22/10/1998

الهجوم على الثوابت .. اين هي الثوابت ؟



استهل الأستاذ عبد الله الحصين مقاله يوم الأحد الماضي (لماذا الهجوم على الثوابت) بالاشارة إلى أن التساؤلات التي طرحها مفكرون وباحثون حول التراث الإسلامي ، قوبلت (بالتحفظ الشديد مرة وبالرفض مرات أخرى) ثم عرض نماذج لاولئك المفكرين ولما قالوا. لكنه غفل عن ذكر الثوابت التي هجموا عليها ، أو لعله افترض أن النماذج التي عرضها هي من نوع الثوابت ، لكنه لم يخبرنا عن الأساس الذي اعتمده في تقرير هذا الاعتبار لها .
المرحوم د. محمد عابد الجابرى
والواضح أن الأستاذ الحصين قد انطلق من حرص مطلوب ومستحسن على التراث الإسلامي ، وخشية محمودة من أن تطاله أيدي العابثين والجهال ، لكن التوفيق لم يكن حليفه حين اختار الأمثلة التي عرضها للتدليل على مدعاه ، فالأساتذة الذين عرض أسماءهم ، لا سيما محمد عابد الجابري ومحمد أركون ومحمد شحرور ، لا يمكن تصنيفهم ضمن الجهال أو العابثين أو المعادين للمذهبية الاسلامية .
كتب الجابري عشرات من الدراسات القيمة ، محاولا البحث عن الجانب المضيء في التراث الإسلامي ، الجانب الذي يجسد مجد العقل والفعل الانساني ، وإنسانية الشريعة وكفاءتها ، أما محمد أركون فقد وضع النتاج العلمي للمسلمين ، في أزمان مجدهم الغابر ، على طاولة التشريح ، محاولا التأكيد على أن إلحاق هذا التراث الكبير بالشريعة والتفكير الديني ، لا ينبغي أن يؤخذ كمسلمة ، اذ لا بد من الفصل في كل حال بين النص الديني ، المعصوم والمتعالي على حدود الزمان والمكان ، وبين فهم البشر وتفسيرهم للنص ، المحدود والمقيد بأحوال الزمان وهموم المكان ، وكذلك فعل شحرور الذي ذهب إلى مدى أوسع فطالب بتركيز النظر على القرآن الكريم والغوص في بحوره ، منطلقا من افتراض أن محاولات المسلمين السابقين ليست نهائية ولا نتائجها قطعية  .
ولعل الاساتذة المذكورين قد خانهم الحظ في اقناع الاستاذ الحصين بالنتائج التي توصلوا إليها ، وهذه طبيعة العلم الذي يأبى أن يأتي موافقا لكل ميل ، لكن من جهة أخرى ، فان الاختلاف مع النتائج التي توصل إليها باحث ، لا تصح أساسا للتشكيك في نواياه أو الغمز من زاوية (حقه) في البحث ، بمثل القول انه (تخرج من جامعة الحادية تعتبر الالحاد ثابتا من ثوابت مناهجها) ذلك أن البحث في الاسلام ، ليس حكرا على طبقة من الناس ، ولا على أصحاب اختصاص معين ، أو خريجي مدرسة معينة ، أو المنتمين إلى مذهب فكري أو اجتماعي خاص .

 البحث في الاسلام ، كالبحث في  أي موضوع علمي آخر ، متاح لجميع الناس ، دون أن اعتبار النتائج التي توصل إليها الباحث أيا كان ، ملزمة لأي كان ، إلا بدليل آخر ، مثل أن يكون مقلدا له ، كما يفعل العامة مع المجتهدين ، أو أن تتحول نتيجة البحث إلى نظام ملزم للعامة أو الخاصة ، بعد أن تصدر وفق الأصول الشرعية المؤسسة للالزام القانوني .

حق البحث ليس حكرا على أحد ، والنتائج التي يتوصل إليها الباحث ليست ملزمة لأحد ، وانما هي مساهمة في الارتقاء بالعقل الانساني ، ليصبح أقدر على فهم الشريعة ، نصوصها وتجارب البشر في تطبيقها ، وهي مساهمة ذات طابع مؤقت ، تمهد لما هو أرقى منها ، فاذا وصل المتلقي إلى هذا المستوى الجديد استغنى عنها واستعاض بجديده عن قديمها .

