07/01/1998

أحــــلام النــاس

كنت مهتما خلال الايام القليلة التي انقضت من رمضان المبارك ، في بحث حول تصور الناس لذاتهم ومعتقداتهم وتطلعاتهم ، وقد ركزت اهتمامي بصورة خاصة على التعبيرات البسيطة ، والاجابات الفورية ، التي اجد انها تعبر تماما عما يعتمل في الصدور ، بالدرجة التي يمكن اعتبارها حقيقة ما في النفس ، ولفت نظري ان معظم الذين سألتهم ، كان يعبر بصورة أو باخرى ، عن شك في تطابق نسق حياته مع مرادات الدين ، على الرغم من كونه متدينا بالمعنى المتعارف ، سألت احدهم مثلا عن السبب في عدم التطابق هذا ، فأجابني ان الدين أوسع من ان يحيط به أحد ، وقال لي أحدهم ان الله غاضب على المسلمين لعدم التزامهم بدينه ، ولهذا فانه لا يهديهم سواء السبيل ، وقال ثالث ان تطبيق الاسلام بكماله غير ممكن أصلا في هذا الزمان ، وما يطبق منه ـ ولو كان جزئيا أو ناقصا ـ فهو يعتبر كافيا ومعقولا ، لانه هو المقدور ولا يكلف الله نفسا الا وسعها .
وفيما مضى من الزمن كنت أظن الناس راضين عن مستوى تدينهم ، ومستوى فهمهم لمعاني هذا التدين ، لكن تلك المناقشات التي دارت غالبا مع اشخاص عاديين ، أظهرت انني كنت مخطئا في هذا التصور .

وأظن ان المشكلة لا تتعلق بتقصير مقصود في الالتزام بتعليمات الدين الحنيف ، بل بتباين بين الصورة المتخيلة في الذهن عن الحياة في ظل الدين ، وصورة الحياة كما يراها المسلم المعاصر ، وقد لا تكون الصورة الاولى دقيقة ـ بالضرورة ـ بل قد لا تكون صحيحة على الاطلاق ، لكننا على أي حال بصدد مسألة تكشف عن وجود جدل داخلي يعتمل في الانفس ، بين واقع يعيشه الناس باختيارهم أو بالرغم منهم ، وبين أمل في صورة جديدة لواقع مختلف .

حاولت ان اتعرف على الصورة التي يتخيلها الناس للواقع الجديد المأمول ، فوجدت العجب العجاب ، لفت انتباهي على سبيل المثال ، ان كثيرا من الناس يرسمون صورة للواقع الاسلامي المأمول ، على نسق الصورة التي تعرضها المسلسلات التاريخية التي يبثها التلفزيون ، وتدعي انها تجسيد لفترة ما في التاريخ الاسلامي ، وكنت أظن منذ فترة طويلة ان معظم ما يعرضه التلفزيون عن تاريخ الاسلام ، ليس أكثر من تركيبات ساذجة ، تفتقر الى الحس التاريخي ، كما تفـتقر الى الموضوعية .

وعلى أي حال فان المسؤولية عن هذا التقصير ، لا تلقى على كاهل منتجي البرامج التلفزيونية ، فهم ـ مثل غيرهم ـ يأكلون مما يجدونه على المائدة ، ولا يعتبرون انفسهم مكلفين بالتدقيق في علاقة كل طبق بباقي الاطباق ، ولا في صحة انتمائه الى المائدة .

وعلى كل حال فان هذا الصنف من الذين سألتهم ، كانوا يتمنون نمط حياة يشابه ذلك الذي يتخيلونه عن عصور الاسلام السابقة ، لكني سألت بعضهم عن حياته الحاضرة .. هل هو مستعد للتخلي عنها فيما لو أتيح لعقارب الزمن ان تعود الى تلك المرحلة .. فوجدتهم في الغالب قلقين من ان يتحملوا الاعباء الكثيرة التي تحملها الاسلاف في حياتهم ، ولهذا فانهم على الارجح ، سيختارون البقاء في زمنهم ـ مع انه مخدوش الاعتبار ـ على العودة الى الازمان السابقة ، ولو كانت ـ في تصورهم ـ كاملة .

