24/09/1998

حكومة العالم الخفية

لا زال بعض الناس في الولايات المتحدة الأمريكية ، يعتقد أن منظمة الأمم المتحدة ، ما هي إلا الصورة الظاهرة لحكومة خفية تدير العالم ، وفي أوقات سابقة ، ولا سيما في الثمانينات ، كشف النقاب عن وجود ميليشيات مسلحة ، تتكون أساسا من المحاربين السابقين في فيتنام ، يصل بعضها من حيث الحجم إلى ما يقارب حجم الجيوش الصغيرة ، عقيدتها الرئيسية هي الدفاع عن الولايات المتحدة في مواجهة غزو خارجي محتمل ، تخطط له وتديره هيئة الأمم المتحدة .

 ويقال أن الارهابيين الذين فجروا مبنى الحكومة الفيدرالية المركزي في مدينة أوكلاهما ، في أبريل 1995 ، وقتلوا 168 من المدنيين فيه ، كانوا أعضاء في ميليشيا من هذا النوع ،  وحين اعتقل بعض أعضاء تلك الميليشيا ، برروا عملهم بأن حكومة واشنطن ليست إلا (مسرح عرائس) تتحكم في حركة شخوصه ، خيوط ، نهاياتها في نيويورك ، حيث المقر الرئيسي للأمم المتحدة ، وسأل المحققون سجناءهم : هل تعتقدون أن الحكومة التي انتخب الشعب الأمريكي رئيسها وأعضاء الكونغرس ، هم مجرد أدوات بيد الأجانب ، أجاب أولئك بأنهم لا يشكون مطلقا ، بأن حكومة واشنطن عميلة لقوى أجنبية غير ظاهرة على المسرح .

 وبدا الأمر مثل صورة كاريكاتورية ، لكنه حدث فعلا ، وهو يحدث الآن أيضا ، ولولا انشغال الأمريكيين بفضائح رئيسهم الجنسية ، فلربما اتسع المجال في التقارير الاخبارية ، التي تبثها شبكات التلفزيون ، لتنقل إلينا  مشاهد عن تظاهرة صغيرة أمام القاعة الكبرى التي يجتمع فيها ممثلو دول العالم ، يطالب المشاركون فيها برحيل المنظمة الدولية وأعضاءها عن الأراضي الأمريكية .

وتذكرت للتو صورة مماثلة في كاريكاتوريتها ، حين سأل صحافي إيطالي ضابطا في ميليشيا صومالية ، قبل عقد ونصف من الزمن ، عن الدولة التي يسعى ورجاله لاحتذاء نموذجها ، حين يطيحون بالرئيس ـ يومئذ ـ الجنرال محمد سياد بري ، فقال ضابط الميليشيا ، انهم سيحتذون بنموذج ألبانيا ، وهي دولة صغيرة فقيرة في البلقان ، كان حليفها الوحيد في العالم هو الصين الشعبية ، قبل أن تتخلى عنها تماما في 1982 ، كانت ألبانيا ـ يومئذ ـ محكومة بحزب شيوعي شديد الانغلاق ، يقوده أنور خوجة ، الذي كان معاديا لواشنطن وموسكو وبكين وأوربا في آن واحد ، وسأل الصحافي صاحبنا الميليشياوي عن السر في إعراض جماعته عن الاتحاد السوفيتي الذي كان دولة عظمى ، فأجاب بأن حكومته عميلة ، فماذا عن الولايات المتحدة الأمريكية ، أجاب الرجل ان حكومتها عميلة أيضا ، فسأل الصحافي مستغربا .. موسكو وواشنطن ، كلاهما عميلة .. عميلة لمن في رأيك ؟ فأجاب الميليشياوي الهمام بأنهما عميلتان للجنرال سياد بري! . وهكذا اكتشف الصحافي معلومة لم تخطر على بال أحد مطلقا ، خارج الصومال على الأقل .

فكرة عمالة واشنطن للأمم المتحدة ، لا تقل ـ من حيث المستوى ـ عن فكرة عمالتها هي وموسكو معا للجنرال الراحل. لكن الحقيقة التي قد لا يعرفها كثير من الناس ، ان فكرة تأسيس منظمة الأمم المتحدة ، نبعت في الأساس من رغبة ثلاث من الدول الكبرى في اقتسام السيطرة على العالم ، أو على الأقل التحكم في مجاري العلاقات الدولية ، بحيث لا تخرج عن إطار يضع الكبار الثلاثة خطوطه .

