15/12/1998

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟



جاري في هذه الصفحة الأستاذ عبد الله القفاري ، صياد أفكار لا يشق له غبار ، وقد تحدث الثلاثاء المنصرم عن الحاجة إلى طريق ثالث ، بديل عن الاشتراكية التي فقدت صلاحيتها ، والليبرالية التي تتكشف عيوبها ، ولا يبعد ان تواجه مصير أختها في وقت قريب ، وهو طرح اقترحه في صورة سؤال يفيد تقرير الجواب ، على طريقة المتنبي في قوله :
 وكثير من السؤال اشتياق     وكثير من رده تعليل

عبد الحميد الابراهيمي
فكرة الطريق الثالث التي تحدث عنها بعض المفكرين في الغرب ، هي اصلاح لليبرالية بادماج بعض فضائل الاشتراكية ضمن نسيجها ، وهو يقتضي تعديل بعض ما قامت عليه من أسس ، ولا سيما في موضوع العلاقة بين الفرد والمجتمع ، والعلاقة بين المجتمع والدولة ، وإعادة النظر في دور الدولة وتعريفها الوظيفي ، وهي فكرة خلفيتها اعتبار الليبرالية نهاية حقيقية للتاريخ ، وتقرير لها كأيديولوجيا نهائية للبشرية ، حتى لو اعترض البعض على اعتبارها أيديولوجيا .
لكن الاستاذ القفاري يدعونا إلى طريق ثالث نبدعه أو نشارك في إبداعه ، بغض النظر عما يسعى اليه توني بلير ، الذي يريد ارتداء عباءة المنظرين ، بعد ان  شارك بكفاءة في إبعاد حزبه عن النظرية ، وتحويله إلى حزب سياسي صرف .

والمفهوم من سياق الكلام ، ان القفاري سيتوصل إلى ان الاسلام هو الطريق الثالث المقترح ، وهي فكرة سبقه  اليه كثير من الكتاب في العالم الإسلامي ، بعضهم بطروحات مجردة هي أقرب إلى الدعوة ، منها إلى اثبات المدعى ، وقليل منهم كلف نفسه عناء عرض الأدلة التي تناسب القضية ، ومن المساهمات الحديثة التي لفتت نظري ، دراسة رئيس الوزراء الجزائري السابق ، د. عبد الحميد براهيمي (العدالة الاجتماعيةوالتنمية في الاقتصاد الإسلامي) الصادرة في سبتمبر 1977 عن مركز دراسات الوحدة العربية ، التي حاول فيها تحديد أطراف الموضوع ، الذي سيكون مجالا للبحث في أي دراسة لاحقة حول فرص اشتغال نظرية العدالة الاجتماعية ، وقد أصاب في هذا الاختيار ، لأن العيب الاساسي في أكثر الدراسات والدعوات التي عالجت القضية ، هو عدم تحديد الموضوع ، ومعالجة قضايا في غاية السعة والتشعب ، هي عند التحديد العلمي موضوعات كثيرة ، لا يمكن ان تدرج في بحث واحد ، أو ان يقترح لها ضابط أو نظام واحد للبحث .

عدا عن هذا الاستطراد ، فقد لفت نظري في مقال الاستاذ القفاري مسمى (الطريق الثالث) وكنت اتساءل في نفسي كلما قرأت مساهمة حول الموضوع : هل ينبغي حقا التفكير في طريق ثالث ؟ .

المسلمون الذين سبق لهم الدعوة إلى طريق ثالث ـ معظمهم على الأقل ـ افترضوه شيئا جديدا ، مستقلا ومختلفا عن الطروحات السائدة ، الليبرالية والاشتراكية وما هو تجميع من هذي وتلك ، وهذا الاقتراح يثير إشكالين كبيرين :
الأول : هل لدينا مشروع اسلامي جاهز ليحل مكان أحد الطريقين؟.
الثاني : على افتراض ان الاسلام هو الطريق الثالث ، فما هو حجم الفجوة التي تفصله عن كل من الطريقين السابقين ، وهي فجوة تتضح خصوصا في حال الانتقال ، وليس بعيدا عنا ما حدث في روسيا منذ أن بدات الانتقال من الاشتراكية إلى الليبرالية ، في بداية التسعينات ، وهي فجوة تحولت إلى هوة قاتلة ، ما تزال تحصد الضحايا حتى هذا اليوم .