ويستذكر الكاتب قصة مشهورة في  النهي عن بناء الحكم على الريبة في النوايا ، حين وضع أسير كافر في إحدى غزوات الرسول (ص) بين الاسلام والنطع ، فرفع صوته بالشهادة ، فأراد الخليفة عمر قتله قائلا انه اسلم خوفا من السيف ، فأجابه المصطفى صلوات الله عليه بقوله (هلا شققت قلبه فنظرت ما فيه) والأصل في الجدل العلمي أن يؤاخذ الباحث بما قال ، لا بما ينوي أن يقول ، أو بما يقصد من وراء القول  ، إلا أن يكون قصده صريحا بينا ، ولا يهم إذا ذاك أن يكون قد تخرج من جامعة توحيدية أو من جامعة الحادية ، خاصة في هذا الزمان الذي يصعب فيه تحديد ما هو الحادي وما ليس إلحاديا ، كما يندر أن تجد جامعة أو مدرسة للدراسات العليا ، ليس في مناهجها أو أساليب تعليمها شيء من الالحاد ، والالحاد هو الميل أو الانحراف عن الجادة الصحيحة ، أو شوب ما هو مستقيم بما هو أعوج ، ولو أردنا الخوض في هذا لما سلم جامعي من الريبة فيما يقول ويفعل ، إلا من عصم الله .

وما دام الاستاذ الحصين قد طرق موضوع التراث ، فقد ألزمنا بتكرار ما ينبغي التذكير به في كل حين ، وهو أن ما نطلق عليه (التراث الإسلامي) هو شيء آخر غير (الشريعة الاسلامية) فالشريعة المقدسة هي عبارة عن النص القرآني المحفوظ بأمر الله سبحانه ، وحديث الرسول (ص) الذي اجتهد المسلمون في توثيقه والمحافظة عليه ، منذ غيابه صلوات الله عليه إلى اليوم ، ومنذئذ ، وخلال مئات من السنين التالية ، عمل المسلمون في النص الديني شرحا وتفسيرا واستلهاما منه .

ومع تقدم المعرفة في ظل ارتقاء الحضارة الاسلامية ، أبدع المسلمون علوما وفنونا جديدة غير مسبوقة ، واستعانوا في كثير من الحالات بما أخذوه وما ترجموه من علوم الأمم الأخرى غير الاسلامية ، وأصبح لدينا في المحصلة النهائية كم هائل من المعارف ، المرتبطة بالنص ، أو المستقلة عنه ، في موازاة تجربة الحياة الاسلامية ، خلال بضعة قرون من الكفاح والارتقاء ثم الهبوط ، تشكل بمجموعها ما نسميه تراث الامة الاسلامية .

ان النتاج الثقافي والمعرفي لأي أمة هو تعبير عن مستواها الفكري وطبيعة أوضاعها الاجتماعية في ذلك الوقت ، فالفكر لا يتطور مستقلا عن الظرف الاجتماعي الذي يوجد فيه ، ولهذا السبب أيضا فان طبيعة التراث ومكوناته متطورة من حال إلى حال ، فهي لا يمكن ان تكون جامدة ، ولا عابرة للزمان ، ولو لم تكن متحولة ، لعجزت عن التفاعل مع المحيط الاجتماعي الذي أوجدها أو استثمرها ، ولأصبحت غير ذات قيمة .

ثم وصل العالم الإسلامي إلى المرحلة الدنيا من مراحل انحطاط حضارته ، فاصبح لا ينتج علما بل ينشغل باجترار ما أبدعه السالفون ، وفي وقت لاحق بدأ يبحث عند الغير عما يستغني به عن تجربة أسلافه .

غير أن الدعوات التي تكررت سابقا ، إلى البحث في الذات والتجربة التاريخية عن معين صاف ، لاعادة تكوين هوية العالم الإسلامي في هذا العصر ، هذه الدعوات تجد اليوم أصداء في كل مكان ، من جانب مثقفين وباحثين يريدون إعادة وصل ما انقطع بين مسلم العصر وبين مصادر هويته الثقافية ، ليس انقطاعا بالمعنى المادي ، بل بغلبة التفسيرات والأفهام المحدودة على النص المرجعي ، بحيث لم يعد المسلم قادرا على قراءة القرآن أو السنة بصورة مباشرة ، أي متحررة من التصور المسبق عن المقصود ، وهو تصور قد يصدق أحيانا وقد يخون ، أو قد يكون قاصرا عن بلوغ تمام المقصود .