 ما هو جوهر المسالة اذن ؟ .
لو رجعنا الى وجوه النقص التي يرى الناس انها تعيب زمانهم ، لوجدناها تتعلق غالبا بموضوعين : الاجماع على طريقة واحدة من التدين ونمط واحد من الحياة ، والعلاقة غير المتكافئة بين المسلمين وغيرهم من سكان الكوكب .

في الجانب الاول يتصور الناس ، ان المسلمين كانوا في عصورهم القديمة مجمعين على فهم واحد محدد للدين ، وعلى درجة واحدة من الالتزام باحكام الشريعة المقدسة ، ولهذا السبب فلم تكن ثمة اختلافات بين الناس ، ولم يكن ثمة تباين في مستويات الحياة والمراتب الاجتماعية ، وهذا تصور غير دقيق اطلاقا ، لكنه اقرب الى المثالية التي يتمناها كل شخص ، مع ادراكه لاستحالة نقلها من عالم المثال المجرد الى عالم الواقع الارضي .

وقد بذل بعض قدامى الفلاسفة جهودا كبيرة ، لصنع صورة ـ على الورق فحسب ـ لمدينة فاضلة تخلو من الطبقات وتخلو من الاختلافات ، كما ان فلاسفة معاصرين وضعوا افتراضات مفصلة ، حول امكانية التوصل الى مجتمع يخلو من الطبقات ، وتنعدم فيه ـ تبعا لهذا ـ فرص الاستغلال ، حيث يتقوم اعتبار الانسان بعمله ، لا بما يملك ، لكن أحدا لا يأخذ هذه الافتراضات مأخذ الجد ، اذ التباين في المعايش والمراتب ، أساس التدافع الاجتماعي والقومي ، الذي به تقوم حياة الامم وبه تتطور المجتمعات .

وخلافا لما يظن بعض الناس ، فان الحياة في عصور الاسلام الاولى ، لم تخل في أي مرحلة من مراحلها ، من الخلافات بين الناس ، كما لم تخل من التباينات الحياتية والاجتماعية ، فقد كان ثمة موالون وكان معارضون ، وكان ثمة مؤمنون ملتزمون بكل ما يستطاع من التكاليف ، وكان ثمة مخفون ، ومع تطور الدولة الاسلامية وانتشار العلم ، ازدادت التباينات وتعددت الافهام حتى قامت الفرق والمذاهب ، وتبلورت مدارس فكرية ينسجم بعضها مع التيار العام ، ويختلف اكثرها في الخطوط العريضة أو في التفاصيل . كما ان اتساع الدولة وتبلور الحياة المدنية ، قد ساعد على اتساع التمايز بين الطبقات الاجتماعية ، وظهور فوارق في أساليب ومستويات المعيشة ، اجلى مما كانت في بدايات الدولة الاسلامية ، والخلاصة ان تصور الحياة في عصور الاسلام  الاولى ، خالية من الالوان والتعبيرات المختلفة ، مجانب للحقيقة ، بل هو مستحيل في أي حال .

ومع ان الناس جميعا يشتركون في تبني آمال أو أحلام معينة ، تتجاوز مستوى ما هو معاش ، وهذه طبيعة انسانية لا علاقة لها بقطر معين أو ملة معينة ، الا ان المسلمين يتميزون عن غيرهم ، بحنين خاص الى مثال يعتقدون انه كان واقعا في يوم من الايام ، وانه يمكن ان يبعث من جديد بصورة أو بأخرى في يوم من الايام ، وهم يعتقدون ان هذا المثال ، ايا كان ، هو خير من واقعهم المعاش ايا كان ، ويشير هذا الامل المحدد الى نوع من الاحتجاج العفوي الصامت ، على واقع يشعر الجميع انه لم يكن مخيرا في ايجاده ، ولعله كان اختار غيره لو اتيحت له الفرصة يوم تشكل ، ويتعزز هذا الشعور مع تراكم الاحباطات وأسباب الفشل ، سواء تلك التي تعزى للشخص ذاته ، او للنظام الاجتماعي ككل.