والمراد من السؤال الأول ، تقرير ان ثمة فرق بين مشروع العمل الذي يقوم على فلسفة الاسلام وفي إطاره ، وبين صورة الاسلام المتداولة عند عامة المسلمين وكثير من الدعاة ، وهي صورة تميل بشدة نحو التبسيط ، ان صورة الاسلام التطبيقي في أذهاننا ، هي تركيب غير تاريخي لبعض مشاهد التاريخ ، وعامل التركيب الذي جمع بين هذه المشاهد ، هو الشوق إلى تصور المثال ، وليس المعرفة أو الدليل ، ولا يخفى اننا بحاجة إلى فقه جديد ، متصل مع العصر وتحدياته ، لا سيما في المجالات التي أهملها الفقه التقليدي .

أما المراد من السؤال الثاني ، فهو تقرير الحاجة إلى طرح المشروع الإسلامي المعاصر ، باعتباره متصلا ومتواصلا مع تجربة الانسان المعاصر ، وليس إقحاما للتاريخ في الحاضر ، ونحتاج هنا إلى إعادة فهم المشروع الإسلامي ، باعتباره حلقة أعلى في مسيرة البشرية ، وليس قفزة خارج هذا المسار ، ويؤول تقرير هذا الفهم إلى احترام ما توصل اليه الانسان من معرفة لذاته وللطبيعة ، وتقرير لمكانته بين مجمل المخلوقات ، وفي مقابل أخيه الانسان ، واعتبار محصلة هذه المعرفة ، أساسا يسهم في حمل المشروع ، ضمن هذا الفهم فقد لا نكون بحاجة إلى طريق ثالث ، بل إلى استكمال ما ينقص منظومة افتراضية ، نتفق على اعتبارها نقطة الاتصال بين ما هو سائد وما هو مطلوب.

مقالات ذات علاقة

عكاظ 15-12-1998

06/12/1998

قاعدة شيلني واشيلك

نعرف جميعا اننا نرث عن أسلافنا ، صفاتنا الجسمية ، لون بشرتنا وشكل وجوهنا وبقية الصفات البيولوجية ، حتى الامراض. لكن فكرة الوراثة كانت - حتى اواخر القرن الثامن عشر - أوسع من هذا بكثير. فقد اعتادت النخبة المتعلمة على تقبل الفكرة القائلة بان الانسان يرث عن أبويه حتى الصفات السلوكية والذهنية ، بما فيها قابلية الاستقامة والانحراف عن الطريق السوي. بل أن بعض العلماء بذل جهدا كبيرا لاثبات امكانية تمييز الشخص المستقيم أو المنحرف ، من تفاصيل وجهه وشكل جمجمته ، وان هذه الصفات تنتقل الى الأبناء من الآباء ، وبقيت فكرة تأثير الأصل سائدة في الابحاث المتعلقة بالمجتمع والانسان ، حتى منتصف القرن العشرين.

البروفسور كارل يونغ

في العام 1939 سئل كارل يونغ ، عالم النفس السويسري ، عن رأيه في ردة فعل الشبية الالمانية على صعود هتلر السياسي ، فقال ان هتلر هو ( مكبر الصوت الذي يجسم الهمسات الخفية للروح الالمانية). 

ومما يذكر هنا ان بعض المتعلمين ، وبينهم دعاة ورجال علم بارزون ، قد ابتلع الطعم ، فبالغوا في التدليل على هذا المنحى ، بالروايات التي تدعو الانسان إلى تحري الأصول الطيبة عند الزواج والجيرة ، أو تلك التي تمتدح أقواما بعينهم ، فصرفوها إلى ذلك المفهوم ، رغم ان الدعوة الاسلامية قد قامت على اعتبار الانسانية جامعا مشتركا ، يفرض التسوية بين كل انسان والآخر بما هو انسان ، وأحالت التفاضل على الفضائل الأخلاقية والعقلية ، التي يجتهد الفرد في اكتسابها والتحلي بها ، فتتحدد قيمته تبعا لها.

أما في العصور الاسلامية المتقدمة ، فقد اهتم عدد من العلماء بالعلاقة بين البيئة الطبيعية والنشاط الذهني ، وكان القاضي صاعد الاندلسي (1029-1070) من أوائل الذين طرحوا هذه الفكرة ، حين قرر ان الامم المؤهلة لاكتساب العلم ، هي التي تعيش في المناطق المعتدلة الهواء ، بينما انسان المناطق  الحارة  انفعالي غير متزن ، وانسان المناطق الباردة خامل ، وذهب إلى هذا المذهب - مع تبني استنتاج معاكس- المفكر الفرنسي  مونتسيكيو ( 1689-1755) الذي قرر ان السخونة تأتي بالاستبداد ، بينما البرودة تجعل العقل مسيطرا على الحواس .

