29/05/1995

الناس والسياسة



ان قلة المعلومات المتاحة لعامة الناس حول مهنة السياسة ، هي السبب الرئيسي لشعورهم بغربتها وبعدها عن عالمهم ، وبالنظر الى الظروف المحيطة بالعمل السياسي في العالم الثالث ، ولاسيما عدم الاستقرار ، وماينشأ عنه من مشاحنات يطال شرارها بعض الناس احيانا ، فقد استقر العرف العام على تفضيل البعد عن السياسة ، باعتباره سبيلا للسلامة .
وينطوي تحت القرب من السياسة ممارستها ، كما ينطوي تحته مجرد الحديث فيها سلبا او ايجابا ، وفي بعض الازمنة ـ لاسيما في السنوات الماضية ـ كان الحديث في السياسة لايجري الا بين المقربين وأهل  الثقة ، حتى لو كان مضمونه غير مثير او غير معاد لجهة محددة ، فالحديث كان تدخلا ، و (التدخل في السياسة) كان تهمة خطيرة ، بغض النظر عن مضمون ومعاني ذلك التدخل .

الخوف والجهل
ويبدو لي ان الخوف من السياسة ـ وهو طبع تجده عند معظم العامة وكثير من المثففين في العالم العربي ـ قد ادى بهم الى تجاهل متعمد لما يجري في اروقتها ، تجاهلا ادى بالتدريج الى جهل حقيقي بها وبمضامينها واساليبها . وقد يبدو الجهل بالسياسة ، مريحا لبعض من يعنيهم امرها ، لكنه ـ بالنسبة للحكومات على وجه الخصوص ـ سبب للمتاعب ، ومعيق لمبادرات اصحاب القرار .

وفي ظني ان الكثير من مشروعات الاصلاح التي لم يجر تنفيذها ، انما اعيقت بسبب القلق من ردود الفعل السلبية ، من جانب الجمهور ، او على الاقل من جانب الاشخاص ، الذين يتمتعون بقوة تاثير على الجمهور ، على الرغم من ان تلك المشروعات ، لم تات الا بعد الدراسة والتمحيص ، وبعد ان دارت في اذهان الزعماء ورجال السياسة ، حتى اختمرت وتأكد صلاحها .

ان القلق من الاستقبال السلبي لمشروعات الاصلاح ، هو سبب مهم جدا لتعطيلها ، مع مايترتب على ذلك التعطيل من تفويت للمصالح العامة ، اذكر على سبيل المثال ان سياسات تحرير الاقتصاد التي اتجه اليها عدد من البلدان العربية منذ منتصف السبعينات ، لم تنطلق بالقوة المطلوبة ولا بالعمق الكافي بسبب معارضة الناس لها ، معارضة انطلقت من فهم غير دقيق لفوائد السياسات الجديدة وتاثيراتها على حياتهم وسبل عيشهم .

نتاج السنين
عدم الفهم الدقيق هذا لم يات من فراغ ، بل هو نتاج لسنوات طويلة من الجهل بحقائق مايجري في البلاد ، جهلا ادى بهم الى الريبة في كل مبادرة تقوم بها حكومتهم ، لاسيما اذا بدا انها ستكلفهم بعض العبء في البدايات .

وقد جرت عادة السياسيين العرب على اخفاء الحقائق عن جمهورهم ، او لنقل ـ على سبيل التحفظ ـ انهم لم يعتادوا اعلام الناس بحقيقة مايدور في بلادهم ، من نجاحات ومن اخفاقات .  وتبعت الصحافة ووسائل الاعلام هذه السيرة ، فهي لاتقول للناس الا ماسبق ان قاله اصحاب الشأن ، او ما رغبوا في قوله ، وهو في العادة قطر من بحر الحقيقة ، هذا اذا كان صحيحا .

وأذكر ـ على سبيل المثال ـ جدلا دار بين اثنين من الزملاء ، حول ظروف الاستثمار في بلد عربي كبير ، وكانت كبرى الصحف قد نشرت في ذلك اليوم ، تحقيقا على صفحة كاملة ، حول مصنع للتلفزيون والالكترونيات ، تابع لشركة حكومية قابضة ، وتحدث رئيس الشركة التي تنضوي تحتها مصانع اخرى حول طاقة المصنع ، والمستوى التقني الرفيع لعمله  ، واعتماده على اليد العاملة الوطنية (من الباب الى الباب) واعتبره مثالا ناجحا ، لجهود العرب في نقل التكنولوجيا وتوطينها . وأقسم احد الزميلين ان المقال كاذب (من الباب الى الباب) وقرر الاخر انه لابد ان يشتمل على شيء من الحقيقة ، اذا لم نقل كثيرا منها ، وفي النهاية فقد تحدثوا الى احد مهندسي المشروع ، الذي اخبرهم بان الكلام الذي نشرته الصحيفة ، هو نص كتيب دعائي ، كان المصنع قد وزعه لمناسبة افتتاحه قبل بضع سنوات ، اما رئيس الشركة الذي تحدث للصحيفة ، فهو برتبة وكيل وزارة ، لم يسبق له ان زار المصنع منذ ان تولى منصبه ، اما المصنع نفسه فهو مغلق منذ عامين ونصف ، بسبب نقص العملة الصعبة ، الضرورية لاستيراد المواد الخام وقطع الغيار .
وقد ضحكنا على انفسنا وعلى مجادلاتنا ، وعلى  تمنياتنا الساذجة .