وحسب ما راى بعض الباحثين فان الشعور بالاحباط او العجز ، يتنامى مع اختلال التوازن بين قدرة الانسان على الفعل ، ووجود فرص للتعبير عن هذه القدرة ، ويبدو لي ان كل الناس في كل المستويات ، يحلمون بشيء ، او يتمنون القدرة على تحقيق شيء ، لكن شعور الانسان بقدرته على تحقيق حلمه ، هو الذي يجعله متوترا ، اما في المرحلة السابقة لوجود القدرة ، فان الانسان يحلم كي يستريح من ضغط الشعور بالعجز .

واذا صح هذا التحليل ، فانه يمكن القول بان عدم الرضى عن مستوى التدين ، قد لا يكون مبنيا على تحليل او تامل في واقع الحال ، بل ربما نتج عن رغبة في المطابقة بين الواقع والحلم ، يتوازى مع قناعة فحواها ان الحلم ، يبقى مجرد حلم حتى اشعار آخر .
عكاظ 7 يناير 1998

06/04/1997

سلع سريعة الفساد: حروب الكلام

معظم الذين يعارضون الحركات الاسلامية ، يتهمونها باستغلال الخطاب الديني لتحقيق اغراض سياسية او حزبية. وهذا الوصف قابل للتطبيق على كل شخص او جماعة. فكل من اراد النيل من منافس له ، وصفه بالانتهازية ، او ارتداء عباءة الايديولوجيا لتحقيق اغراض سياسية او غير سياسية. واذا اراد التوسع في الوصف او تأكيد (التهمة) تبرع بتبرئة الدين من السياسة او المصالح. وتنشر الصحافة العربية كل يوم تقريبا ، مقالات او تصريحات لمعارضين سودانيين ، تتهم النظام القائم بانه مخادع ، وزعيم الجبهة القومية الاسلامية التي تدعمه بانه انتهازي ، يستغل الشعار الديني لتبرير استيلاء الجبهة على مفاصل الحياة السياسية .

 وقد قيل مثل هذا في النظام الايراني ، ويقال عادة في كل الصراعات الصغيرة والكبيرة التي تجري بين الفئات السياسية. وأمامي تصريح للسيد رفعت السعيد ، وهو من زعماء اليسار في مصر يحذر من ان جماعة الاخوان المسلمين تستغل الديمقراطية لكي تقتلها حينما تصل الى الحكم ، لانها لا تؤمن بالديمقراطية ولا تمارسها (الحياة 3/7/1996) وهو كلام يمكن تطبيقه على الحزب الذي ينتمي اليه السيد السعيد ، فقد شهدت مصر بعض احلك ايامها حينما كان اليسار في السلطة ، وأمامي ايضا خبر عن احتجاج قدمه الامين العام لجناح حزب البعث اليمني المؤيد للعراق ، الى لجنة الاحزاب في الحكومة اليمنية ، يتهم الجناح المؤيد لسورية في الحزب نفسه باستغلال الاسم لاغراض سياسية ، بخلاف ما ترمي اليه المنطلقات والبرامج الخاصة بالحزب ، ويتهم اللجنة بالتآمر مع هذا الفريق ، خلافا للسلوك الديمقراطي والدستور والفانون الجاري (الحياة 4/7/1996) .

 خلاصة ما نريد قوله ان اتهام الجماعات الاسلامية بالانتهازية او استثمار الدين ، هو مجرد سلعة في سوق الصراع بين القوى السياسية ، ومثلما يوجه للاسلاميين ، فهو قابل للتوجيه ضد اي طرف سياسي اخر ، فيمكن اتهام اليسار باستثمار شعار العدالة الاجتماعية لتقويض الحريات الفردية ، كما يمكن اتهام الليبراليين باستثمار شعار الديمقراطية والحريات ، لافساد المجتمع او اقامة حكم يعتمد على استثمار الاقوياء للضعفاء .

 والحقيقة ان ايا من  السياسيين الذين حاولوا التقدم في ميدان السياسة ، لم يعجز عن ابتكار قائمة اتهامات من هذا النوع يوزعها على منافسيه ، لكن ايا منها لايصلح دليلا لتقويم تجربة الطرف المتهم او مصداقية طروحاته. انها اشبه بالسلع السريعة الفساد ، ليس لها اي قيمة خارج الظرف الذي شهد اطلاقها ، الظرف المحدود زمنيا ومكانيا  .

