04/06/1999

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع



وجدت كثيرا من الناس مهتما بالتحقيق الذي نشرته مجلة المعرفة عن التعليم في ايران ، وأظن هذا الاهتمام دليلا على الحاجة إلى عرض تجارب التعليم في الاقطار الاخرى ، لا سيما تلك التي اثبت نظامها نجاحا في تخريج شباب أكفاء ومؤهلين لمواجهة المتطلبات العملية للاقتصاد المحلي .

إضاءات : د. محمد الرشيد ج 1/6 - YouTube
المرحوم د. محمد الرشيد وزير التعليم

ان قراءة هذه المجلة التي تصدرها وزارة المعارف ، يساعد في تكوين انطباع مختلف عن السياسات التعليمية التي تريد الوزارة الوصول اليها ، ويمكن الجزم دون تردد ، بان الاجواء العامة في الوزارة ، قد تغيرت منذ ان حل الدكتور محمد الرشيد وطاقمه فيها ، لكن لا تزال المسافة بعيدة بين واقع التعليم والمستوى المستهدف ، رغم ان مجلة المعرفة وفرت فرصة لا سابق لها للتعبير عن ارادة التغيير ، وفي كثير من الاحيان عن اتجاهات التغيير واغراضه ، وكشفت عن وجود تيار عريض لا يشعر بالرضى عن الأوضاع الراهنة لهذا القطاع المهم ، ولديه الجرأة والاستعداد للمغامرة بحمل أعباء التغيير .

من نافل القول ان تطور المجتمع السعودي مرهون بالدرجة الاولى إلى الاطارات التربوية والتعليمية ، التي يمر بها جميع الشباب قبل دخولهم ميدان الحياة الحقيقي ، فنجاح هؤلاء الناس أو خيبتهم ، مرجوع في المقام الاول إلى ما تلقوه من تعليم ، قبل ان ينضموا إلى سوق العمل ، ثم ان أهليتهم للعمل وحمل الاعباء ، هي مفتاح حركة التطور الاجتماعي .
في مختلف اعداد المجلة ، وفي تصريحات المسؤولين عن قطاع التعليم ، تواجهك انتقادات لطريقة التعليم بالتلقين والتحفيظ ، ودعوات إلى تنشيط الحوار بين عقل الطالب ومادة الدراسة ، كي يحصل الطالب على (العلم) حتى لو قصر عن حفظ (النص) .

 وأظن ان الفرصة مناسبة الآن ـ وقد انتهت السنة الدراسية ـ لاعادة انتاج هذه الافكار على شكل برامج عمل تفصيلية ، فالحقيقة التي لا مناص من ذكرها ان عددا كبيرا من الاداريين والمعلمين ، لا يعرف كيف يقلع عن طريقة التلقين إلى التعليم ، ذلك لانهم درسوا على هذا النسق ، ومارسوا العمل سنوات طويلة ، دون ان يخبرهم أحد بان التعليم شيء مختلف عما درجوا عليه ، ولعل من المفيد عقد ورش عمل في كل منطقة تعليمية يشارك فيها معلمون وخبراء ، لمناقشة الطرق الحديثة في التعليم ، والاهتمام باستقطاب اكبر عدد ممكن من المعلمين ، للمشاركة واستعراض الصعوبات العملية التي ربما تعيق سيرورة البرامج الجديدة .

ومن المهم أيضا مناقشة الطريقة المناسبة للتوفيق بين الطريقة المقترحة والمقررات الدراسية ، التي يجد بعض المعلمين صعوبة في تجاوزها ، خاصة مع وجود عرف عام يقضي بانهاء المقرر ، بمعنى شرح كل موضوع فيه ، والتاكد من الطالب قد حفظه ، ثم امتحانه فيه على وجه التحديد ، لا في النتائج العلمية التي يفترض بالمعلم والمنهج معا ان يساعدا الطالب في التوصل اليها ، وأظن ان الاشكالية الرئيسية التي تواجه المعلمين تكمن في هذه النقطة بالذات ، فمعظم المقررات وضعت على خلفية الطرق التقليدية (التلقين).

خلاصة المقال ان أهمية التعليم توجب تركيز الجهد عليه لتطويره وتطوير مخرجاته ، وأجد ان لدى قادة هذا القطاع رغبة واضحة في التطوير ، لكننا بحاجة أيضا إلى تحويل النوايا والافكار إلى برامج عمل .

02/06/1999

القيم الثابتة وتصنيع القيم



الثقافة هي الأداة التي يتوسل بها المجتمع لتبرير حاجاته ، وبعض حاجات المجتمع لها طابع الثبات ، لكن معظمها متغير ، بحسب تغير حياة الجماعة واتجاهات حركتها ، الحاجات الاجتماعية الثابتة تقابلها مفاهيم ثابتة في الثقافة نسميها القيم أو الثوابت ، وثمة جدل لا ينتهي حول اخضاع متغيرات الحياة الاجتماعية للثوابت والقيم أو تحريرها منها ، وتدل التجربة على ان الانسان يميل بطبعه إلى توسيع نطاق الثوابت وبسط حاكميتها على المتغيرات ، ولديه على هذا الميل حجة قوية ، فحواها ان اشتغال المتغيرات في إطار الثوابت ، لا يعيق حركتها ولا يمنعها من التجدد والتغير ، لكنه يضمن استمرارية المسار في خط مستقيم .

