية التي ترجع اليها ومساءلة انفسهم : ما هي ضرورة كل من هذه الاجراءات؟ . كم من الناس سينتفع من ورائها وكم سيتضرر؟ . كم من الناس سيرتاح وكم منهم سيضيق ؟. مثل هذه المراجعة ضرورية كي لا يتحول القرار الى مولد للتذمر بدل ان يكون حلالا للمشكلات.

( السبت - 26/7/1425هـ ) الموافق  11 / سبتمبر/ 2004 



28/08/2004

التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة


يقال عادة ان التنمية السياسية ليست وصفة جاهزة  قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان . منذ اواخر الستينات الميلادية اصبحت المقومات المحلية للتطور السياسي – او الخصوصيات كما تسمى احيانا - الموضوع المحوري للابحاث حول امكانات النمو وعوائقه. الخصوصية قد تكون وصفا ايجابيا ، بمعنى وجود فرص افضل لتنمية سياسية واسعة ، وقد تكون وصفا سلبيا بمعنى انعدام او عسر فرص الحراك السياسي او الاقتصادي او ضيق الامكانات المتاحة للنمو.
رغم كثرة الدراسات حول التنمية في العالم الثالث ، فان الاهمية الكبرى تعطى في العادة للوصف الذي يقدمه مفكرو كل بلد عن خصوصيات مجتمعهم ومدى قربها او بعدها عن معايير التنمية المتعارفة عالميا . في حقيقة الامر فان مفكري كل بلد مطالبون باقتراح النموذج التنموي الاكثر تلاؤما مع ظروف مجتمعهم الاقتصادية والثقافية وطرحه للنقاش. وفي الوقت الراهن فان علم التنمية يتمثل في مجموع الابحاث المحلية والمناقشات المتعلقة بها ، ومقارناتها مع المعايير العامة لفكرة التنمية الشاملة .
نموذج التنمية هو تركيب منظومي من المفاهيم الاساسية ، الاهداف المرحلية ، الطرق وادوات العمل التي تصمم على ضوء الشروط الخاصة للمجتمع المحلي . انه بكلمة اخرى النموذج المتعارف في العالم مع بعض التعديلات ، من اضافة او حذف.  من بين النماذج التي حققت نجاحا ملحوظا ضمن شروط العالم الثالث ، يعتبر النموذج الصيني متميزا ، لا سيما في ظل تغير اسواق العمل الدولية خلال العقد المنصرم.
يقوم هذا النموذج على اعتبار الاقتصاد محورا اساسيا – بل وحيدا الى حد كبير – للنمو ، ولهذا فهو يعتبر قاصرا عن المقاييس العالمية المتعلقة بالتنمية الشاملة . لكن الصين لفتت الانظار بقدرتها على تصميم منظومة من المحفزات للنمو جعلتها الهدف المفضل للاستثمارات الدولية . والحقيقة ان عددا هائلا من الشركات الكبرى في الدول الصناعية قد نقلت جانبا مهما من اعمالها الى الصين ، الامر الذي وفر لها فرصة لنمو سنوي ثابت في الناتج القومي ، كان هو الاعلى عالميا خلال السنوات الماضية . وخلال العام الجاري كان الحجم الهائل للنمو في هذا البلد سببا في ضغوط قوية على اسواق المواد الانشائية والوقود في العالم كله .
يقوم النموذج الصيني على استبدال الديمقراطية بالحريات الاجتماعية والثقافية . لقد اصبح من البديهي اعتبار الحريات العامة وحاكمية القانون قاعدة اساسية لاي تحرك تنموي . ان الاستثمار طويل الامد غير متوقع في مجتمعات تغيب عنها الحريات وسيادة القانون . والحقيقة ان دولا كثيرة – معظم دول الشرق الاوسط مثلا - قد حاولت اقناع العالم بان هيمنة الدولة يمكن ان تعوض عن سيادة القانون وان الانضباط هو بديل افضل عن الحرية ، وقد نجحت احيانا في استقطاب مستثمرين مهتمين بالميزات النسبية التي تتمتع بها هذه البلدان .
الا ان الاستثمارات الاجنبية منها والمحلية بقيت محدودة جدا بالقياس الى حركة راس المال العالمي . وكشف تقرير نشر العام الماضي ان الصين وحدها استقبلت ما يزيد عن مئة ضعف ما حصلت عليه اقطار الشرق الاوسط مجتمعة من استثمارات . كما ان تقريرا اخر يظهر ان الاموال الخليجية التي استثمرت في اوربا وشرق اسيا زادت خلال العقد الماضي عن تلك التي استثمرت في الخليج نفسه.
لا يفاخر الصينيون بالديمقراطية فهم يفتقرون اليها ، لكنهم يفاخرون بالحريات الاجتماعية والثقافية الواسعة وسيادة القانون التي تعني المساواة بين الجميع في الفرص وامام القانون ، كما تعني الشفافية والتاكيد على المسؤولية والمحاسبة. وتدعي الحكومة الصينية انها قد نجحت بنهاية العام الماضي في توفير التعليم الالزامي لكل الاطفال ، بمعنى انه لم يعد اي طفل في سن الدراسة خارج المدرسة. بالنسبة للمستثمر فان ما يهمه هو ضمان استثماراته على المدى البعيد . هذا الضمان مستحيل في غياب الحريات العامة وسيادة القانون . بالنسبة للحكومة فان الاستثمار الاجنبي يوفر وظائف للملايين من طالبي العمل .
يمثل النموذج الصيني – رغم قصوره في الجانب السياسي - محاولة ناجحة حتى الان في الربط بين حاجة السوق الدولية والميزات النسبية المحلية – اليد العاملة المؤهلة والرخيصة بالدرجة الاولى – والحدود الخاصة بالسياسة . لم يكن هذا الخيار سهلا او دون عوائق ، فقد تطلب تنازلات من النخبة الحاكمة وتركيزا على المواءمة بين عناصره المختلفة .
 عكاظ ( السبت - 12/7/1425هـ ) الموافق  28 / أغسطس/ 2004  - العدد  1168

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...