03/09/1998

العودة الى المدرسة



 )سيكون اليوم الاول من العام الدراسي الجديد مخصصا للترحيب بالاساتذة الذين انضموا حديثا الى المدرسة ، وللتعارف بين الطلبة واساتـذتهم ، اضافة الى تعريف الطلبة الجدد بالمدرسة …(

تخيلت هذه الفقرة جزء من تعميم اصدره وزير المعارف الى مدراء المدارس في انحاء البلاد ، ليقيم بذلك سنة حسنة قوامها تحسين العـلاقة بين الطالب والمدرسة ، وبينه وبين اساتذته .
يقول لي جاري ، وهو مشرف تربوي واستاذ متمرس ، ان معظم الكتب التي عالجت قضايا التربية المدرسية ، تلح على ضرورة كسر الجاجز النفسي الذي يفصل الاستاذ عن تلاميذه ، وهو حاجز قائم بحكم فارق السن وفارق المكانة ، اضافة الى طبيعة العلاقة التي تقوم بين الطالب والمعلم منذ اليوم الاول ، وهي علاقة مضمونها الرئيسي الامر والنهي .

والمؤكد ان جميع الاساتذة ـ القدامى منهم والجدد ـ قد عرفوا هذه الحقيقة ،  خلال دراستهم أو من قراءاتهم الخارجية ، أو اكتشفوا الحاجة اليها من خلال التجربة العملية ، لكن الانسان قد ينسى أو يتناسى ، أو تشغله الأمور العاجلة الكثيرة عما يبدو قابلا للتأجيل .

في ماضي الزمان كان المعلم يدخل الى صفه ملوحا بعصا رفيعة ، يهذبها بعضهم ويتركها آخرون كما كانت في طبيعتها المتوحشة ، ويراها الطلبة فيفهمون الرسالة ، واي رسالة اسرع بلوغا من عصا في يد قادر على استعمالها ؟ لكن الامور تغيرت اليوم ، واصبح حمل العصا موجبا للعيب والاتصاف بالرجعية والتخلف ، ذلك ان أهل التربية في بلادنا قد اقتنعوا بان التربية بالعصا ، لا تخرج غير حامل عصا آخر ، فمنعوها ، واستراح ابناؤنا من منظرها المثير للرهبة ، بعد ان اكلت علقتها أنا ومن في سني مرارا وتكرارا .

رغم قلة معلوماتي فاني اجرؤ على الظن ، بأن كل طالب في  أي بلد من بلاد العالم ، يشعر بقدر من الرهبة ـ قليل أو كثير ـ سيما في الايام الاولى من العام الدراسي ، سواء كان المعلم يحمل عصا أو يحمل وردة ، وترتفع حدة الشعور بالرهبة ، لدى طلاب الابتدائية ، الذين اعتادوا على عطف الابوين ، ومحدودية العلاقات خارج البيت ، أما في مجتمعنا فاني اتوقع ان تكون الرهبة مضاعفة ، بالنظر لما يجتمع في المدرسة من صفات الاب والسلطة معا ، والشعور الغريزي لدى الطالب بانه ازاء سلطتين متداخلتين ، أو سلطة مكثفة .

شعور الرهبة لدى الطالب ، مريح لبعض الاساتذة ، فهو يوفر عليهم بعض العناء حين يحتاجون الى استجابة سريعة من جانب تلاميذهم ، ولعل هذا هو السر وراء التجهم ، والجدية المبالغ فيها ، التي يتكلفها بعض الاساتذة حين يقفون أمام طلابهم ، واذكر ان احد أساتذتي كان يدخل الى الصف كما يدخل العساكر ، يطرق الارض بحذائه الغليظ ، ويلوح يديه الى الامام والى الوراء ، بينما يهتز كرشه الممتليء كالحقيبة ، ثم يتجه الى السبورة فيواجهنا بظهره ، وبعد ان يكتب تاريخ اليوم وعنوان الدرس ، يستدير بخشونة ليشير على طالب ما ، سائلا اياه عن دفتر الواجبات ، أذكر انني وزملائي شعرنا بكثير من الخوف في البداية.