أدى قيام الحرب العالمية الثانية إلى انتشار الاعتقاد بعجز عصبة الأمم ، عن الوفاء بالأغراض التي أقيمت لأجلها ، وفي طليعتها الحيلولة دون قيام حرب كونية ثانية ، وكان الحلفاء الذين انتصروا في الحرب الأولى ، قد اتفقوا عقب انتهاء الحرب ، على إقامة العصبة باعتبارها ممثلا لـ (المجتمع العالمي) لكن الحرب الثانية اندلعت بعد أقل من عشرين عاما ، فتهاوت في ضجيج مدافعها عصبة الأمم ، وانحلت دون أن يقرأ لها أحد قصيدة نعي .

في حمأة الحرب الكونية الثانية ، شعر البريطانيون بالأخطار التي ستنجم عن التعاون العسكري الوثيق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ، وكان الزعيم البريطاني الراحل ونستون تشرشل يؤمن إيمانا عميقا ، بأن جوزيف ستالين وحزبه الشيوعي ، لن يرضى بأقل من السيطرة على أوروبا ومستعمراتها ، وطرق  تجارتها في النصف الشرقي من الكرة الأرضية ، إذا أتيح له الخروج منتصرا في الحرب ضد ألمانيا وحلفاءها .

أما ستالين نفسه فكان يقلقه التوجه السياسي الأمريكي المتصاعد للانفتاح على العالم ، ومحاولاتها الحثيثة لوضع سياسة لما كان يسمى سابقا (وراء البحار) وأدرك ستالين ان الولايات المتحدة ، تملك القوة والامكانية المادية لوراثة النفوذ الأوروبي في العالم ، وما تحتاجه فقط هو التحرر من سياسة العزلة التقليدية ، التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة في واشنطن ، وقد وفرت مشاركتها الواسعة في الحرب ، الفرصة لاخراجها من عزلتها .

أما تشرشل فقد وجد في الولايات المتحدة أهون الشرين ، فهي وان كانت تمثل تهديدا جديا لمصالح بريطانيا في العالم ، إلا ان التهديد السوفيتي بدا اكثر احتمالا وجدية ، وكان مهتما بايجاد توازن بين العملاقين ، يضمن لبريطانيا خاصة ، ولأوربا عموما ، مكانا في عالم ما بعد الحرب .

من هذه المخاوف والمطامع ، ولدت الأمم المتحدة ، ففي أغسطس 1941 وقع زعماء  البلدان الثلاثة ، روزفلت ، ستالين وتشرشل (ميثاق الأطلسي) الذي  يدعو لقيام نظام علاقات دولية يحول دون تجدد الحرب ، ووضع آلية لصون السلام في العالم ، تتمثل في اجتماع منتظم لممثلين عن كل الحكومات المستقلة ، وفي يناير من العام التالي اتفقت 42 دولة من الحلفاء على الخطوط العامة لهيئة دولية جديدة تنفذ تلك النوايا ، ثم عقد مؤتمر تمهيدي للكبار الثلاثة في موسكو في اكتوبر 1943 ، وآخر في طهران بعد شهر من قمة موسكو ، لكن الخطوة الحقيقية التي أدت إلى إقامة الأمم المتحدة ، كانت مؤتمر يالطا في فبراير 1945 ، الذي جاء بعد أن اتضحت صورة الموقف العالمي مع انتصار الحلفاء في الحرب ، وأصبح ممكنا الحديث عن (تقاسم حصص) بين المنتصرين ، وتم بالفعل الاتفاق على تقاسم النفوذ في العالم ، مما فتح الباب أمام الاتفاق على تشكيل الهيئة التي ستردع احتمالات تجدد الحرب ، لا سيما الحرب بين الدولتين الأعظم ، الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة .

