08/05/2004

غلو .. ام بحث عن هوية

بعيدا عن التداول التعبوي للصحافة المحلية والتلفزيون ، الذي ينسب الحملة الارهابية التي تتعرض لها بلادنا الى "الغلو في الدين" ، فان النظر من زوايا اخرى ، قد يكشف ان الغلو ليس العلة التامة لهذه الحملة الاثيمة. نحن بحاجة الى تحليل العنف كظاهرة اجتماعية وليس الاكتفاء بتحديد المسؤولية.

التحليل هو الوسيلة الوحيدة لتحويل الواقعة من لغز الى معادلة قابلة للفحص.  الخطوة الاولى لفهم الظاهرة الاجتماعية ، هي تفكيكها ودراسة صور التفاعل بين اجزائها من جهة ، وبين كل منها والحراك الاجتماعي العام من جهة اخرى. مثل هذه الدراسة هي التي تخبرنا عن جذور الظاهرة في بنية المجتمع الثقافية والعلائقية. وهي التي تكشف ان كان الحدث مجرد دمل تفجر وانتهى امره ، او هو بداية لحراك اجتماعي اوسع. واخيرا فهي السبيل الوحيد لمعرفة اليات استمرار او افول الظاهرة المدروسة.

يلعب الدين كما هو معروف دورا ثنائيا في اضفاء القيمة على الفعل الانساني ، فهو يحتضن بعضها ويصنفها ضمن "المعروف" ويرفض الاخرى التي تصنف منكرا. تنزيل القيمة النظرية على الواقعة المحددة هو فعل الانسان. ولهذا تجد الناس يختلفون في تقييم عمل واحد ، فبعضهم يراه معروفا ويراه اخرون منكرا. وتطرح فكرة الغلو في الدين نفس الاشكالية ، فهي تقول – ضمنيا – ان ما رآه الارهابيون معروفا هو منكر في حقيقة الامر او في راي الاكثرية الغالبة.

والسؤال الذي تثيره هذه الفرضية: ما هي الاسباب التي تجعل هؤلاء او غيرهم ، يحملون القيمة النظرية على هذا المحمل دون العكس ؟. بكلمة اخرى لماذا يميل بعض الناس في بعض الأوقات ، الى الاخذ بتفسيرات ضيقة او متشددة او غريبة للنص الديني ، فينزلون القيمة المجردة على محمل خاص ، بينما يميل معظم الناس الى تفسيرات اخرى؟.

الاجابة على هذا السؤال ليست موجودة في القيمة الدينية ذاتها ، بل في عوامل اخرى دفعت الاشخاص المعنيين الى هذا السلوك دون غيره. ذهنية الانسان الفرد هي بمثابة مطبخ ترد اليه انواع من المدخلات بعضها يتلاشى حتى لا يكاد يظهر له اثر في الطبخة ، وبعضها يبقى محافظا على قوامه دون تغيير ، بينما تختلط العناصر الاخرى وتتفاعل فيما بينها لتظهر على صورة جديدة مختلفة عن كل واحد من مكوناتها الاولية. 

الاجابة موجودة في البيئة الاجتماعية التي يتعرف الانسان الفرد من خلالها على نفسه وموقعه من الغير ، اي هويته كفرد. هذه البيئة ليست صنيعة التوجيه الثقافي بل هي محصلة التفاعل الدائم بين مجموعة عوامل بعضها مرتبط بالثقافة وبعضها بعيد عنها. من بين تلك العوامل مثلا موقع البلاد ضمن خطوط الصراع السياسي الاقليمي او الدولي ، ومن بينها مخرجات الحراك الاقتصادي ، السلبية والايجابية.

لكن اهم ما ينبغي دراسته في رايي هو طبيعة الظرف الاجتماعي-الثقافي العام الذي تعيشه البلاد بعد ثلاثة عقود من بداية خطط التنمية. يولد النمو الاقتصادي الكثير من المخرجات الاجتماعية من خلال تغييره لمنظومات القيم وتوازنات القوة السائدة في المجتمع. المجتمع ليس مجموع الافراد بل نظام العلاقات السائد بين افراده والقيم الناظمة للفعل الفردي والجمعي. لقد انهار نظام المجتمع  القديم مع تقدم مشروع التنمية الاقتصادية ، فما هي طبيعة النظام الجديد الذي يفترض ان يحل محله فيلبي حاجة الفرد الى الانتماء او "الهوية"؟ هل نرى نظاما بالفعل ام حشودا من الناس تبحث عن نظام ؟.

السبت - 19/3/1425هـ ) الموافق  8 / مايو/ 2004  - العدد   1056
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/5/8/Art_103299.XML

01/05/2004

الوعد المستحيل


كان وزير العمل د. غازي القصيبي ضيفا ثابتا على الصفحات الاولى في الصحافة المحلية خلال الايام الاخيرة . وهو ما يظهر مدى النفوذ الذي يتمتع به شخص الوزير فضلا عن الاهمية الاستثنائية لمشكلة البطالة التي وعد بعلاجها خلال عام كما ذكر في حديثه لرجال الاعمال الاربعاء الماضي.

والصحافة تتغذى على الكلام كما هو معروف . وفي بلدنا فان مثل كلام القصيبي يوزن بالذهب لانه يتحدث بطلاقة عما سيفعل ، خلافا للطريقة الشائعة عندنا ، اي الكلام العمومي الذي يعد بكل شيء ولا يلزم نفسه بشيء. فالوزير اذن يوفر فرصة للمراقبين لمناقشة سياساته ثم اختبار نتائجها على ضوء ما وعد . وهذه هي الطريقة السليمة للتعامل بين الراي العام والهيئات الرسمية .