 لكننا اكتشفنا لاحقا ان الاستاذ كان في غاية اللطف مع زملائه ، وكان يجيد حبك النكتة التي لا تخطر على بال الكثيرين ، فأصبح الطلاب يتضاحكون سرا حين يدخل اليهم ، ويتبادلون النكات حول طريقته حين يخرج من عندهم ، وفي وقت لاحق ، تجرأ احدنا وسأله عن السبب في تجهمه أمامنا ، بينما يغرق في الضحك مع الاساتذة خارج الصف ، وأثار هذا السؤال ضحك الصف كله ، ورأينا الاستاذ يضحك أمامنا للمرة الاولى خلال ذلك العام ، وفيما بعد اصبح هذا الاستاذ صديقا لكل واحد من الطلاب ، الذين استشاره بعضهم في مشاكل دراسية أو أسرية ، وزرناه مرة أو مرتين في داره ، وكان قد تخلى بالطبع عن الطريقة العسكرية التي اعتاد عليها ، واصبح حضوره ودرسه من الاوقات المحببة عند طلابه .

وقبل ثلاث سنين وجدت احد ابنائي متخبطا في درس التربية الدينية ، كان حاصلا على درجة الامتياز في جميع المواد ، راسبا في التربية الدينية ، واجتهدت كثيرا في الحديث معه ، لكنه كان يلقي اللوم على معلمه ، بل كان يعتبر نفسه ناجحا لولا هذا المعلم ، فتحدثت مع المعلم ، وكان شابا حديث التخرج ، فوجدته يلقي اللوم كله على الولد ، واصفا اياه بالسفيه والمغرور ، ودلل على سفه الولد وغروره بالطريقة التي يحلق بها شعر رأسه ، وارتدائه البنطلون ، خلافا لما تقتضيه الاداب الاجتماعية ، وقد عجزت في الحقيقة عن حل المشكلة ، لكني وجدت ـ حين حضرت مجلس الاباء ـ ان معظم اولياء الامور كانوا يتحدثون عن مشكلة مماثلة ، وفي منتصف العام ، وجدت جميع طلاب الاستاذ المشار اليه راسبين ، عدا ثلاثة أو اربعة .

في نهاية المطاف جرى استبدال الاستاذ ، وتمكن الطلبة من عبور امتحانات ذلك العام بسلام ، وجدت بعد التأمل ان جوهر المشكلة كان صعوبة ـ بل استحالة ـ التفاهم بين الطرفين ، المعلم والطالب ، ولعل المعلم كان على حق ، لكن النتيجة لم تكن مشرفة على الاطلاق ، فرسوب ثلاثين طالب في صف واحد ، ليس مما يمنح المعلم فرصة للافتخار ، وظننت اذ ذاك انه كان ينبغي على المعلم الاجتهاد في ازالة الحواجز بينه وبين تلاميذه ، وان يشعرهم بحرصه على مصلحتهم ، بدل ان يضع نفسه في موضع الاتهام من جانبهم ، الاتهام بالقسوة والاتهام بالتفريط في المصلحة .

المعلم الناجح هو الذي يساعد طلابه جميعا على النجاح ، وهو الذي يزرع في انفسهم الشوق الى المدرسة ، لا الخوف منها ، الرغبة في التعلم ، لا التثاقل عنه .

من المهم ان يكون المعلم صديقا لطلابه ، من المهم ان يجتهد في اكتساب محبتهم وثقتهم ، وان يكون قريبا الى نفوسهم ، حتى يجتهدوا في اداء واجباتهم راغبين لا مرغمين .

الصداقة تبدأ بالتعارف البسيط ، والثقة تبدأ بابتسامة ولو مصطنعة ، والشعور بالرهبة يزول بعد قليل من الكلام المنطوي على مجاملة .

اتمنى ان يدعى كل معلم ، لتخصيص اليوم الاول من العام الدراسي ، لتعريف نفسه الى طلابه ، اسمه وموطنه وسنين دراسته ، وكيف قضى عطلة العام المنصرم ، ثم سؤال طلابه عن اسمائهم وأعمارهم ، وموقع كل منهم في عائلته ، والهوايات التي يمارسها ، وفريق الكرة الذي يلعب معه ، ثم يحدثهم عن اهمية المادة التي سيدرسها لهم ، والعلماء البارزين في مجالها العلمي ، وهذه كلها اشياء بسيطة ، لكنها عميقة الاثر في نفوس الطلاب ، وهي تهيء لعلاقة ناعمة سلسلة بين المعلم والطالب ، تستمر حتى نهاية العام .