مايقال في العادة
ولو تابعت تصريحات اهل السياسة أو الاعلام في بلد ، لظننت سكان الجنة يحسدون اهل هذا البلد ، على ماهم فيه من نعيم ، فلا مشكلات ولاصعوبات ، بل انتصارات وانجازات ومكاسب تتوالى كل يوم ، واذا وجدت مشاكل فهي تافهة ولاتستحق الذكر ، وهي معروفة ومحددة ، وهناك من يقوم بحلها ، بحيث لايستحق الامر حتى مجرد الالتفات اليه ، فضلا عن القلق  لاجله .

اما اذا اطلت الازمات برأسها فالتبرير موجود في الجيب الثاني ، فمن يتحدث عن ازمة كاذب ، ومن يشير الى مشكلة مغال ومبالغ ، وان مايقال مجرد اشاعات مسمومة يطلقها الاعداء والاجانب ، الذين يتآمرون على البلاد ومكاسبها ، الى آخر قاموس التبرير المعروف .
لقد مضى زمن كانت الاقطار العربية ، تتعرض بالفعل لحملات اعلامية ، تستهدف الضغط عليها لابتزاز مواقف سياسية ، لكن يبدو ان احدا لايصدق الان ان كل مايقال هو اشاعات مغرضة ، لان الناس اصبحوا غير قادرين على ابقاء عيونهم مغمضة واذانهم محشوة بالطين ، خاصة وان اصحاب الشأن من زعمائهم لايتكلمون ، واذا تكلموا فانهم يقيسون كلماتهم بالمثاقيل .

لهذا السبب نجد ان معظم العرب ، لايستمعون الى وسائل الاعلام الوطنية في بلادهم ، واذا استمعوا اليها فانهم لايصدقون ماتقول ، حتى يجري تكراره من مصادر اعلامية اخرى ، ولا أظنني مجافيا للحقيقة ، اذا قلت بان الاذاعة البريطانية ، هي الاذاعة التي تحظى باكبر عدد من المستمعين في العالم العربي ، لاسيما في اوقات الازمة ، حينما يشعر الناس بالحاجة الى المعلومات .
 هذا التطلع العام الى مصادر المعلومات في الخارج ، يستبطن اتهاما لصدقية وسائل الاعلام الوطنية ، وجدوى ماتقدمه للجمهور .

طير في السرب
والحقيقة ان الاذاعة والصحافة لاتستطيع ان تغرد خارج سربها ، فاذا كانت السياسة مغلقة في بلد ، فلابد ان تكون الصحافة والاذاعة كذلك ، واذا كانت مفتوحة وشفافة ، فان وسائل الاعلام مجرد تعبير عن حقيقة تجري ، قد توسع اطارها قليلا أو قد تضيقه قليلا ، لكنها لاتستطيع ان تكون غير ناقل لحقيقة تجري على ارض الواقع .

لو كان الناس يعرفون حقيقة مايجري في بلدهم ، اذن لاستطاعوا توقع ماسيأتي من أزمات ، واذن لبادروا في تقديم العذر لحكومتهم اذا واجهوا المشكلات ، بل ولعل بعضهم يبادر الى شد ازر الحكومة ومساعدتها في البحث عن علاج ، ولاشك ان بعض الجمهور قادر على تقديم العون اذا وجد الطريق مفتوحا وتلمس حرارة الترحيب .

والعمل في السياسة في أي بلد من البلدان العربية ، زراعة للهموم ووجع القلب ،  ويبدو لي ان معظم السياسيين العرب ، كثير منهم على الاقل ، يرغب في ان يشاركه الناس همومه ، لكنه يجد صعوبة في الانتقال من الانغلاق الكامل الى الانفتاح ، من الحجب الثقيلة الى الستائر الخفيفة الشفافة .

