04/02/1996

افريقيا واحلامــها الضــائعة


اجتمع قادة الدول الافريقية في مقر منظمة الوحدة الافريقية ، التي ينطوي اسمها على حلم رومانسي ، اصبح تحققه اليوم ، اصعب كثيرا من اليوم الذي تاسست فيه هذه المنظمة .

فالقارة الافريقية التي عانت كثيرا من وطأة السيطرة الاجنبية ، اصبحت قبيل نهاية القرن العشرين ، وفي ظل النخب الوطنية ، ابعد ماتكون عن تحقيق اهداف قادة الاستقلال ، على صعيد السياسة كما على صعيد الاقتصاد.
في اوائل السبعينات الميلادية أثار أ . سيكوني جدلا واسعا بين المثقفين والسياسيين الافارقة ، حينما اصدر كتابه المسمى  افريقيا اساءت الانطلاق الى حد اعتبره بعضهم تدليلا على ان هذا المفكر المعروف بتعاطفه مع هموم العالم الثالث ، مايزال محملا بنزعة استعلائية مستمدة من انتمائه الى اوربا ، التي ينسب اليها اسباب التخلف المسيطر على الامم الافريقية .

سياسة التظاهر
والحق ان سيكوني لم يبد اي قدر من التعاطف ، وهو يوجه النقد الى المناهج والسياسات ، التي اتبعتها النخبة الافريقية ، في الفترة التي اعقبت زوال الاستعمار الاوربي المباشر ، بل انه اعتبر هذه النخبة مضللة او متواطئة ، في ابقاء اوضاع التخلف الاجتماعي والاقتصادي ، دون علاج جذري او طويل الامد

وقد نال التوجه التظاهري في السياسة والاقتصاد ، اكبر قدر من النقد في ابحاث سيكوني ، الذي لم يحظ بشهرة كبيرة رغم انه يعتبر احد الاوائل ، الذين اشاروا الى العلل الجوهرية في اقتصاديات العالم الثالث ، ولاسيما في جانب الارتباط الحرج ، بينها وبين التمويل الخارجي من جهة ، وبينها وبين السياسة من جهة اخرى .

ان قيمة ابحاثه تظهر الان بجلاء اكبر ، فقد اعتمد على تحليل اقتصاديات الدول النامية ، في الربع الثالث من القرن العشرين ، ليستنتج ان معظم الدول المعنية ، ستواجه قبل نهاية القرن اضطرابات اجتماعية وسياسية ، تطيح بمعظم ما اعتبره السياسيون في تلك المرحلة ، مكتسبات او انجازات تستحق الاشادة

تعليم يصنع التخلف
ومن ذلك على سبيل المثال السياسات التعليمية ، فبينما كانت الحكومات تعتبر التعليم الريفي ابرز مظاهر النهوض الحضاري ، فان سيكوني اعتبره مجرد قناة ، ترفد نهر البيروقراطية المدينية بالاعوان .

 ومن خلال البحث المستوعب للعلاقة بين سياسات التعليم في الريف ، وبين هجرة المتعلمين الى المدينة ، استنتج ان المدارس الريفية لاتفعل شيئا ، سوى امتصاص الطاقة البشرية من الجوهر الاقتصادي لتلك الدول ، اي الزراعة الريفية ، وراى ان  هذه الحركة  ستؤدي الى تدمير امكانات النمو الاقتصادي ، مما سيضطرها في مرحلة لاحقة الى العودة للاعتماد على المساعدات الخارجية ، على مستوى تمويل العجز ، او على مستوى العون المباشر ، الغذائي وغيره .

وخلاصة ما اراد سيكوني قوله هو ان معظم الدول الافريقية ، تستطيع النهوض اعتمادا على تطوير الاقتصاد الزراعي ،  لانها تملك الامكانات والفرص ، المادية البشرية ، التي تؤهلها للنهوض في هذا المجال .