ان الشرط الاول لتثبيت قيمة معينة ، هو تجردها وتعاليها عن الموضوعات ذات الطبيعة الشخصية ، أو تلك التي هي محل خلاف ، لكن القبول بالتثبيت ينطوي على مخاطرة ، ولا سيما في المجتمعات التي تفتقر إلى الحياة الثقافية النشطة ، أو تلك التي تحولت فيها الثقافة إلى حرفة ، تمارسها طبقة محدودة العدد دون بقية الناس ، ذلك ان محترفي الثقافة يرغبون في تسويد القيم التي يتوصلون اليها ، ويميلون إلى تبنيها في وقت من الاوقات ، باعتبارها عامة وثابتة ، في غفلة عن حقيقة ان الثقافة وقيمها _ مثل كل منتج بشري آخر _ ذات طبيعة زمنية ومؤقتة ، ربما يطول بها الامد أو يقصر ، لكنها في كل الاحوال واصلة إلى نقطة ينتهي عندها مفعولها أو فائدتها . ان استمرار تسويد قيمة معينة بعد انتهاء زمنها أو نفاذ وقودها ، يعادل إلى حد كبير حكم الاموات على الاحياء .

ويبدو لي ان جميع محترفي الثقافة يعرفون هذه الحقيقة ، لكنهم في الوقت ذاته يخشون من تأثيرها السلبي على قيمة منتجاتهم ، فتحديد زمن نهاية لفاعلية المنتج ، يفرض تحديد القيمة المادية أو الاجتماعية لمن انتجه ، بينما يرغب المنتجون ، وبينهم منتجو الثقافة ، الحصول على أكبر عائد ممكن من وراء عملهم ، وهنا يأتي دور التدعيم الخارجي ، حيث يستورد صانع الثقافة رباطا من قيمة ثقافية أخرى متفق على تثبيتها ، فيربط بينها وبين ما ينتج ، فتتحول القيمة الجديدة المحدودة زمانا ومكانا وفاعلية ، إلى فرع للقيمة العابرة للزمان والمكان ، المتجردة عن التأثير الانعكاسي للفعل والتفاعل مع موضوعاتها .

 وبالنسبة للمجتمعات المسلمة فان القيم الدينية المطلقة هي المقصد الرئيسي لصانعي الثقافة ، ذلك ان هذه القيم المتعالية تتمتع بالقبول العام والديمومة ، فضلا عن كونها جزء لا يمكن فصله من الهوية الثقافية للمجتمع ، والذي يجري فعلا هو اختلاق خيط يربط المنتج الثقافي إلى واحدة من القيم الدينية ، بغرض استثمار خصوصيات القيمة الدينية في تعزيز مكانة القيمة الثقافية الجديدة ، وتحويلها من منتج علمي إلى منظور ايديولوجي . ونجد المثال الواضح على هذا الربط المتكلف في التقاليد وبعض الخرافات ، التي تحولت إلى عناصر ثابتة في ثقافة المجتمع ، بعد ان جرى وصلها بقيمة ما من القيم الدينية في أزمان مختلفة ، وهو الأمر الذي أثار غضب الاصلاحيين والمجددين في مختلف الاوقات .

مثل هذا الربط المفتعل يجري في كل المجتمعات ، ويشعر الذين يقومون به انه مبرر تماما ، ولعل الامر كذلك فعلا ، لكن الذي لا يمكن تبريره هو استيراد خصوصية التعالي وعبور الحدود من القيمة الدينية وضخها في خزان المنتج الثقافي ، هذه العملية قد تؤدي ، وهي قد أدت بالفعل إلى تفريغ القيمة الدينية من مخزونها المعنوي الخاص ، وحولته إلى المنتج البشري في بعض الاحيان ، ولدينا في العالم الإسلامي كثير من الناس حرفتهم الوحيدة هي بيع الخرافة والتفريع عليها وتمديدها في كل اتجاه ، بعد ان ملأ خزانها بوقود ، يوهم الناظر من بعد ، بأن ما ينظر اليه دين أو جزء من الدين ، وبالنسبة لهؤلاء فان ما يهمهم حقا هو تسويق منتجهم الخاص وليس القيم الدينية كما هي في الاصل .

وفي المجتمعات المسيحية كان أحد الاسباب للصراع بين العلماء والكنيسة ، هو محاولة رجال الكنيسة منع العلماء من الاعلان عن نظريات علمية تخالف ما سبق تثبيته من جانبهم ، نحن نعلم ان الانجيل لم يتضمن نصوصا حول كروية الارض ودورانها على سبيل المثال ، لكن اناسا قرروا ان الارض مسطحة وثابتة ، وربطوا هذه النظرية بالانجيل ، فامتصت الوقود الايديولوجي والميزات المعنوية للكتاب المقدس ، فأصبح المنتج البشري متمتعا بنفس خصوصياته ،  فهو محمي ، مقدس ، متعال ، وعابر للزمان والمكان .
عكاظ 2 يونيو 1999


مقالات  ذات علاقة
-------------------


رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...