 ومع غلبة الافهام والتفسيرات وشيوعها ، واضطرار المسلم المعاصر للأخذ بما انجزه الماضون ، فقد أصبح النص الديني أسيرا لتلك القوالب ، والتي مهما بالغنا في تقدير صحتها ، فانها لن تكون أكثر من تعبير عن عصرها ، بما فيه من أوضاع اجتماعية ، وبما بلغه أهله من مستوى عقلي ومعرفي ، بينما يقتضي خلود النص وعبوره لحواجز الزمان والمكان ، ان يكون نبعا متجددا ، يرده أهل كل عصر فيجدونه معينا عذبا ، قادرا على الاجابة على ما يطرحه زمانهم من اسئلة جديدة ومن تحديات .

نحن بحاجة إلى فهم متجدد للقرآن والسنة ، كل جيل بحاجة إلى فهم خاص ، يستثمر تطور العقل الانساني الذي لا يتوقف في زمن ، ويستثمر نتاج التجربة الانسانية من معارف وعلوم . لكي نجدد فهمنا للقرآن فسوف نحتاج إلى النظر اليه بعين عصرنا لا بعين العصور الماضية ، سوف نحتاج إلى التخلص ـ ولو مؤقتا ـ مما يعتبر بديهيات وثوابت ، تحكمنا قبل ان نصل إلى النص ، ينبغي ان لا تكون ثمة عوائق بين العقل والنص ، بين الانسان وروح النص ، لكي يحاوره متحررا من كل ضغط ، ومن كل التزام مسبق بالوصول إلى نتيجة محددة .

لكي نتخلص من ضغط الفهم المسبق ، فاننا بحاجة إلى نقد التجربة التاريخية للمسلمين ، والتراث المعرفي الذي نتج عنها ، نقد لا يؤدي بالضرورة إلى تسفيه ما كان ، بل إلى الفصل بين ما هو مرجعي وما هو عارض قليل القيمة أو معدومها ، لكي نعيد إحياء ما اندثر من ثقافتنا ، سوف نحتاج إلى نضع أنفسنا في قلب الدائرة ، ثم ننظر إلى ما ورثناه نظرة الحاكم على ما يملك ، لا نظرة السجين إلى شباك هذا القفص الذي نسميه التاريخ .