جوهرية الريف
 وهذا يعني ان توجه الدولة جل اهتمامها الى الريف ، بل ان تعتمده كقاعدة لمشروعية عملها السياسي وشرعية بقائها ، خلافا للسياسات التي اتبعها الاستعماريون قبل ذك ، والتي تضمنت على المستوى الاقتصادي ، تعزيز اعتماد البلاد على تصدير المواد الخام ، وعلى المستوى السياسي مساعدة النخبة المدنية ، في السيطرة على خيوط السياسة والحياة العامة ، الامر الذي استتبع تهميش الريف واستثنائه ، ليس من المشاركة في صناعة السياسة الوطنية ، بل وحرمانه ايضا من نصيبه في الثروة الوطنية ، التي يشارك في توفيرها .

وفي الوقت الحاضر فان تنبؤات سيكوني وغيره من المفكرين ، الذي اهتموا منذ منتصف الستينات ، بدراسة واقع التنمية في العالم الثالث ، اصبحت اكثر قدرة على اثبات مصداقيتها ، فليس ثمة دولة افريقية ، بل ليس ثمة قطر من اقطار العالم الثالث ، الا وهو يعاني من الاضطراب الاجتماعي ، الذي لايصعب ملاحظة خلفياته الاقتصادية .

الفقر والانشقاق
ومع انه لايمكن نسبة كل تطور سلبي ، في العلاقة بين المجتمع والدولة الى خلل اقتصادي ، الا ان معظم اسباب عدم الرضى العام ، هي في حقيقتها شعور بالحرمان ، أو عجز عن تحقيق الرغبات ، ان الاكثرية الساحقة من الناس تلخص الرضا ، او تحقيق الذات ، في وجود وضع معيشي ملائم أو قابل للتطور ، وقدرة على تحقيق الامان الحياتي.
وثمة من ينكر هذه العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد والاستقرار ، مدللا على رايه باوضاع البلدان التي تعاني من انشقاقات اجتماعية ، على رغم ما تتمتع به من اوضاع معيشية مريحة ، وهو اعتراض صحيح ، تدعمه ادلة كثيرة .
 لكن يبدو ان المعاناة الكبرى في افريقيا ، ترجع الى فشل الحكومات في تامين مستوى من المعيشة ، يليق بكرامة الاكثرية الساحقة من المواطنين .

ان الفشل على هذا الصعيد قد اثار الشك في مشروعية الدولة ، وعزز الانفصال بين النخبة والقاعدة العريضة من الشعب ، ذلك لان اكثر النخب السياسية في القارة السوداء ، لا تملك ايديولوجيا اخرى تبرر بها وجودها على راس السلطة ، سوى قيادة النهوض الاقتصادي ، او انها على الاقل لم تستطع اقناع الناس ، بان ثمة ايديولوجيا اخرى تستحق الرهان .
وفي بعض الحالات فان الانشقاق قد ارتدى ثوبا اخر ، لايوحي بان الفقر او عدم المساواة ، هو المحرك الرئيس ، لكن الذي لايشك فيه هو ان الجماعات الايديولوجية ، لم تستطع الحصول على الكثير من الأنصار المتحمسين ، خارج المناطق الفقيرة ، او التي تخضع للتمييز .

كما يمكن التاكد من ان الفقر هو السبب الرئيسي ، للانشقاق الاجتماعي الواسع النطاق ، من ملاحظة ان الدول التي تنعم بمستوى معقول من المعيشة ، تعتبر اقل عرضة للازمات الاجتماعية ، او على اقل التقادير فان الازمات التي تتعرض لها ، لاتكون خطيرة وشاملة ، بمثل ماهي عليه في البلدان التي تعاني عجزا على المستوى المعيشي ، او تمايزا شديدا بين قطاعات المجتمع .