قال لي صاحبي ان هذه الامور بديهية ، يعرفها كل معلم ، ويمارسها كثير من المعلمين ، لكني اعرف ان معلمين آخرين لا يحبون اضاعة الوقت في احاديث مثل هذه ، وهم من الجدية بحيث يريدون البدء بالدرس قبل انتهاء الدقيقة الاولى من الوقت المخصص ، وعلى  أي حال فاني اتمنى ان لا يكون السادة الاساتذة في حاجة الى هذا الحديث الطويل ، وكنت مهتما بالتذكير ، ولو على طريقة حامل العلم الى من هو اعلم منه .
عكاظ 3 سبتمبر 1998

27/08/1998

الفكرة وصاحب الفكرة

 

ليس من واجبات الكاتب ان يقول للناس ما يحبون ، والا كان حديثه اعلانا عن نفسه ، لا دعوة الى الفكرة ، والاصل ان المهمة الكبرى للكتاب والمثقفين ، هي دعوة الناس الى تبني الافكار أو المواقف التي يظنونها صحيحة ، ولهذا قال اهل العلم في سالف الزمان ، ان العلم حجة على صاحبه ، كما ان الدعوة اليه وظيفة ، يقوم بها شكرا لله الذي انعم عليه بهذا القدر من المعرفة .

بناء على هذا ، فقد يظن الكاتب نفسه قادرا على قول ما يشاء حين يشاء ، لكن الفرق عظيم بين الحقيقة والواقع ، فما هو صحيح قد لا يكون ممكنا ، وما هو ممكن قد لا يكون صحيحا ، وقد يجد الكاتب نفسه مخيرا بين السكوت ، أو التحول الى رجل علاقات عامة ، يقول للناس ما يرغبون في سماعه ، بدل اخبارهم بما ينبغي لهم معرفته ، البديل الصحيح هو التسلح بالقدر الممكن من الشجاعة لقول ما يراه صحيحا ، ان كان الامر يستحق العناء ، أو كان العناء قابلا للتحمل.


لو سألت الناس عن الكاتب الذي يفضلونه ، فسيخبرك معظمهم ـ إذا لم نقل جميعهم ، بانهم يريدون كاتبا يتحدث بصراحة وتجرد ، ولعلهم يغتنمون الفرصة لذم كتاب العلاقات العامة ، الذين يفصلون المادة على مقاس الشخص الذي يتوجه اليه الخطاب ، لكن إذا تعلق الامر باشخاصهم ، فان هؤلاء الناس انفسهم ، لا يرغبون في كاتب يقول لهم ما لا يعجبهم ، أي ما لا يتفق مع رأيهم الحاضر أو مصلحتهم الراهنة أو ميولهم  .

ويبدو لي ان هذا هو الامر الطبيعي ، فكل انسان يريد من الآخرين ان يكونوا موضوعيين ومنصفين ، شرط ان لا تؤدي تلك الموضوعية وهذا الانصاف ، الى الاضرار به أو ايذاء مشاعره ، وعلى أي حال فلكل انسان الحق في ان يحمي مصالحه وما يراه من حقوقه ، وله الحق في ان يدافع عن آرائه ، بعض النظر عن مواقف الاخرين ومصالحهم ، فاولئك ايضا لن يقفوا مكتوفي اليدين إذا اقتربت النار من خبزهم .

اقول ان هذه ممارسات مقبولة ، ينبغي تفهم ما يترتب عليها ، ولو كان غير مريح ، لكن من ناحية ثانية فان الافراط في التمسك بالاراء والمواقف ، ولا سيما الضجر من آراء الاخرين المخالفة ، يجعل الانسان معزولا عن محيطه الثقافي ، ويحرمه من ثمرات التفاعل مع اراء الغير وحاصل عقولهم ، وخير للانسان ان يتحمل اذية الخلاف البسيطة من ان يبقى اسيرا للجهل .

ويكره الناس ان يوصفوا بالجمود والانغلاق والعاطفية ، ويحبون ان يوصفوا بالمرونة والانفتاح والعقلانية ، لكن الى أي حد يا ترى يستطيعون تلبية المتطلبات النفسية والسلوكية ، التي تؤهلهم للاتصاف بتلك الاوصاف المرغوبة ؟ .