في منتصف هذا العام (1945) اجتمع ممثلون لخمسين دولة في سان فرانسيسكو ، غرب الولايات المتحدة ، للاعلان الرسمي عن قيام هيئة الأمم المتحدة ، ووضع ميثاقها الذي جاء في 111 مادة ، صودق عليها في أغسطس ، واعتبرت الهيئة قائمة رسميا ابتداء من سبتمبر ، ولهذا فان هذا الشهر يعتبر بداية الدورة السنوية للجمعية العامة ، حيث تتاح الفرصة لرؤساء الدول أو من يمثلهم لمخاطبة العالم ، من على منبر  الجمعية العامة ، ويحرص معظم الرؤساء على مخاطبة هذا الحشد الكبير من ممثلي العالم ، مرة واحدة على الأقل خلال ولاية كل منهم .

مع مرور الذكرى الخمسين لقيام الامم المتحدة في 1995 حاولت أقطار عديدة ادخال تعديلات على ميثاق الأمم المتحدة ، باتجاه توسيع دور البلدان النامية ، ولا سيما زيادة الاعضاء الدائمين في مجلس الأمن ، باضافة ممثل عن كل من أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا ، إضافة إلى دولة صناعية ، واقترح بالتحديد اسم جنوب أفريقيا ممثلا عن القارة السوداء والبرازيل أو الارجنتين عن أمريكا اللاتينية ، وماليزيا عن آسيا ، إضافة إلى اليابان أو ألمانيا ، لكن الدول الدائمة العضوية ، وهي الخمس الكبرى في العالم ، لم ترغب في اشراك الآخرين في هذا المكان ، الذي يعتبر مطبخا حقيقيا للكثير مما يصنف تحت عنوان (الشرعية الدولية) و (المجتمع العالمي).

وقد شكا معظم أقطار العالم الثالث من تحكم الدول الكبرى ، ولا سيما الولايات المتحدة في قرارات الأمم المتحدة ومبادراتها ، ونادى بعضهم بالانسحاب من هذه المنظمة ، لكن أحدا لم ينسحب ، فمع كل سلبياتها ومع كل عناصر ضعفها ، لا تزال هذه المنظمة عنصرا مفيدا في نظام العلاقات الدولية ، ولا شك ان وجودها أنفع كثيرا من عدمها ، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ان نشاطات الأمم المتحدة لا تقتصر على الجانب السياسي ، فهي تعمل أيضا عبر منظماتها المتخصصة ، لرفع مستوى الحياة في العالم ، بوضع معايير ، وتقديم الخبرات والمعرفة الفنية ، وأحيانا المساعدات المالية والقروض ، في سبيل الارتقاء بمستوى الحياة في دول العالم الفقيرة ، والتي على طريق النمو .

انها ليست الحكومة الخفية للعالم ، وهي ليست هرقل القادر على حسم الأمور لاقرار الحق والعدل ، لكنها في كل الأحوال ، مجمع يمكن المظلوم من ان يتأوه فيسمعه الناس ، ويمكن المحتاج من طلب العون ، كما يمكن الأقوياء من تبرير سياساتهم ، مهما بدت قاسية أو خالية من المنطق.

عكاظ 24 سبتمبر 1998

10/09/1998

المدرسة ومكارم الاخلاق



نتحدث عادة عن دور (تربوي) للمدرسة ، إضافة إلى دورها التعليمي المعروف ، وكان قد لفت انتباهي ملاحظة لأحد المدرسين ، قال فيها ان التربية مهمة الوالدين ، أما المدرسة فمهمتها التعليم ، حيث لا يتسع الوقت لأداء المهمتين في آن واحد .

المبررات التي عرضها الاستاذ تبدو منطقية لا يصعب تفهمها وقبولها ، رغم صعوبة القبول بالمحصلة النهائية ، فهو يقول مثلا ان معظم الاساتذة يجدون المنهج الدراسي طويلا ، بالقياس إلى عدد الحصص والوقت المخصص له خلال العام ، كما ان عدد الطلبة في معظم الصفوف يتجاوز الحد المناسب ، مما يضطر المعلم إلى انفاق كامل الوقت المخصص في شرح المنهج ، سيما وانه سيكون مدار تقييم الطالب في الامتحانات الشهرية أو النهائية .
وعلى رغم منطقية التبرير ، فلا زلت مترددا في قبول محصلته ، وهو اذا صح في بعض المدارس ، فلا ينبغي ان يكون صورة عن الوضع الاعتيادي في جميعها .