01/10/1998

نادي الكبار ليس قيادة للعالم




المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد مؤتمره السنوي في دافوس ، منتجع سويسرا الجبلي ، هو واحد من محاولات عديدة بذلها سياسيون وشخصيات دولية ، لايجاد ما يمكن اعتباره قيادة كونية .
وكانت منظمة الأمم المتحدة أولى تلك المحاولات ، لكن ظروف تأسيسها بعد قليل من نهاية الحرب العالمية الثانية ، جعلها تحت تأثير التجاذب بين الأعضاء ، لا سيما في ظروف الحرب الباردة التي امتدت طوال الفترة بين نهاية الحرب الكونية وانهيار الاتحاد السوفيتي في 1991 . والواقع ان الدافع الرئيس لانشاء الأمم المتحدة لم يكن قيادة العالم على وجه التحديد ، بل تلافي اندلاع حرب عالمية ثالثة ، رغم ان ميثاقها الأساسي وما كتب حوله من أدبيات يعطي انطباعا بأنها تسعى إلى عالم واحد يدار بروحية واحدة .
وقد نجحت الأمم المتحدة إلى حد معقول في الحيلولة دون اندلاع حرب كونية ، لكنها أخفقت تماما في تأسيس رؤية كونية مشتركة بين أعضائها ، كما أخفقت في تحديد إطار واضح لمشاركة المنظمات غير الحكومية في الشان الدولي ، على رغم تصاعد الدور العالمي لهذه المنظمات في الحياة الدولية .
على أرضية الشعور بهذا الاخفاق بادرت شخصيات دولية إلى تأسيس منتديات للحوار بين من يوصفون بأنهم قادة العالم في مختلف الميادين ،  ومن بين ابرز تلك المنتديات ، لجنة إدارة شؤون المجتمع العالمي ، التي أسسها مستشار ألمانيا السابق ويلي برانت في 1990 وأصدرت تقارير مهمة حول التحديات التي تواجه العالم وسبل مواجهتها ، من بينها التقرير الشامل (جيران في عالم واحد) الذي صدر عام 1995 ، لكن يبدو ان هذه اللجنة قد فقدت كثيرا من قوة دفعها بعد غياب بعض قادتها الرئيسيين ، مثل ويلي برانت وجوليوس نيريري وادوارد هيث .
كما يعتبر نادي روما تجربة مهمة من هذا النوع ، ويبدو ان القضايا التي تبناها منذ قيامه في 1968 قد تحولت بالفعل إلى أولويات في برامج الحكومات الغربية ، ونشير خصوصا إلى مشكلة البيئة التي كان النادي أول من تناولها بصورة مركزة ، لكن نادي روما فشل في التأثير على الأجيال الجديدة من السياسيين في الغرب ، نظرا لمحدودية العضوية فيه حيث لا يسمح نظامه بمشاركة أكثر من مائة عضو .
أما التجربة الأطول عمرا ، والأكثر بروزا في هذا المجال ، فهي المنتدى الاقتصادي العالمي الذي تأسس في 1971 وانضم إلى عضويته خلال السنوات اللاحقة عدد كبير من السياسيين والاقتصاديين والمفكرين ورؤساء المنظمات غير  الحكومية من شتى أنحاء العالم ، وهو يدعو إلى المشاركة في مؤتمره السنوي نحو 1000 من كبار رجال الأعمال و250 من الشخصيات السياسية ومثلهم من الاكاديميين البارزين ، وكذا من القادة الاعلاميين ، وحملة جائزة نوبل ، بهدف محدد هو تأسيس رؤية كونية للمشكلات التي تواجه العالم كمجموع ، والتي تحتاج إلى برنامج علاج طويل الأمد .
 ويستهدف جمع هذا العدد الكبير والمتنوع ، الحصول على رؤية من زوايا متعددة ، ثم ايصال النتائج إلى مختلف الشرائح التي يتشكل منها المجتمع العالمي .
وخلال السنوات الثلاث الأخيرة ، طغى موضوع العولمة على مؤتمرات المنتدى ، لكن المؤتمر الأخير شهد اهتماما خاصا بالانعكاسات السلبية للعولمة على مجتمعات العالم ، لا سيما تلك التي لا تزال غير جاهزة لتحدياتها ، وعكس شعار المؤتمر طبيعة هذا الاهتمام فهو يقرن العولمة بالمسؤولية عن انعكاساتها (العولمة المسؤولة : إدارة انعكاسات العولمة).
والواضح ان انعكاسات الأزمة الآسيوية وامتدادها إلى روسيا والبرازيل ، والقلق من تمددها إلى مواقع أخرى هو الذي أثار الاهتمام بانعكاسات العولمة ، لكن أبرز ما طرح خلال المؤتمر هو حملة (انهضي يا أوروبا) التي أطلقها خمسون من الشباب الذين يتقلدون مراكز قيادية في أوروبا ، وتقترح الحملة قائمة معايير لمستوى الحياة ، التي ينبغي ان تكون سائدة في أوروبا بحلول العام 2050 ، وتشمل 11 مؤشرا عن مستوى الدخل الفردي ، مستوى تلوث الهواء بثاني أكسيد الكربون ، بطالة الشباب تحت سن 25 ، متوسط العمر المتوقع ، كلفة الرعاية الصحية نسبة إلى الناتج القومي ، حال الفقراء الذين يقعون في النصف الأسفل من سلم الدخل ، انعكاس الجريمة المنظمة على التجارة ، الاتصال بشبكة الانترنت ، نسبة السكان المعتمدين على المساعدات ، التسجيل في المدارس . مع اعتبار المؤشرات الثلاث الأخيرة ، مؤشرا تجميعيا على جاهزية المجتمع لتحديات منتصف القرن .
والخلاصة ان منتدى دافوس ، لا يمكن تصويره كقيادة للعالم ، لكن من المؤكد ان فرصة اللقاء التي يوفرها ، ونوعية المشاركين ، تساعد على تقريب التصورات ، ونسج خيوط العلاقة بين أفراد طبقة يمسكون بعدد من أهم مفاتيح السياسة والاقتصاد والعلم على امتداد الكرة الأرضية .

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...