الجمود يعني التمسك بالاراء والافكار المعتادة ، ومقاومة أي محاولة لتغييرها او تعديلها ، والانغلاق هو اقامة جدار بين الذات والاخرين ، يمنع وصول اراءهم وتاثيرهم ، هذا الجدار عبارة عن تصنيفات مسبقة لكل شخص ، تجعل افكاره موصومة ومعيبة ، قبل ان يكلف المتلقي نفسه عناء البحث فيها او تحليلها ، اما العاطفية فهي بناء الاراء والمواقف على اساس قرب الموضوع من الذات وبعده عنها ، لا على اساس مقومات الموضوع ، والقواعد العقلانية والمفاهيمية ، التي يسميها اهل العلم (بناء العقلاء) والتي يشترك في الايمان بها كل ذوي العقول .

وعلى العكس من هذا فان الانفتاح والمرونة والعقلانية ، هي الاستماع الى الاراء المختلفة ، بغض النظر عن الموقف النهائي منها ، ثم الاخذ بعين الاعتبار احتمال ان تكون صحيحة حتى لو خالفت ما هو مقبول سلفا لدى الشخص المعني ، فالانسان المنفتح يقبل بالاستماع الى الاراء المختلفة بغض النظر عن الموقف النهائي منها ، ويعلم ايضا ان الزمن فعال سلبا وايجابا في المعلومات والافكار ، معلوماته ومعلومات الاخرين ، افكاره وافكار الاخرين .

لكي تنطبق صفة الموضوعية والانفتاح والمرونة على شخص ، فانه مطالب باحتمال مخالفة الغير لارائه ، ومطالب باحتمال التخلي عن بعض هذه الاراء ، أي التخلص من الاعجاب بالذات ، الذي يضفي على المتبنيات الذاتية نوعا من العصمة والمصونية من التغيير والتعديل ، فالعاقل لا يرفض فكرة دون تمحيصها ، ولا يرفض فكرة لأنه يبغض صاحبها ، ولا يشكك في فكرة لانها دارت حول موضوع ثقيل على نفسه ، او ارتبطت شواهدها بمواقف تباين ما يميل اليه ، وقد ورد في الاثر عن نبي الله عيسى عليه السلام ان الحكمة كالجوهرة تؤخذ ولو كانت في فم الكلب .

كما تحترم افكارك فان الاخرين يحترمون افكارهم ، ومثلما تتوقع من الغير ان يقبل بارائك فان اولئك يتوقعون منك موقفا مماثلا ، ولو ان كل الناس اختاروا التمسك بآرائهم ، وطرح ما يقوله الاخرون ، لما قام للعلم بنيان ، ولما تطورت معارف البشرية ، ينبغي للعاقل ان يعامل الناس بمثل ما يحب من المعاملة ، فاذا ارادهم ان يقبلوا بما عنده ، فلا بد له ان يقبل بعض ما عندهم ، والا كان من المطففين الذين توعدهم القرآن بالويل ، لانهم (اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) .

الموضوعية والعقلانية هي ان تقول الحق ولو كان مرا ، وتقوله ولو كان خلاف ما ترغب ، وتقوله ولو انتهى الى قناة من لا تحب ، فالحق مجرد في ذاته ، لا يتكيف بحسب الميول والرغبات ، والموضوعية تقتضي النظر في أبعاد الموضوع ذاته ، دون قياس للمسافة التي تفصله عن المتبنيات الشخصية .

يستطيع الكاتب ان يقول للناس ما يحبون ، لكنه لن يكون صادقا معهم ولا امينا ، ويستطيع ان يتحول الى كاتب عرائض يكيل الأوصاف بحسب المناسبة ، لكنه لن يكون صادقا مع نفسه .

 الى جانب هذا فهو يستطيع احيانا قول ما يؤمن به ، والتعبير عما يعجز الاخرون عن التعبير عنه ، بعض الحقيقة ليست زيفا ، فهي القدر المستطاع ، فان قدر على الحقيقة كلها ، وجب عليه اظهارها ، وان عجز عنها كلها ، فخير له ان يعتصم بالصمت كي يريح ويستريح ، فليس اسوأ من قتل الحقيقة غير تزييفها .

نحن بحاجة الى توسيع مساحة التعبير ، بحاجة الى فضاء يخلو من العقبات التي تجعل الكاتب عاجزا ، نحن بحاجة الى ان نحتمل بعضنا ، وان نسمع اراء بعضنا ولو خالفت اراءنا او اضرت بمشاعرنا ، ذلك هو السبيل الوحيد الذي اذا سلكه الناس ارتقت معارفهم واصبح للعلم شأن ومكان .

عكاظ 27 اغسطس 1998  


مقالات  ذات علاقة
-------------------


الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...