20/12/1994

التراث الاسلامي بين البحث العلمي والخطاب

 يتفق معظم المتحدثين في الثقافة العربية على ان الارث الثقافي الذي انتقل الينا من الاسلاف ، عظيم الفائدة اذا ما  اتخذ دعامة للجهد الهادف الى تجديد الحياة الاجتماعية في العالم العربي ، ذلك ان التراث ومعطياته الثقافية تشكل جانبا مهما من ذهنية الانسان العربي ، التي تتضمن تصوراته عن نفسه والاخرين ، وطريقة تفكيره وتطلعاته والقيم التي تنتظم حياته ، فهو من هذه الناحية  يمثل الوعاء الذي يحتضن مقومات هويته .

ويبدو لي ان العرب يتاثرون بموروثهم التاريخي بدرجة اعظم من اي شعب آخر، ربما لان تكون وتراكم هذا التراث ، قد تقارن زمنيا وموضوعيا مع قيام الامة العربية ، التي تكونت كحقيقة وكيان محدد الملامح ، في  ظل سيرورة تاريخية كان محركها وناظمها الاسلام ، بكل مافيه من عقائد وافكار وقيم ونظام حياة .

لهذا فمن الصعب بل من المستحيل التعامل مع التراث ، باعتباره قابلا للالغاء او التهميش ، فهو متموضع في مكان القلب من كل ماله علاقة بالثقافة في حياة الانسان العربي ، وعليه فان الخيار المنطقي هو التعامل ايجابيا مع التراث في اي عملية ثقافية تتعلق بالمجتمع العربي.

البحث عن منهج
 معظم الراغبين في التعامل مع التراث ، مثل الذين يشككون في مكانته ضمن المنظومة الثقافية العربية ، لايزالون ـ مع افتراض امثل الاحتمالات ـ يبحثون عن المنهج الاسلم في التعامل مع هذه التجربة التاريخية العظيمة ، بكلمة اخرى فاننا لانزال نفتقر الى منهج متفق عليه ، للبحث في التراث بل وفي المكانة التي ينبغي له ان يحتلها كمرجع او كمقياس .
وفي هذا المستوى فان الجدل الاساسي ينصب على مايفترض انه قراءة انتقائية للتراث ، لاتاخذ بعين الاعتبار مجموع العوامل التي تتشكل منها التجربة التاريخية للامة ، بل تنتقي مايرى الباحث فيه تدعيما لرأي يتبناه او يدعو اليه ، ولذلك تجد تكرارا ان باحثين يدعون الى اراء متناقضة ، بامكانهم العثور على مايكفي من الادلة من تلك التجربة لكي يدعم كل منهم رايه ، مما يثير الشك في صحة المرجعية التي توفر الدعم للراي ونقيضه في آن واحد .

الخطاب الجماهيري
بالنسبة للباحثين المحترفين فان القضية تبدو اسهل تناولا ، اذ يبدو من السهل الاتفاق معهم على ايجاد تراتب منهجي، بين ماهو دين (نص ديني ) وماهو معارف دينية (شروح او تفاسير او استنباطات من النص ، او اجتهادات محكومة بالقواعد المنصوصة) وماهو علوم تبلورت بموازاة العلوم  الدينية ، دون ان تكتسب المرتبة الخاصة بالعلوم الدينية ، او علوم تبلورت في الاطار الاجتماعي للجماعة المسلمة ، فهي منسوبة للمجتمع وليس الدين  .

لكن الصعوبة تاتي من الاختلاط القائم بين البحث العلمي والخطاب الجماهيري ، اذ يضطر المتحدث الى عامة الناس ـ بحكم العادة ربما ـ  لعرض العديد من العناصر التاريخية او الثقافية التراثية المصدر ، من اجل اثارة حماسة المستمعين ، وقد جرى العرف على التساهل في الاستدلال بما يبدو ـ ظاهريا على الاقل ـ غير مخالف للاحكام الشرعية ، من اجل تشجيع الناس على الاهتمام باعمال الخير او توجيه افكارهم الى الحقائق التي لاينبغي لهم ان يغفلوها .

