10/10/1994

من طموح التغيير الى الحرب الاهلية


قريبا من هذا الوقت من العام المنصرم سئل الشيخ محفوظ النحناح ، السياسي الجزائري المعروف ، عن طريق الخروج من الدائرة الدموية التي سيطرت على الجزائر ـ وكانت الازمة بين الاسلاميين والجيش في ذروتها ـ فأجاب باختصار (كفوا ايديكم واقيموا الصلاة) .

 فحين يتحول الجدل السياسي او الفكري الى حرب اهلية تسيل فيها الدماء انهارا ، فالحل الوحيد هو ان يتوقف الجميع  عن اراقة الدماء ، او البعض ان لم يقبل البقية ، وان ادى الى فنائه ، ولم يكن الامر موصلا الى هذه النتيجة على وجه التاكيد ، فخروج المصارع من الميدان مغلوبا ، لكنه غير متورط في دماء المسلمين ، خير له وانجى من ان يسير الى النصر عبر بحر من الدم ، لايدري اي بعض منه اريق عدلا واي بعض اريق ظلما .

لربما كان الشيخ ـ مثل اكثر المؤمنين الاخرين ـ تواقا الى رؤية الشريعة الاسلامية حاكمة في بلاده ، مسيرة لامورها ، على يده كان تحقيق هذا التحول التاريخي ، او على يد آخرين من دعاة الاسلام ، لكن هذا الهدف الغالي لاينبغي ان يتحقق عبر نفق من الويلات والمصائب .
 ان بلوغ الهدف ولاسيما في مرحلة الكمال المأمول ، يبقى حتى يوم تحققه الفعلي ضمن دائرة المحتملات ، أما الدماء الغزيرة التي يسيلها الصراع من يوم شروعه وحتى يوم حسمه ، فهي نتائج متحققة وفعلية ، انها ايضا دماء المسلمين  المشاركين في الصراع ، بلا فرق بين اولئك الذين شاركوا عن وعي بموضوعه ومؤدياته ، وبين الذين جرجروا اليه قسرا او اضطرارا .

ثمن الهدف
يعتقد بعض الناس ان الاهداف الغالية تستحق انهارا من الدماء تسال لانجازها ، وربما تعاطف اهل الحماسة مع هذا التصوير ، سيما اذا ارتسمت في اذهانهم صور التناقض الشديد ـ الحقيقي او المصطنع ـ بين ماهو واقع في حياتهم ، وما يتصورونه من كمال مطلق في ظل دولة الفكرة المأمولة .
لكن المشكلة ليست في هذا الثمن الغالي ، فلعل هناك الكثير ممن لايمانع في ان يدفع ويضحي ، المشكلة فيما يلي الدخول في حلقة الدم ، حيث الخروج منها ليس بسهولة الدخول فيها ، وحيث تتمدد آثار الصراع على شكل تعقيد في النسيج الاجتماعي ، من مظاهره سيادة الخوف والشك وانعدام الثقة والامان ، وتراجع احتمال الخير من الاخرين وازدياد احتمال الشر والسوء ، وانتشار التفسيرات المتشائمة او المشككة لكل حركة من حركات من يصنف بانه طرف آخر ، واستحسان عقلية التآمر ، بدل عقلية التعاون ، وبصورة عامة انعدام حالة التوافق والتراضي ، التي تؤسس للمحبة واالشراكة بين فرقاء المجتمع المختلفين ، اي استبدال السلام الاجتماعي القائم على شعور كل طرف بالحاجة الى الاخر ، بتوازن القوى القائم على بديل نقيض ، هو سعي كل طرف للاستقلال والاستغناء بامكانياته عن الاخر ، اي تحول المجتمع الى مجتمعات متعددة وان جمعتها ارض واحدة .

وعلى صعيد المعيشة يؤدي انعدام الاطمئنان المترافق مع ظرف الانقسام ، الى تعطيل العديد من عناصر الحركة التقدمية في الحياة ، فالخوف على المستقبل او الخوف من التقلبات السياسية يؤدي الى تباطؤ النشاط الاقتصادي ، ويعيق الاستثمارات الكبرى الضرورية للنمو والرفاهية ، كما يختزل الحياة الثقافية في الصراع اللفظي والخطابي بدلا من النشاط العلمي ، ويقلص مساحة الاعتدال في المجتمع لصالح التطرف على كل صعيد.