ثمة مهمات تربوية لا يمكن للبيت ان يؤديها ، بل لا ينبغي التعويل عليه فيها ، الا اذا كنا واثقين من تفهم الوالدين لها ، وهو أمر لا يمكن ضمانه في اغلب الاحوال .

من ذلك مثلا اخلاقيات التعامل مع الغير ، فقد ورثنا قيما وسلوكيات تحتاج الان إلى شطب أو تحتاج إلى تهذيب ، ولا نتوقع ان يكون الآباء الذين اعتادوا على هذه القيم ، وربما آمنوا بها ، قادرين على نقضها وتعليم خلافها لابنائهم ، قيم من النوع الذي يلخصه القول المشهور (كن ذئبا والا اكلتك الذئاب) وقيم من النوع الذي يلخصه القول الآخر ( ما حك جلدك غير ظفرك) و (الذي يأخذ أمي اقول له عمي ) فهذه الامثال التي تشير الى قاعدة ثقافية لخط كامل من السلوك الاجتماعي ، انما تؤسس في الحقيقة لشخصية الانسان المتفرد ، الذي لا يؤمن بفضيلة التعاون مع الغير ولا الاندماج في الجماعة ، الا اذا ضمن عودة الفائدة عليه شخصيا ، حيث تكون مصلحته الذاتية معيار التفاضل ، دون مصلحة الجماعة التي هو عضو فيها أو جزء منها ، تلك القيم ، وان امكن رؤية وجه ايجابي لها ، الا انها تنتهي في المحصلة ، إلى تبرير الافراط في عبادة الذات ، ورؤية الاخرين باعتبارهم موضوعا للاستثمار ، لا شركاء في الكفاح من أجل ارتقاء الحياة وعمران الارض .

خلال السنوات القليلة الماضية تحدثت الصحف كثيرا عن مسألة التطرف ، وأشار بعضها إلى دور للمدرسة في بلورة أو تثبيط الاتجاه المتطرف ، ونحن نعلم ـ من قراءة تاريخنا الاجتماعي ـ ان المجتمع مؤهل لاعادة انتاج السلوكيات والافكار المتطرفة ، وان كثيرا من الآباء قد تبلورت شخصيتهم وثقافتهم  في وسط يؤمن بهذا النوع من التفكير ويمجد أصحابه ، قبل ان تظهر الثمار المرة للتطرف في السنوات الأخيرة .

 وفي حالة كهذه فاننا لا نستطيع الاعتماد على التربية المنزلية في انتاج شخصية الجيل الجديد ، الذي نتمنى ان نراه متواضعا ، متوازنا ، متعاونا ، قادرا على استقبال آراء الاخرين والتعامل معها بعقل مفتوح ، قادرا على التعامل مع الآخرين باعتبارهم أحد اثنين ـ كما يقول الامام علي بن ابي طالب ـ (اما اخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق) . تحتاج بلادنا في مرحلتها الحاضرة وفي مستقبلها ، اشخاصا قادرين على الملاينة والتكيف ، قادرين على نسيان مسبقاتهم الذهنية والنفسية حين يعملون وحين يتعاملون .

ومن ذلك أيضا السلوكيات الفردية ، التي وان لم تتضمن إضرارا مباشرا بالغير ، الا انها تعبر عن شخصية عابثة ، لا أبالية ، لو نظرت مثلا إلى المعارك العظيمة التي يخوضها الناس في الشوارع من أجل اللحاق بالاشارة الخضراء ، أو تجاوز سيارة بطيئة ، المعارك التي تكلفنا في كل عام من الضحايا والاصابات وتلف الممتلكات ، ما يشبه نتائج الحروب ، فالواضح ان طالب المدرسة يتعلم هذه الاشياء من ابيه أو من اقرانه أو من الاخرين الذين يراهم في الشوارع ، ولعله يجد الامر ممتعا قبل ان يصبح ضحية . الذين يمارسون هذا النوع من السلوك ليسوا جميعا من الصبيان ، معظمهم من الكبار الذين لهم ابناء في المدارس .