وهذا المنهج على الرغم من سلامة مقاصده ، يؤدي ـ في احيان كثيرة ـ الى اشاعة افكار او قيم لايمكن التاكد من صدقيتها ، نحن نعلم ان الناس يتاثرون بالخطاب الذي يحوي اكبر قدر من الشواهد والاشارات الحادة ، المثيرة للنشاط الذهني في بعد واحد ، وهم يستريحون الى حشد الادلة وراء الفكرة التي يُدعون اليها ، الفكرة العامة ، المطلقة والاحادية البعد ، التي لاتحتمل ـ في اذهانهم على الاقل ـ النقض او التخصيص  .

 ويمكن لنا ان نستوعب خطورة هذا المنحى ، اذا ما وضعنا الافكار المتداولة بين عامة الناس عن الدين والتاريخ على مائدة النقد ، واقمنا مقارنة بينها وبين ماهو ثابت الصحة ، عندها سنكتشف ان العديد مما يتداول باعتباره بديهيا او متعارفا على كونه صحيحا ، هو في الحقيقة غير ذلك ، وقد جمع الشيخ ناصر الدين الالباني نحو خمسة الاف من الروايات ، المنسوبة للرسول عليه الصلاة والسلام ، مما تحفل به الكتب ويتحدث عنه المتحدثـون ، وهي مشكوكة او كاذبة ، وقد وجدت بينها عددا كبيرا مما تسالم الناس على صحته ، وتعارف المتحدثون على قوله باعتباره ثابتا بل بديهيا ، ومثل ذلك يمكن القول عن القضايا التاريخية والاراء في مختلف القضايا والامور ، مما يحتاج الى تمحيص ، لكنها تقال للناس من باب التساهل او الطمع في ان تساعد على اقناعهم بالافكار الصحيحة ، لكنها ـ بعد زمن ـ تصبح جزءا من ذاكرة الناس وتتداخل في النسيج الاصلي فلايعود من الممكن ـ عند غير الباحثين المختصين على الاقل ـ  تمييزها عن العناصر الصحيحة .

زمن العجلة
ومما يزيد الطين بلة ان كثيرا من المشتغلين بالشأن الثقافي ، ممن يتحدثون للناس او يكتبون لهم في وسائل الاعلام المختلفة ، لاينفقون في البحث العلمي من وقتهم الا القليل ، وقد وجدت من متابعة لعدد من هؤلاء ان معظمهم لديه اختصاص معين لكنه يتحدث في كل قضية ، كما لو انه قد كشف له غطاء العلم ، فهم في ممارستهم للدعوة والتبشير بالافكار التي يتبنونها ، لايتوقفون عن الحديث في اي موضوع طالما كان يخدم تلك الافكار ، بغض النظر عن قدرتهم على التعامل معها او نقدها ،  وغالبا ماتجد احدهم شاغلا كل وقته في الكتابة او التبليغ والحديث الى الناس ، بحيث لايتبقى لديه سوى القليل جدا من الوقت يصرفه بالكاد في استذكار مايريد الحديث عنه في اليوم التالي ، ومثل هذا لايستطيع تخصيص الوقت الذي يحتاجه ـ في العادة ـ من يريد التمحيص ، وياخذ على نفسه التحقق من كل امر قبل اعلانه على الناس . هذه الطائفة من المشتغلين في الشان الثقافي هي الاكثر تواصلا مع الناس ، وهي في الوقت ذاته اقل محترفي العمل الثقافي بذلا للجهد في الانتخاب والاختيار .

وجود مثل هذه الحالة ، وهي امر واقع لايسع احد الغاءه ، هو مما يؤكد الحاجة الى بحث واسع يستهدف تقييم العناصر المختلفة التي يتشكل منها موروثنا الثقافي ، لابراز ماهو صحيح وتسليط الضوء على ماهو مصطنع او فاقد الصلاحية ، وهذا بدوره يدعو الى ايجاد منهج نقدي متوافق عليه لتقييم تلك العناصر ، اضافة الى اشاعة مناخ من التسامح ، يوفر الفرصة لنقد الافكار التي يعرضها هذا او ذاك من المتحدثين في الشأن الثقافي ، حينها سيكون كل متحدث مطمئنا الى ان مايعرضه يتمتع بالموثوقية او مواجهة النقد ، حتى لاتقال الافكار للناس ، فيترك الغث منها والسمين يدور في الانفس فيبني من جهة ويهدم من جهة اخرى .