وثمة بين الطامحين من لايهاب المغامرة ، حيث يوفر ظرف الانقسام هذا لبعض الناس  فرصة الارتقاء الاجتماعي السريع ، مما لايتحقق بنفس السهولة في المجتمع المتوحد المتوافق ، فهو من هذه الناحية سبيل الى تبديل في توازن القوى الاجتماعي ، ليس لصالح الاكفاء بل لصالح الاقوياء والمغامرين .

هذه النتائج المأساوية هي التي توفر المبررات للتساؤل الملح عن ثمن الانجاز ، اذ يحكم العقل الطبيعي بفساد الصفقة التي تكلف مايزيد عن المكاسب المرجوة منها ، ونحن في اي نشاط حيوي انما نتعقب مصاديق المصالح التي يتعارف عليها العقلاء ، كما نتجنب المفاسد ، فهل يستحق السعي الى الهدف المنظور كل هذا الثمن؟ .

  سيجيب العديد من الناس بان اسلمة الدولة يستحق فعلا هذا الثمن وما هو اعلى منه ، وهو صحيح على افتراض ان الوصول الى الهدف بكماله المأمول مؤكد او هو ضمن دائرة الاحتمالات الغالبة ، ثم انه قد يعتبر صحيحا اذا ثبت انحصاره في هذا السبيل دون غيره ، اما اذا كان المتحصل دون مستوى الكمال ، كما يظهر من بعض التجارب السابقة ، او مع وجود سبل أخرى لايترتب عليها تقديم الخسائر الباهضة ، فان القبول بخيار الصراع المسلح والانجرار من ثم الى الحرب الاهلية ، يصبح مغامرة غير عقلانية .

اخلاقيات الاختلاف
في سبيل الارتقاء الحضاري فان الحاجة ماسة الى جو متوتر في النطاق العلمي ، يتحقق بتوفير الحرية والاعتبار الاجتماعي للباحثين واهل العلم ، وهذا يختلف اختلافا بينا عن التوتر في النطاق الاجتماعي ، اي التنازع بين القوى الاجتماعية على المكانة والنفوذ ، لاسيما اذا كان ثمة امكانية لبعض هذه القوى لتحويل النزاع من مستواه السلمي الى المستوى العنيف والدموي .

ومن المؤسف ان معظم مجتمعات العالم الاسلامي والعالم الثالث عموما ، هي من هذا النوع من المجتمعات التي لاتفصل بين الجدل الفكري والصراع الاجتماعي ، ولاتفصل بين حق الانسان في التفكير والتعبير عن الراي ، وبين موقعه ضمن نظام العلاقات الاجتماعية ، فما ان يبدي احد ، شخصا او جماعة ، رايا مخالفا لشخص آخر أو لجماعة اخرى ، حتى يتنادى هؤلاء الى تصنيفه ثم مجابهته ، ليس بمناقشة ارائه ودحضها امام الملأ ، بل بعزله والسعي الى تحطيم شخصيته .

في كل النزاعات فان الالتزام التام برعاية الاسس التي يقوم عليها المجتمع ، واولها بقاؤه جماعة واحدة موحدة ، ورعاية حقوق الافراد الاساسية ، هو الميزان الدقيق لتقييم  النشاطات العامة ، وهو السبيل لتشخيص صلاحية القوى الفاعلة على الصعيد الاجتماعي ، وتمييز المخلصة منها عن الانتهازية او الجاهلة ، ان هذا الالتزام هو مانسميه التراضي والتوافق الاجتماعي ، وهو الذي يضمن وقاية المجتمع من الانزلاق الى دوامة الشك والفتنة .

نشر في (اليوم) 10-10-1994

03/10/1994

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد ؟



في كل مجتمع تلعب التقاليد دورالناظم للعلاقات بين افراده ، كما تحمي القيم والثوابت الاخلاقية الضرورية لسيرورة لينة للحياة الاجتماعية .