  4 فبراير 1996  

05/06/1995

سياسة الامس وتاريخ اليوم



ماهو حدث سياسي اليوم سيصبح بعد ايام تاريخا ، ومانسميه اليوم تاريخا ، كان في زمنه وضمن ظروف تكونه ، حدثا سياسيا ، وطلب الى فيلسوف معاصر ان يعرف مهنة الصحافة فاكتفى بالقول ان ( الصحافي هو مؤرخ اللحظة ) وقد اصبحت هذه المقولة  تعريفا للعلاقة بين كاتب السياسة وكاتب التاريخ .
والتاريخ يفعل فعله في الاحداث كما يفعل في الاشخاص ، فهو يجردها من ظروفها ، ومن التفاصيل الصغيرة التي تحيط بها ، فيبقى على ما هو علم بارز منها ،كما الانسان اذ يجرده من تفاصيل حياته ، ويبقي منه اسمه وابرز ماكان في حياته ، فترى نصف قرن من حياة شخص ، ملخصة في صفحة او بضع صفحات ، بينما تسع حياته لو اردنا جرد تفاصيلها ، الاف الصفحات .

الرواية والتحليل
ومعظم الناس لايحبون التفاصيل الصغيرة والدقيقة ، في حياة الاشخاص كما في الاحداث ، الا بقدر ماتحتويه من اثارة للمشاعر الانسانية ، اي بمقدار ماتوجد هذه التفاصيل من علاقة عاطفية بين المتفرج ورجل الحدث ، أو بينه وبين المشاركين فيه ، ولو ان صحيفة كتبت عن حادثة حريق مثلا ، فوضعت الخبر التفصيلي عن مجرياته في جهة وعرضت تحليلا وشهادات فنية او هندسية في الجهة الاخرى ، فالمؤكد ان اكثر القراء سيكتفون بالخبر ويتركون التحليل  .

ويرجع ذلك في ظني الى اعراض عفوي ، عن التعامل التحليلي مع الصورة الكاملة للحدث ، وقد ورد في الاثر (اعقل الخبر عقل رعاية لاعقل رواية فان رواة العلم كثير ورعاته قليل) .  لهذا لايرغب الا القليل من الناس ، في مشاهدة البرامج الوثائقية التي يعرضها التلفزيون ، بينما ـ على العكس من ذلك ـ يقبلون على مشاهدة الاعمال الدرامية ، لاسيما تلك التي تنطوي على قدر من المبالغة او اثارة الخيال.
 لقد استطاع رجال السينما الامريكية ، ان يفرضوا انفسهم على حياة الناس ، في شتى بقاع العالم ، حينما قدموا ابطالا مثل ( رامبو ) الذي يمثل بالنسبة للمشاهد ، تعبيرا عن الرغبة العميقة للانسان في اختراق حدود المنطق ، مايتعلق منه بالقدرات الجسمانية والروحية للانسان الطبيعي ، او مايتعلق بالامكانات الموضوعية لمجال العمل المحيط بالانسان .

العالم سينما
ان جميع الذين يشاهدون ( رامبو ) يعرفون في قرارة انفسهم ، ان المسألة تمثيل في تمثيل ، وان مايرونه هو عبارة عن سلسلة من الخدع ، التي يجيد السينمائيون حبكها وترتيبها ، لكنهم في لحظة المشاهدة ، كما في لحظة التذكر ، لايرغبون في استذكار هذه المعرفة ، ويفضلون استعراضها في اذهانهم كما لو كانت حقيقة .  بل ان بعض الناس ولاسيما في سن الشباب ، يحتفظون بصور كبيرة لابطال مفترضين مثل ( رامبو ) تعبر عن علاقة الود التي قرروا اقامتها مع هذا البطل ، بالنظر لما تغذيه هذه العلاقة ، من قابلية للتعويض عن نزوع للبطولة الحقيقية ، لايستطيع صاحبه ايجاد الاسباب ، التي تحوله من امل الى حقيقة ، واذ ذاك فان الانسان يحاول الاحتفاظ به كحلم عزيز يحتل مكان الحقيقة ، فيخفف على صاحبه وجع فقد الامل او خيبته .