نشر في (اليوم) 17 رجب 1415 - (20 ديسمبر 1994)



مقالات ذات علاقة :

مقالات  ذات علاقة
-------------------


13/12/1994

دولة واحدة ... مجتمعات عديدة



خلال الاشهر القليلة الماضية تابعت وسائل الاعلام عددا من القضايا التي تبدو في ظاهرها مختلفة باختلاف مواقعها ومبرراتها ، على الرغم من كونها تمثل تجسيدات لمشكلة واحدة ، الا وهي مشكلة التنوع القومي والثقافي ، في اطار الدولة الواحدة وحدود هذا التنوع ، من اتفاق الولايات المتحدة مع كوبا على الحد من هجرة المواطنين الكوبيين ، الى منع المحجبات من دخول المدارس الفرنسية ، مرورا بالجدل الدائر في السودان حول تطبيق الشريعة ، وانتهاء بمحاكمة النواب الاكراد في البرلمان التركي .

الدولة القومية
ظهرت فكرة الدولة القومية في اوربا في اواخر القرن التاسع عشر ، كواحدة من المحاولات الهادفة الى حل مشكلة التنافر الاجتماعي ، الناتج عن تعدد الثقافات وتعدد القوميات في الدولة الواحدة ، وفي ذلك الوقت فان طبيعة النظام السياسي في اكثر الاقطار الاوروبية ، كانت توجد اسبابا لقيام تقسيم طبقي على اساس الانتماء القومي ، مما يجعل طائفة من المواطنين محكومة بارادة الطائفة الاخرى ، فتشكل الاولى مجتمع الدرجة الثانية ، بينما تستأثر الثانية بالدرجة العليا ، ومايترتب عليها من امتيازات ومكاسب ، بل ان بعض الامبراطوريات قامت بمحاولات جادة وعنيفة ، لتذويب القوميات والثقافات في بوتقة القومية المسيطرة ، مع ما استتبع هذا السعي من تكاليف باهضة ، على الصعيد المادي والبشري ، كما على الصعيد السياسي ، ولاينسى معظم المؤرخين سياسة الفرنسة في الجزائر ، ولاسياسة التتريك التي قادها حزب تركيا الفتاة ، عشية الغروب المؤلم لشمس الدولة العثمانية ، فضلا عن محاكم التفتيش المشهورة ، التي اعقبت سقوط الدولة الاسلامية في الاندلس .

تنوع باهظ الـثمن
وفي الفترة بين الحربين العالميتين حاول الحزب النازي بزعامة ادولف هتلر ، الذي اصبح من ثم الحزب الحاكم ، احياء هذه النزعة وتأجيجها على نطاق اوسع ، يقوم على التمييز بين الالمان ، باعتبارهم النموذج الانساني الاصفى والارقى ، وبين بقية سكان العالم الذين اعتبرهم من الدرجة الثانية ، وادى ذلك الى الويلات والمآسي المعروفة في الحرب الكونية الثانية .
اما في العالم العربي ، فثمة امثلة عديدة على التنافرات السياسية ، التي نتجت عن التعدد الثقافي او القومي في القطر الواحد ، من بينها الحرب الطويلة المزمنة في شمال العراق ، بين الحكومة والاقلية الكردية ، والحرب الاهلية اللبنانية التي استعرت بين الطوائف الدينية ، مرتين على الاقل خلال اقل من قرن ، وحديثا جدا الدعوة المتعاظمة بين الجزائريين الذين يرجعون الى اصول بربرية ، للحصول على وضع مميز ضمن الدولة الجزائرية .

يطمح السياسيون الى دولة ذات مجتمع واحد ، بثقافة واحدة ، لاتقاء التعدد الذي قد يصبح في وقت من الاوقات ، مبررا للتنافر الاجتماعي ، لكن يبدو ان تحقيق مثل هذا المجتمع ، لم يعد الان ضمن قائمة الممكنات على الصعيد السياسي ، بل ان العالم يسير حثيثا باتجاه مستويات من التنوع الثقافي داخل كل دولة ، تعيد من جديد صورة الامبراطوريات الكبرى ، التي سادت في ازمان سالفة ، وضمت تحت لوائها قوميات وشعوبا عديدة ، على بقاع واسعة من الارض ، كما هو الشأن في الدول الاسلامية المتعاقبة ، وامبراطوريات القرون الوسطى الاوربية ، ان تزايد الاهتمام بقضية حقوق الانسان من جهة ، وتحرير التجارة الدولية من جهة اخرى ، اضافة الى التقدم العظيم في وسائل الاتصال الجمعي ، ولاسيما في الربع الاخير من هذا القرن ، يؤذن بسقوط الحواجز السياسية التي تفصل بين الدول القومية ، كما يعمل على تفتيت الحدود الثقافية ، التي تشير الى خصائص لمجتمعات تتميز بها عمن سواها .