ولايقتصر هذا النوع من التراشق على الجماعات المختلفة ايديولوجيا ، ففي داخل التيار الاسلامي نفسه ، نرى التقليديين يتهمون الحركيين الجدد باستثمار الشعار الاسلامي لتحقيق مآرب سياسية آنية ، ويتهم هؤلاء اولئك باستغلال الدين لتجميد المجتمع الديني ، ويشكك كل من هؤلاء في الاخر ، في اخلاصه وفي تقواه وفي تطابق منهجه وتكتيكاته مع مرادات الشريعة. وكل هذه الاتهامات والمراسلات الخطابية ، نفخ في الالفاظ لا يغير شيئا من الحقيقة ، لكنها تعكس الارتباك السائد في تحديد خطوط الاتصال وخطوط الانفصال ، بين ما ندعوه مبدأ وما ندعوه مصلحة .

ويظهر ان الذين يوصفون بالمصلحية - عادة - هم النشطون في المجال الاجتماعي او السياسي ، الذين يهددون غيرهم بابتلاع مجاله الاجتماعي او فرصته السياسية ، اما المنعزل الذي لا يهدد احدا ولاينافس احدا ، ولايسعى لتحويل رصيده الشخصي الى قوة سياسية تنافس القوى القائمة ، والتي تخطط للقيام على الساحة ، فانه ينام قرير العين ، لا يرشق بحجر ولا ينال منه لسان. وكان استاذنا اية الله السيد محمد الشيرازي اطال الله عمره يقول ان راشقي السهام في الحروب القديمة ، يوجهون سهامهم الى اصحاب القامات العالية والرايات الواضحة ، قبل بقية الجيش. وقرأت في حياة الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول قوله ، انه حاول الفرار من اسر القوات الالمانية مرارا ، لكن قامته الطويلة فضحته دائما ، فلم يكن بين الجند من هو في مثل طوله ، ولهذا كان جميع جنود المعتقل الالماني يعرفونه حتى لو اخفى وجهه ، والحاصل ان الاتهام بالانتهازية او المصلحية ، هو في حقيقته لون من الوان الصراع الاعتيادي يواجهه كل نشط على الساحة ، وكلما امتدت قامته وظهر صيته ، ازداد حجم الاتهامات الموجهة اليه لا سيما من هذا النوع .

قلنا سابقا ان التزام الانسان ، سياسيا كان او رجل شارع ، بمصلحته او مصلحة جماعته ليس تهمة ، وليس عيبا ، وبناء المواقف على اساس المصالح ليس خطأ بل قد يكون عين العقل ، كما ان تأثر الاراء والافكار بالمصالح ليس اختيارا ، فعقل الانسان لا يتحرك بمعزل عن تعاطيه مع شئون حياته ، ولذلك فانه لا يوجد انسان الا وهو ينظر ، حين يتكلم وحين يعمل ، الى مصلحة ، مصلحة لنفسه او لجماعته او لعقيدته ، وهي في كل الاحوال مصلحة للذات .

لكن مع ذلك ، وبسبب تخلف الثقافة وانفصالها عن الحياة ، واحتلال الخيال مكان المنطق في عقل الانسان المسلم ، فقد اصبح السعي الى المصلحة عيبا يسوء المرء ، كما  اصبح التباطؤ عنها او القعود عنها حتى تضيع ، مكرمة يستحق صاحبها الثناء وجميل الذكر ، وما نريد قوله كخلاصة انه لا يمكن للانسان ان يكون فاعلا الا اذا وثق اتصاله مع الواقع الذي يعيش ، الواقع بما فيه من مادة وعناصر حياة وجمهور وقوى وسلطة. ولان العلاقة بهذا الواقع مستحيلة ، اذا لم يظهر الانسان استعدادا للتشابك مرة والتلاحم أخرى والقتال ثالثة ، فان على الانسان ان يهيء نفسه لردود الفعل ، السلبية والايجابية ، وعليه ان يتحمل الاساءة بمثل ماهو مستعد لتقبل الثناء.

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

  ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024 توفيق السيف يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال : هل ساهمت ...