 لكن هذا النوع من التصنيف لم يجد رواجا في المجتمع العربي ، لتزاحمه مع مفهوم آخر يقوم على نسبة الأفراد إلى بيئاتهم الاجتماعية ، أي النظر إلى الفرد من خلال انتمائه الاجتماعي ، وليس من خلال صفاته البيولوجية ، أو صورة أسلافه ، أو بيئته الطبيعية ، فضلا عن تزاحمه مع الصورة الدينية للفرد ، التي سبق الاشارة اليها ، ونعلم ان الدين الاسلامي هو المكون الرئيس لثقافة العرب ، منذ البعثة النبوية .

مع مرور الزمن وتطور علم الانسان ، أهملت نظريات الوراثة والتأثر بالبيئة الطبيعية ، لصالح تعظيم قيمة الفرد ، فيما يمكن اعتباره اكتشافا متأخرا للمفهوم الاسلامي ، الذي بدأ بالنظر إلى الفرد الواحد كمخاطب للشريعة ، ومسؤول عما كسب في دنياه ، حيث يتساوى في هذا الاعتبار والقيمة مع كل فرد آخر ، بغض النظر عن أصله ونسبه وبيئته .

لقد احتاج الانسان في الغرب إلى قرون طويلة من الكفاح ، حتى يسترد اعتباره الذاتي ، فيتحول من محمول على غيره إلى حامل لذاته ، قادر على تقرير قيمته الخاصة ، بناء على اجتهاده وانجازه ، مما حمل العالم البريطاني ادوار كار ، على القول بان (تاريخ البشرية هو بوجه من الوجوه ، تاربخ صراع الفرد من أجل استعادة قيمته) .

لكن على خلاف هذا فان المجتمع العربي ، وكثيرا من المجتمعات النامية الأخرى ، ما تزال تقاوم فكرة استقلال الفرد بقيمته ، الفرد في عالمنا ما يزال مجهولا كذات مستقلة قائمة بمفردها ودون نسبة إلى الغير ، الفرد في العالم النامي معروف بقبيلته أو طائفته أو بلده ،  أي بانتمائه الاجتماعي ، ولهذا فانك تواجه كثيرا من الحالات ، التي يعرف فيها زيد باعتباره من أهل البلد الفلاني أو القبيلة أو الطائفة الفلانية ، ويتقرر مكانه أو الموقف منه بناء على هذا الاعتبار .

وفي سنوات ماضية كتب دارسون عرب ، ان التحضر والنشاط الاقتصادي وانتشار التعليم ، سوف يقضي على هذا النوع من التصنيف ، الذي ينطوي على (احتقار غير مقصود) للانسان الفرد ، لكن ظهر لاحقا ان هذا التوقع كان متفائلا جدا ، رغم انه لا يخلو من صحة ، فلنقل على سبيل التحفظ ، ان عددا من الأفراد استطاعوا ان يفرضوا اعتبارهم الخاص ، وان يجعلوه مقدما على نسبهم أو انتمائهم ، وثمة عدد ملحوظ من الشخصيات البارزة اليوم في مجتمعنا ، ترجع إلى اصل متواضع ، لكن على الوجه الثاني ، فان الأفراد الذين لم يستطيعوا ابراز قدرات استثنائية ، ما زالوا يواجهون ذات المشكلة ، ومنهم من يعوّل كثيرا على استثمار انتمائه الاجتماعي للحصول على ما يريد ، بل وفي بعض الأحيان للاسـتـئـثار بالفوائد على حساب الغير ، فالانتماء يلعب هنا دور المرجح ، مقابل الكفاءة والصفات الفاضلة الأخرى .

وتجد أحيانا ان معظم الموظفين في إدارة من الادارات ، ينتهي اسمهم بلقب واحد ، يعكس الانتماء إلى قبيلة محددة أو منطقة محددة ، وليس ثمة تفسير لهذا الوضع ، سوى ان الانتماء الاجتماعي لعب الدور الرئيس ، بل ربما الوحيد في فوز هؤلاء بالوظيفة ، ضمن قانون (شيلني واشيلك) وهو قانون غير مكتوب ، لكنه قوي جدا وفعال على المستوى العملي . وهذا من أسباب التشاؤم الذي عبر عنه د. خلدون النقيب ، الذي توصل إلى ان انتشار التعليم في الأقطار العربية ، لم يؤد إلى تجسير الفجوة بين الكيانات الاجتماعية ، بل ربما ساعد على ابرازها وتسليط الضوء على خواصها ، التي هي نقاط افتراق لكل منها عن الغير .

مقالات ذات صلة

افكار للاستعمال الخارجي فقط

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول

بقية من ظلال الماضين

عودة لمبدأ المساواة

فكرة المساواة: برنارد وليامز

المساواة بين الخلق ... المساواة في ماذا ؟ : رؤية امارتيا سن

المساواة والعدالة : ديفيد ميلر

المساواة: اشكالات المفهوم واحتمالاته ايزايا برلين

 


في 6-12-1998

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...