تعدد تحت سقف واحد
وبالنظر الى هذه التطورات ، فان الرهان القديم على امكانية قيام مجتمع نقي العنصر ، موحد الثقافة ، اصبح جزء من الماضي ، وحل محله قبول يتزايد مع مرور الزمن ، بفكرة المجتمع المتنوع والمتعدد الثقافات ، ضمن الاطار القانوني لسيادة الدولة .
لكن التعدد كان في الماضي ارضية للتنافر الاجتماعي ، ادى في احيان كثيرة الى نزاعات سياسية مكلفة ، ولذلك فان اعتماده قاعدة للعلاقة بين الدولة الحديثة والمجتمع ، بحاجة الى منهج في العمل واجراءات سياسية ، تتيح معالجة الاشكالات التي لابد ان تنتج عن الوضع الجديد .
ان اهم جزء من منهج العمل ، هو الاعتراف بحق كل مجموعة ثقافية في التمتع بخصوصيتها ، وحماية حقها الكامل في التعبير عن توجهاتها الثقافية ، بما لايصل الى الاضرار المادي او المعنوي بالمجموعات الاخرى ، وهي تحصل على هذا الحق في مقابل اقرارها الكامل بسيادة الدولة ، وتعالي القانون الوطني ، ومعالجة اي جزء من ثقافتها الخاصة ، ربما ينطوي على توجهات مخالفة لمصالح مجموع البلاد .

كما ينبغي اتخاذ اجراءات تستهدف تأكيد الهوية الوطنية ، الجامعة لمختلف الافراد والمجموعات الثقافية والاجتماعية في البلد الواحد ، والتاكيد على اعتبار هذه الهوية وتطبيقاتها ، حاكمة على اي مجموعة بمفردها ، بالنظر لكونها تمثل الحد القانوني والمعترف به ، لمفهوم المصلحة العامة الذي يرجع اليه الجميع .

وياتي في طليعة تلك الاجراءات ، مساعدة كل مجموعة على الانفتاح على الاخرى ، ثقافيا واقتصاديا ، حتى يبقى التنوع في حدوده الطبيعة ، كخاصية للجماعة ، فلا يتعداها الى الحدود المبغوضة ، كأن يصبح مبررا للتعالي على الغير او اعتزالهم .

 وفي الولايات المتحدة ومعظم الدول الاوربية ، التي يهاجر اليها مئات الالاف من البشر كل عام ، تتبنى الحكومات سياسة مزدوجة لاستيعاب المهاجرين ، تتضمن ـ من جهة ـ التاكيد على كون وطنهم الجديد هو الوطن النهائي الذي يختص بالولاء والحب ، كما تتضمن ـ من الجهة الاخرى ـ حماية حقهم في التعبير عن هويتهم الثقافية الخاصة ، مع تعديلها لكي تتناسب ونمط الحياة ، ومتطلبات القانون في الوطن الجديد .

ويظهر من دراسة التجربة الامريكية على وجه الخصوص ، ان سياسة الدمج المتوازن تحقق نجاحات كبيرة ، فهذا البلد الذي تشكل اساسا من مهاجرين من مختلف ارجاء العالم استطاع الحفاظ على مكانته كاقوى بلد في العالم ، واكثرها تقدما ، بل انه استثمر ذلك التنوع في تعزيز نفوذه الاقتصادي والثقافي في معظم بلدان العالم الاخرى ، بخلاف التجربة السوفياتية البائدة ، التي قامت على الدمج القسري وسيطرة الاكثرية الروسية ، فانتهت الى النزاعات القومية الدامية ، التي قلّ ان تخلو صحيفة يومية من اخبار جديدة عنها وعن مآسيها .
نشر في (اليوم) 13-ديسمبر- 1994

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...