انظر إلى مثال آخر على مستوى التهذيب الشخصي ، الاب الذي يفتح نافذة السيارة ليلقي بعلبة المرطبات ، أو بقايا المأكولات ، أو المناديل الورقية في الشارع  ، انما يعلم اولاده الجالسين معه في السيارة ، كيف يفعلون حين يصبحون كبارا ، انه لا يؤذي شخصا بعينه في هذه الحالة ، بل يؤذي مجموع الناس الذين يرغبون في رؤية بلادهم نظيفة ، وهو يزيد في أعباء المساكين ، الذين قضت عليهم اقدارهم بان يعملوا جامعين لقمامة الشوارع ، في صيف بلادنا الحارق ، الولد لا يتعلم هنا كيف يرمي الاوساخ ، بل يتعلم كيف يكون عابثا ، قليل الاهتمام بما لا يخصه مباشرة .

لننتقل إلى جانب آخر يتعلق بصورة المستقبل في عيون الطالب ، ففي السنوات الماضية اعتاد الناس على اعتبار الوظيفة الحكومية الضمان الوحيد للمستقبل ، وكانوا يعتبرون هذه الوظيفة شيئا مؤكدا اذا أنهوا دراستهم ، بغض النظر عن طبيعة الاختصاص ومستوى الاداء الدراسي ، ربما لهذا السبب لم يكن كثير من الطلبة يجهدون انفسهم في الدراسة ، ولا في اختيار التخصص المناسب ، همهم ان يتخرجوا بأسهل الطرق ، لكي يضمنوا كرسيا في دائرة وراتبا في آخر الشهر ، عن دوام لا يتجاوز الثلاثين ساعة في الاسبوع ، اذا بالغوا في الاخلاص .

لقد انقضى ذلك الزمان ، واصبح الحصول على وظيفة من هذا النوع مثل جوائز المسابقات ، لا ينالها غير المحظوظين ، اصبحنا اليوم نسمع عن مئات من الناس ، من خريجي المدارس والجامعات ، يبحثون عن وظيفة فلا يجدون ، ليس لانعدام الفرص كما أظن ، بل لقلة الكفاءة أو لصعوبة الشروط ، وهذه هي الحال الطبيعية التي كنا سنصل اليها على  أي حال ، رغم ان العادة قد جرت على اعتبار ظروف السنوات الماضية هي الحالة الطبيعية ، مع انها في حقيقة الامر حالة استثنائية محدودة بموضوعها وزمنها ، طالب اليوم بحاجة إلى تفكير جديد في مستقبله ، وبحاجة إلى مؤهلات جديدة لمواجهة تحديات هذا المستقبل . الاب الذي اعتاد على ما مضى ، لا يزال يظن بان الحصول على وظيفة حكومية ، ممكن دائما ، وان ما ينقصه هو (الواسطة) وهل يمكن ايجاد واسطة لعشرات الالاف الذين ينهون دراستهم كل عام ؟ .

ترى هل يمكن الاعتماد على الوالدين في توجيه ابنهم إلى الوجهة الاخرى ، وكيف لهما ان يعرفا طبيعة هذه الوجهة وحاجاتها ، هذه الوجهة الجديدة وليدة ظرف جديد ، لم يسبق لهما التعرف عليه ، ولا معرفة حاجاته ولا مواجهة تحدياته ، فمن أي كيس سيستخرج الاب ما يعطيه للولد ، وهل سمعتم باناء ينضح ما ليس فيه ؟ .

لكل ما سبق اعود إلى القول بأن (التربية) هي مهمة المدرسة ، فهي التي يفترض فيها العلم بالوجهة التي ينبغي ان يقاد الطالب اليها ، وهي التي ينبغي ان تعرف صورة الشخصية القويمة ، التي سيجتهد الطالب في اكتسابها ، وهي الجديرة بتوجيه الجيل الجديد إلى مكارم الاخلاق والفضائل .

قد تعيق ظروف خاصة هذه المدرسة أو تلك عن القيام بدورها التربوي ، فتنصرف إلى حشو أدمغة طلابها بالمعلومات بدل تربية نفوسهم ، لكن لا ينبغي ان تتحول هذه الحالة إلى قاعدة عامة مقبولة ، والا فاننا نغامر بأثمن ما لدينا ، اعني رأس مالنا البشري والانساني ، الذي لا قيمة لأي شيء إذا فقدناه أو فقدنا ما هو ضروري فيه .

الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...