|| معظم الذين يتحدثون عن الجن يبدأون باعلان جهلهم بالموضوع ثم
يتحولون للحديث عن تفاصيله ، كما لو كانوا محيطين به||
سألت معلمي يوما عن الجن ، أين يوجدون وكيف
يعيشون ، فأجابني بسؤال معاكس : وهل هناك ما يمنع وجودهم ؟ فأعدت عليه السؤال :
وهل هناك ما يوجب وجودهم ؟ الاصل في كل
شيء العدم ، والوجود يحتاج إلى دليل على حدوثه .
قال لي : ان تعبير (الوجود) الذي نستعمله
للدلالة على ما يقابل العدم ، ربما يعجز عن حمل مفهوم الوجود بكل معانيه ومضامينه
، فنحن نفسر العدم بما يعادل اللاشيء في المعنيين المادي والمجرد ، لكننا غالبا ما
نطلق تعبير الوجود على الأشياء القابلة للتحديد ،
أي المشهودة ، أما الغائبة وغير المحددة ، فربما نظنها قابلة لأن توجد ،
ولا نعتبرها موجودة بالفعل ، رغم انها موجودة كذات خاصة ، خارج إطار وعينا وحدود
إدراكنا .
قلت له : فهل تعتبر الجن من هذه الموجودات
خارج إطار وعينا ؟ .
قال لي : ان القول بوجودها ربما يستدعي سؤالا
عن طبيعة هذا الوجود ، فما دام الانسان قادرا على ادراك وجود شيء ، فلا بد ان يمتد
الادراك إلى معرفة طبيعته ، هذه المعرفة توجد علاقة من نوع ما بينه وبين الانسان ،
فاذا وجدت العلاقة ، كانت داعيا لإقامة نظام يحكمها .
علاقة الانسان مع الكون محددة ومضبوطة بنظام
شرعه الخالق ، وفصله الانبياء والعلماء ، فهو عبد لخالق الكون ، سيد لبعض ما في
الكون ، ومساو للبعض الآخر ، وبحسب ما وصل الينا وما توصلنا اليه من أحكام في
علاقة الانسان بعناصر الكون ، فانه لا توجد أحكام خاصة بالعلاقة مع كائنات مما
نتحدث عنه الآن مثل الجن .
قلت لمعلمي : فهل تريد الوصول إلى ان عدم
تنظيم احكام العلاقة بهم دليل على عدم وجودهم ؟ .
قال لي : لا يستطيع العاقل الجزم بعدم وجودهم
، فقد سلف القول ان تعبير الوجود قد يعجز عن حمل الفكرة بتمامها ، ربما نستطيع
الجزم بعدم ايجادهم ، لا عدم وجودهم ، حدود معرفتنا الحاضرة لا تتجاوز الكون
المادي ، وما نعرفه عن الكون الآخر فوق المادي ، لا يتجاوز المعرفة النقلية ، نحن
نعرفه لأننا قبلنا بما سمعناه ، لا لأننا أدركناه بالوسائل العقلية أو التجريبية ،
لكن هذا يختلف عن مسألة الجن في ان طبيعته معروفة إلى حد ما ، والعلاقة معه مضبوطة
ومحددة .
قلت لمعلمي : الحديث الدائر عن الجن في في
مجتمعات العالم ، ومن بينها مجتمعات المسلمين ، ليس كلاما عن اكتشاف ما خارج
الحدود المادية لكوننا ، بل عن تداخل للجن في حياة هذا الكوكب ، يتحدثون أحيانا عن
سيدة ما عشقها جني وأجبرها على الزواج منه ، أو رجل تلبسه جني فأصبح عبدا له يتصرف
كآلة مبرمجة ، أو بيت (مسكون) يشعر أهله بحياة أخرى تدور فيه غير حياتهم ، فهذه
وأمثالها تعبيرات عن وجود ضمن عالمنا ، وجود متداخل مع وجودنا بل هو جزء منه ،
ولهذا فان الناس يتساءلون عن طبيعة هذا الوجود ، ولأنهم لا يعثرون على جواب ، فهم يسكتون عن التفصيل ، ويحيلون
الأمر إلى من لا يمكن مطالبته بالتفصيل أو الدليل ، فيقولون مثلا ان (الجن مذكور
في القرآن) وهو مذكور حقا .
قال معلمي : نحن لا نعلم إذا كان الجن المذكور
في القرآن هو الجن الذي يتحدثون عنه الآن ، تعبير (الجن) الذي نستعمله غير محدد المعنى ، وأطلق العرب
التعبير على ما هو قوي وخفي ، ولو سألت عنه
لأخبروك بانه وصف لكائنات هائلة القوة غير مادية وغير قابلة للتحديد ، وهذا يساوي
عدم المعرفة ، فالأوصاف المذكورة تصورية لا تطبيقية ، القرآن استعمل تعبيرات
متداولة لتقريب المعاني ، دون ان تكون مقصودة بذاتها ، مثل تقريب وصف الجنة إلى ما
يعادل البستان الوارف ، المليء بالفاكهة وأنهار الخمر والعسل ، رغم ان الجنة توصف
في الاثر بما ( لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر) .
هذا أولا ، أما الثاني فهو ان الحوادث التي
تذكر عادة ، تأتي في سياق التقرير المسبق للوصف والاستنتاج ، بمعنى ان الناس الذين
تقع لهم هذه الحوادث أو يسمعون بها ، لا
يضعون جميع الاحتمالات الممكنة ، وأحدها ان لا يكون الأمر متعلقا بالجن على
الاطلاق ، بل يسارعون إلى اعلان عجزهم عن معرفة ما يرون أو يسمعون ، فيحيلون الامر
إلى دائرة (القوى الخفية) التي يسمونها الجن ، لكنهم بعد هذه الاحالة يعودون إلى
ادعاء العلم ، فيقررون ان الاحتمال الوحيد
هو تدخل الجن ، وطالما كان الامر كذلك فمن الممكن التعامل معه ، وهذا الانتقال
السريع من النقيض أي الجهل بالشيء ، إلى
نقيضه أي ادعاء العلم به ، هو أحد الآفات
المعروفة في ثقافتنا ، وهي تظهر هنا وفي أماكن كثيرة أخرى .