 التقاليد ليست تشريعات دينية او قوانين رسمية ، بل هي اقرب الى الاتفاقات الجمعية غير الصريحة ، على الرغم من ان تاثيرها العملي في غاية الوضوح والصراحة ، ومتى ما اصبحت محمية بقوة القانون او بضوابط الشريعة ، فانها تخرج  من صفتها الاولى كتقاليد تتمتع بديناميكية استمرار وتاثير ذاتية .


ومع انها كذلك فان لها من القوة والفاعلية ، مايجعلها قادرة على الحلول محل القانون المحمي بوسائل الضبط المادية  ، ذلك انها تتحول مع الزمن الى جزء من النسيج الثقافي للمجتمع ، يتلقاها الانسان منذ نعومة اظفاره ، من خلال التلقين احيانا ، وبمحاكاة الاكبر منه سنا في اغلب الاحيان ، بحيث يضحي الالتزام بمضمونها ارادة واختيارا للفرد ، بغض النظر عن وجود قوة ضغط خارجية توجب عليه الامتناع عن تحديها .

ولاتلعب التقاليد هذا الدور البارز في كل التجمعات الانسانية ، فاتساع المجال الحيوي لفاعليتها ، وقوة تاثيرها ، انما يرجع لوجود استمرارية لنمط محدد في الحياة الاجتماعية ، تتحقق من خلال استمرارية موازية لعلاقات القرابة العائلية او التجاور الجغرافي  ، بين اعضاء جماعة بشرية معينة ، ولمدة طويلة زمنيا ، يتأسس بموجبها مانطلق عليه اسم المجتمع ،  أو المجتمع التاريخي كما أسماه الاستاذ مالك بن نبي ، وهو العنوان الاصطلاحي للجماعة التي ينتظم جميع افرادها في نسق ثقافي وقيمي واحد  ، وهذا مالا يصدق على المجتمعات الحديثة التشكل والتي ماتزال العلاقة بين افرادها سطحية او محدودة بالقرابة والجيرة ، كما انه لايصدق على المجتمعات التي تعرضت للتفتت بسبب الهجرة ـ على سبيل المثال ـ حيث لم تعد قادرة على صيانة تقاليدها في المهجر ، على الرغم من ميل كبارها ـ خاصة ـ للحفاظ على المستطاع منها ولو بصورته الشكلية .

التقاليد كحاجة نفسية
ان المجتمع التاريخي هو الظرف الطبيعي لتبلور التقاليد ، لكونه الاطار الذي يوفر فرصة للحياة المشتركة ، بل يوجبها في اكثر الاحيان ، بما ينطوي عليه معنى الشراكة من استثمار مشترك للطاقات ، ومواجهة مشتركة للهموم والتحديات .

من ناحية أخرى فان قيام نظام مقبول للسلوك في المجتمع التاريخي ، ليس وليد اتفاق صريح بين افراده ، بل هو تشكل عفوي لمنظومة قيمية متناسبة مع بعضها ، تمثل في مجموعها الوسيلة المختارة لتلبية حاجات المجتمع او طموحاته ، او مجابهة التحديات التي يتعرض لها خلال تاريخه .
ويلعب الزمن دورا فاعلا في انضاج هذا النظام ، من خلال مايوفره التقارب بين الاسر والافراد لفترة طويلة ، ضمن النطاق الجغرافي للقرية اوالمدينة الصغيرة ، والتي تتوج بالتداخل القرابي بين العائلات ـ عن طريق الزواج خاصة ـ بحيث يصبح كل فرد في هذا النطاق الاجتماعي (نسيبا) للاخر.

هذا التداخل ومايترافق معه من تركيز للتقاليد ، يعتبر بالنسبة لمعظم الناس وعاء للقيم الاجتماعية ، لاينبغي التفريط فيه لاي سبب ، فوجوده يوفر على الفرد جهدا كبيرا ، يجب عليه بذله لكي يعيش الحياة ، التي يشعر فيها بالامان النفسي والاستقرار العاطفي ، كما يوفر عليه مجهودا مماثلا في تربية الابناء الذين يود ان يراهم ـ كما هو طموح معظم الاباء ـ يترسمون الفضائل الاخلاقية التي تعارف عليها المجتمع .