المشكلة على اي حال ليست هنا بل في الوعود التي لا يمكن الوفاء بها ، والتي هي بذاتها مشكلة ربما لا تقل حرجا – ضمن مجالها الخاص – عن مشكلة البطالة التي يريد الوزير علاجها . من ذلك مثلا وعد معاليه بان سيتكفل شخصيا بالتوقيع على اصدار التاشيرات وسيمنع اجهزة الوزارة الاخرى من اصدارها دون موافقته . هذا الوعد يغري السامعين بما يشير اليه من شدة اهتمام الوزير باعمال وزارته ، لكنه وعد يستحيل تحقيقه . وحتى لو افترضنا امكانيته ، فانه سيقصم ظهر النظام الاداري للوزارة الوليدة التي يأمل كثيرون ان تكون مثالا يحتذى في تطبيق فنون الادارة الحديثة.

وعد لا يمكن تحقيقه : سوف نجري حسبة بسيطة لبيان ان وعد الوزير بالتوقيع بنفسه على طلبات التاشيرات مستحيل التحقيق. فطبقا لتصريحات معاليه فانه سيخفض عدد التاشيرات الصادرة عن وزارة العمل الى نصف مليون ، وان هذا التخفيض سيتواصل في السنوات اللاحقة . لو افترضنا ان الوزير سينشغل بجزء من هذه المعاملات ، ولنفترض انه سيطلع ويوقع على عشرة الاف معاملة من اصل مجموع النصف مليون طلب الذي يقدم اليه طوال السنة . لدينا هنا احتمالان ، فاما انه سيوقع على الملف المقدم اليه دون فتحه ، وهذا لا يغير شيئا مما اراد تغييره ، فهو هنا سيعمل مثل ماكينة توقيع لا اكثر . او انه سوف يقرأ بعض محتويات الملف ، ولنفترض انه سيصرف في كل ملف عشر دقائق . في هذه الحالة سيحتاج معاليه الى 208 يوم عمل . اذا طرحنا العطلات الاسبوعية والسنوية فان ما يتبقى من سنة العمل المتاحة للوزير يقل عن 200 يوم ، اي ان السنة بكاملها لن تكفي لتوقيع المعاملات فقط ، هذا اذا لم ينشغل الوزير باي عمل اخر سواها .

وهو من ناحية اخرى وعد خاطيء حتى لو امكن تحقيقه : من مباديء الادارة الحديثة تفويض الصلاحيات الى الاجهزة وتفرغ القادة الاداريين للتخطيط الاستراتيجي ومتابعة الخطط الكبرى وتذليل الصعوبات الناشئة عن تداخل عمل الوزارة مع الوزارات او الجهات الاخرى. يفترض ان الوزير او الوكيل هو ارفع الموظفين كفاءة وسلطة في الجهاز . ولهذا توكل اليه اكثر الاعمل اهمية ، اي تلك التي لا يمكن لغيره القيام بها لما تحتاجه من سلطة وكفاءة .

لكي يؤدي تفويض الصلاحيات اغراضه فان الجهاز الاداري يحتاج الى قوانين عمل واضحة واهداف محددة واليات مناسبة للمتابعة وقياس الاداء بالمقارنة مع الاهداف . وفي هذه الحالة فان اي موظف في المراتب الوسطى يمكن ان يتخذ القرار المناسب ، اي يوقع على المعاملة – حسب التعبير الدارج - . وفي المقابل فان من العيوب الكبرى في جهازنا الاداري هو تركيز الصلاحيات في ايدي كبار الاداريين والاستغناء عن القوانين واليات العمل . ولهذا السبب فان كل مراجع يستطيع في حقيقة الامر الحصول على ما يريد من اي وزارة – ضمن نطاق القانون او بالالتفاف عليه - اذا حصل على خيط يوصله الى احد الكبار. ومن هنا ايضا شاعت الواسطة والمحسوبيات .  ان اصدار مئات التاشيرات التي شكا وزير العمل من المتاجرة فيها ليس عمل صغار الموظفين ، فهم اساسا يفتقرون الى مثل هذه الصلاحيات.
الحل اذن ليس في ايكال التوقيع على المعاملات الى الوزير ، لان هذا سيكرس نموذج الهرم المقلوب في الادارة ، او ما يسمونه في الفن : مسرح الممثل الواحد . اي الجهاز الذي يعتمد بصورة مطلقة على رئيسه ، بدل الاعتماد على الوحدة المنظومية للعمل التي تقوم باداء جميع الوظائف سواء حضر الرئيس او كان غائبا .

لا ادري ان كانت الارقام المذكورة اعلاه دقيقة ام لا ، لكن وعد الوزير بالاطلاع شخصيا والتوقيع على كل معاملة ، حتى لو كان يعني بها المعاملات الكبرى ، يثير القلق من اننا لا نزال نعالج مشكلاتنا بالطريقة القديمة ، حتى لو تولى العمل رجل في مثل كفاءة الوزير القصيبي . ليس خفيا ان الجهاز الاداري في بلدنا يعاني من امراض مزمنة ، ربما كان اهمها هيمنة الجانب الشخصي وغياب روح العمل المؤسسي . والاعتقاد السائد ان نسيم الحداثة سيعيد الروح الى هذا الجهاز اذا تولى قياده من يؤمن بالمؤسسة والقانون كاداة لا غنى عنها للتطوير ، ولهذا نامل ان يعيد وزير العمل النظر في وعوده تلك  وان يخبرنا عن شيء يمكن القيام به ، ويحسن القيام به.

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/5/1/Art_100750.XML
( السبت - 12/3/1425هـ ) الموافق  1 / مايو/ 2004  - العدد   1049

مقالات ذات صلة

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...