ويبدو لي اننا نقف من التاريخ (الذي كان سياسة في الماضي) ومع السياسة (التي ستصبح تاريخا في الغد) موقف المتفرج على عرض سينمائي ، تثيرنا البطولات ، ونتفاعل ـ عاطفيا ـ مع الاحداث التي تجري امامنا ، لكن القليل منا ، والقليل جدا فحسب ، هم الذين يغوصون في بحر الحدث محاولين قراءة ماوراء سطوره العريضة ، واذا قيض لنا ان نرتاح الى موقف ، او ان نعجب برجل من رجال الحدث ، فاننا لانجتهد في معرفة الظروف والاسباب ، التي جعلت منه بطلا يستحق الاعجاب ، وربما تخيل احدنا نفسه وقد اصبح مثل ذلك البطل ، لكن ليس الى الحد الذي نسعى معه لاكتساب صفاته وامكاناته ، انه تخيل تولد عن اعجاب واختلط بالحلم ، ثم تشكل في صورة ، حفظت في مكان ما من اروقة الذاكرة ، كما تستريح ملفات الارشيف ، يستدعيها الانسان ساعة اراد الاسترخاء ، ويعيدها الى ملفها ساعة انشغل  بحياته.


وراء المشـــــهد
ماتعرضه علينا وسائل الاعلام ـ وكتب التاريخ بالطبع ـ هو الصورة النهائية للحدث ، اي القشرة الخارجية للصورة ، ولعل التشكيل اللوني او الضوئي للصورة ، يوحي للعين بما ليس فيها حقيقة .
 لكن وراء هذه القشرة ، ثمة عالم من الحركة المتفاعلة ، وثمة نسيج ضخم من الخيوط ، تربط عشرات من الأجزاء المخنلفة الى بعضها ، حتى يتشكل المظهر الخارجي للحدث ، ان حدثا ما في ساعة وقوعه ، ليس الا نتيجة لتلك الحركة وتفاعل الاجزاء . كذلك الامر بالنسبة للرجال ، فظهورهم في الصورة التي تثير الاعجاب ليس وليد ساعته ، بل هو نتيجة مجموعة من الظروف والتفاعلات ، التي سبقت هذا الظهور ، ثمة عدد نادر من الاشخاص صنعوا ظرفهم ، وظهروا في نهاية المسار الذي قرروه ، وشكلوا اجزاءه بانفسهم ، ولهذا يعتبر امثال هؤلاء ، شخصيات تاريخية بكل المقاييس .

 اما غالبية الابطال الاخرين ، فقد ساهموا بقدر في بطولاتهم ، وساهم الاخرون بالقدر الاكبر ، لكن لان التاريخ لايحفظ ـ كما اسلفنا ـ الا المعالم البارزة من الاحداث ، فانه حفظ لنا اسم البطل وصور بطولته ، بينما غيب كل اجزاء الظرف الذي صنع البطولة ، ومكن شخصا من الظهور تحت عنوانها .

قدر قاهر
بالنسبة لعامة الناس فان التاريخ ( الذي كان سياسة بالامس ) والسياسة ( التي ستغدو تاريخا في المستقبل ) ليس خيارا يقبلونه ان رغبوا فيه او يرفضونه ، انه قدر ، وهو لازم لايستطيع منه المرء فكاكا ، ستراه امامك في ثقافتك ، وتراه امامك في معيشتك ، وتراه منتصبا يقرر نيابة عنك مستقبلك الذي ستصل اليه بعد حين.
العالم ميدان يلعب فيه بضعة افراد ويتفرج المئات ، وحينما تنتهي اللعبة يخرج الخاسرون كما الرابحون وقد نالوا شيئا ، قليلا او كثيرا ، عدا المتفرجين الذين دفعوا ثمن التذاكر، واتعبوا حناجرهم في الصراخ ، فهم لم ينالوا غير فرجة مدفوعة الثمن.
اذا كنت لاتستطيع المشاركة في اللعبة ، فانت قادر على ماهو ادنى ، وهو المعرفة بها وباسرارها ، فلعلك تستطيع تقدير مكانك ، حتى لاتفاجئك الايام .

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...