 وثمة من السياسيين من لايزال مسكونا بهاجس الانكشاف امام الاعداء ، او انكشاف العيوب امام الاصدقاء ، فهو بين اقدام واحجام ، يدفعه الى الصراحة رغبته في تخفيف اعبائه ، ويعيده الى محله خوف العواقب .
لكن من ناحية اخرى فان اغلاق الابواب لايحل المشاكل ، وان أخر انكشافها ، كما ان فتح الابواب لاياتي بالحلول السحرية ، انه وسيلة للتواصل بين اللاعبين وجمهورهم ، لجعل الميدان اكثر الفة واكثر دفئا .

وهو الى ذلك الوسيلة الوحيدة لجعل الجمهور سندا وعونا في المشكلات ، فضلا عن كونه سبيلا لتمكين السياسيين من انفاذ اراداتهم ، واطلاق ايديهم في طريق النجاح .


نشر في (اليوم) 29 مايو 1995

17/04/1995

البيئــة .. حاجــة اقتصــادية ايضــا



اينما ذكر الخليج العربي تواردت الى الاذهان صورة  البترول ، البترول وهو مكائن تنبش الارض بحثا عنه ، والبترول وقد تحول من زيت اسود كريه الرائحة كما وصفه المكتشفون الى ثروة تصنع جمال الحياة وناعم العيش ، فالبترول هو سر الخليج الاعظم ، وهو صانع حاضره.

لكن هذا الزيت الاسود الثمين ، هو ـ من الناحية الاخرى ـ المصدر الرئيسي للتحدي البيئي في المنطقة ، ثمة اسباب كثيرة يحتمل ان تؤدي الى افساد البيئة النظيفة ، التي نمني النفس ببقائها والتمتع بنعيمها ، لكن البترول يبقى هو التحدي الكبير .

شهدت حرب الخليج الثانية تبلور المخاطر التي يمثلها البترول على البيئة المحلية في الخليج ، فقد ادى القصف المتبادل الى اصابة عدد من منشآت البترول اصابات مباشرة او غير مباشرة ، وشعر الناس لاول مرة بحقيقة مايتهدد حياتهم من وراء هذا العملاق ، الذي كان في زمن السلم مصدرا للرفاهية ونعيم العيش .


البيئة كسلاح
ويعتبر التخريب المتعمد الذي قام به الجيش العراقي خلال المراحل الاخيرة للحرب ، السبب الرئيسي للمخاطر البيئية التي شهدتها هذه الحرب ، فقد قام الجنود قبيل انسحابهم من جنوب الكويت ، بتدمير الصمامات وخطوط النقل المتصلة بالابار ، وجعل الزيت الخام يتدفق باتجاه شاطيء الخليج ، في الوقت الذي كانت المنطقة تتعرض للقصف المدفعي والصاروخي ، الامر الذي ادى الى اشتعال الزيت المتدفق وحول المنطقة المحيطة بالحقول الى بركان ، يقذف بالادخنة السوداء ، والغازات الضارة الى أجواز الفضاء .

وقيل في تفسير هذا العمل التخريبي ، ان العراقيين كانوا يريدون تغطية انسحابهم السريع من المنطقة ، باشغال المقاتلين على الجبهة الاخرى ، او لمنع انزال محتمل للمشاة والمعدات على الشواطيء ، لكن كثيرا من المحللين اعتبروا غرض القيادة العراقية أوضح من هذه التفسيرات ، وهو يتلخص في اشعار الطرف الآخر ، بقدرتها على جعل الحرب مكلفة وفادحة الاضرار ، فالتخريب المتعمد لمنشآت مدنية ، لايؤدي في حقيقة الامرالى اضعاف الجهد العسكري ، قدر مايؤدي الى بلبلة الراي العام .

لبضعة اشهر بعد التحرير بقيت اراضي الكويت مغطاة بسحب من الدخان الاسود ، كانت ـ لكثافتها ـ تحجب الشمس في الاسابيع الاولى ، ثم تلاشت حتى انتهت بمرور الزمن ، وقد ادت كما قالت الصحف الكويتية الى مضاعفة معدلات الاصابة بامراض الجهاز التنفسي ، فضلا عن الامراض الناتجة عن القلق والتوتر النفسي ، وكنت اظن ان من المهم للمنطقة ، ايلاء الموضوع القدر الكافي من الاهتمام على المستوى العلمي ، لكن لم يتسن لي الاطلاع على دراسات متكاملة ، حول مخاطر التلوث البترولى في المنطقة ككل ، ولعلها لاتكون موجودة او متداولة ، ماخلا الدراسات التي وضعتها الهيئة الاقليمية لحماية البيئة البحرية ، التي كانت نشطة قبل الحرب ، وركزت على مشكلات التلوث البترولي في السواحل .
نماذج وطنية
وبالنظر لهذا النقص الملحوظ ، فقد قامت وزارة الدفاع بتاسيس المشروع السعودي للتوعية البيئية ، الذي يأخذ بعين الاعتبار موضوع نظافة البيئة كتحد راهن ومستقبلي ، وحسب علمي فان هذا المشروع هو الاول على المستوى الخليجي ، الذي ينظر للقضية من وجوهها المختلفة ، ولاسيما المحافظة على التنوع البيئي ، وهو الجانب غير المثير للاهتمام كثيرا ، على رغم جوهريته واهميته .وعلى المستوى الرسمي ايضا فان الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس ، بذلت جهدا طيبا في وضع ضوابط ملزمة ، على المعدات والاجهزة التي تنتج غازات او نواتج ملوثة ، وبين ابرزها السيارات ومعدات النقل ، اضافة الى المكائن المستخدمة في الصناعة ، فضلا عن الموصفات الخاصة بالاغذية المستوردة .