وهذا هو تفسير النزوع الشديد عند معظم الناس ، للعيش ضمن اطارهم الاجتماعي القديم ، في المنطقة الشرقية من المملكة ـ على سبيل المثال ـ نجد ان اسعار الاراضي السكنية في القرى ، مرتفعة الى درجة تستعصي على التبرير الاقتصادي ، في الوقت الذي يسع الناس الخروج الى المدن القريبة ، الافضل من حيث سهولة الحياة وتوفر الخدمات العامة ، او تاسيس قرى جديدة في الصحراء المحيطة ، بتكاليف تقل كثيرا عن تكاليف امتلاك بيت في القرية ، ان السبب الحقيقي وراء ارتفاع الطلب على السكن داخل القرية ، والاعراض الكلي عن السكنى خارجها ، يرجع الى ماتتميز به القرية ، من درجة عالية من التواصل الحياتي بين الفرد ومحيطه ، يساعد على  ضمان الامان النفسي والعاطفي الذي يحتاجه ، هذا التواصل هو في العمق مجموعة العناصر الثقافية والسلوكية التي تمثل التقاليد ابرز تجسيداتها .

تيـار الحيـاة  :
على ان التقاليد ـ مثل كل عناصر الثقافة الاجتماعية الاخرى ـ كائنات حية متطورة ، تتحرك صعودا او نزولا بموازاة  حركة الحياة في المجتمع الذي يتبناها ، ولاتوجد تقاليد ثابتة او غير قابلة للتعديل ، بكلمة أخرى فانها كائنات غير مستقلة ، بل هي بصورة او بأخرى تابعة لحاجات الحياة ، فاذا تغيرت هذه الحاجات او تلاشت او استبدلت بغيرها ، فمن الطبيعي ان تتبعها في التغير مجموعة التقاليد التي تأسست من أجل تنظيمها ، من امثلة هذا التغير في واقعنا المعاصر ما يتعلق بعمل المرأة ، ففي الازمنة السابقة لظهور البترول ، كانت المرأة تعمل في معظم الانشطة الاقتصادية في الريف والبادية ، في الجزء الاساسي منها كما في الزراعة والرعي مثلا ، او في النشاطات المساندة كما في الصيد والغوص والبناء وغيرها ، ولم تكن مشاركتها في العمل موجبا للعيب ولم تكن بحاجة الى التبرير ، بينما نجد ان المعادلة قد انعكست بعد اكتشاف البترول ، وتغير اساليب المعيشة وانواع الحاجات ، فاصبح معظم الناس يرى في عمل المرأة سببا للعيب ، او على الاقل مـمارسة اجتماعية غير اعتيادية تحتاج دائما للتبرير ، ان معظم الشباب ـ كما  يظهر من دراسة لاحد الاساتذة ـ لايرحب برؤية زوجته في ميدان العمل ، الا اذا ضمن توفر شروط محددة ، هي في حقيقـتها وسائل لتبرير الموازنة القسرية بين عدم الرغبة وصعوبة الامتناع .

    ينعكس التباين بين تطور الحياة والتقاليد التابعة ، على شكل شعور بالاغتراب عند الفئات الاجتماعية الاكثر انشدادا للماضي ، ولاسيما بين كبار السن ، الذين يصعب عليهم تكييف فهمهم للحياة يما يتلاءم مع التطور السريع لانماط الحياة وسبل المعيشة ووسائل التواصل الثقافي ، وما تفرزه من سلوكيات جديدة .

ولايسع المجتمع ان ينقطع عن تواصله مع العصر الذي يعيش ، كما انه ليس بالامكان التخلي عن مكاسب التطور الحياتي ، ومع وجود هذه الضرورة فان المنطق يقضي بتعديل التقاليد التابعة للانماط القديمة التي لم تعد مرغوبة ، او اصطناع تقاليد جديدة اكثر انسجاما مع ايقاع الحياة ، وهي قادرة في الوقت ذاته ، على ضمان الحد المقبول من السلوكيات والفضائل الاخلاقية ، التي لاغنى عنها لانتظام الحياة وضمان الاطمئنان .

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...