 لكن لايزال جهد الهيئة مركزا على السلع المستوردة ، وهذا امر قابل للتفهم اذ انها ليست هيئة بيئية بالمعنى الفني ، بل هيئة رقابة على المواصفات ، تنشط اساسا في نقاط الاتصال بين المملكة والاسواق الدولية . لذا فالذي نتطلع اليه هو تطوير مشروع التوعية البيئية ، ليأخذ على عاتقه مجموع العناصر التي تتعلق بالبيئة ، وذلك يقتضي ان تتحول الى هيئة وطنية ، قادرة على وضع المواصفات او اقتراح الانظمة .

نشير ايضا الى جهد تقوم به هيئة اخرى غير بيئية ، لكنها تقدم خدمة جليلة على هذا الصعيد ، وهو مشروع هيئة الاغاثة الاسلامية للاستفادة من علب الالمونيوم المستعملة ، اننا نستهلك كل يوم عشرات الالاف من هذه العلب ، التي تباع فيها المرطبات ، وقد وزعت الهيئة حاويات في بعض المدن لتلقى فيها العلب الفارغة ، حيث يجري صهرها واعادة انتاجها ، فتوفر الهيئة من بيع الالمونيوم الخام تمويلا لبعض مشروعاتها الخيرية .

البيئة .. اقتصاد ايضا
 ان المخلفات المعدنية هي واحدة من مسببات التلوث الرئيسية ، لكنها من الناحية الاخرى تمثل مصدرا للثروة لو اعيد تدويرها واستخدامها كخامات صناعية ، وفي بعض الدول الاوربية تضع البلديات حاويات لكل شيئ قابل للتدوير، من الصحف المستهلكة الى القناني الزجاجية الى علب الالمونيوم والاخشاب ، ويلعب الاعلام والتعليم دوره ، في اقناع الناس وتعويدهم علىان يحملوا مخلفاتهم من هذه المواد الى تلك الحاويات ، التي تتحول من عبء يكلف التخلص منه اموالا كثيرة الى مصدر للمال .

وعلى اي حال فان اعادة تدوير المواد المستهلكة هو بحد ذاته باب واسع ، نحتاج للدخول فيه لاعتبارات عديدة ...
اولها التخلص من المواد المستهلكة التي تسبب اضرارا للبيئة ، اوعلى اقل التقادير خفض كميتها الى الحد الادنى .

 وثانيها المحافظة على مواردنا الطبيعية غيرالقابلة للتجدد ، او البطيئة التجدد .
 وثالثها اضافة نشاط جديد الى الحياة الاقتصادية يوفر مزيدا من الدخل ومزيدا من فرص العمل ، فضلا عن انه يوفر بعض المال العام ، الذي ينفق على نقل النفايات والتخلص منها .

لقد ادى التحسن السريع في مستوى المعيشة ، الى ايجاد نمط حياتي طابعه العام الاستهلاك المفرط ، وليس من المقدر ان ينخفض هذا المستوى من العيش ، خلال السنوات القليلة القادمة ، الى حدود مقلقة ، لكن الشيء الذي يبدو مؤكدا  ،  هو انه لن يتطور الى مراحل اعلى خلال الفترة نفسها ، بالنظر الى الاوضاع الاقتصادية العامة ، التي تمر بها المنطقة والعالم ، ولهذا فمن الضروري ان نفكر جديا في الحفاظ على الحد الاقصى الممكن من الموارد المحلية ، التي سيكون استبدالها مكلفا لو فرطنا فيها بلا حكمة ، ويبدو لي ان سياسة شاملة تعتمد على دراسة موسعة لكل مايمكن اعادة تدويره والاستفادة منه تكرارا ، اصبحت اليوم شديدة الاهمية ، وستزداد اهمية مع مرور الزمن .
اليوم   17 ابريل 1995

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...