07/08/2019

من الظن الى اليقين ، ثلاثة مستويات للمعرفة

أكتب هذه السطور تعقيبا على سؤال للزميل مسلم الصحاف ، حول مقدار الحقيقة في اخبار الصحف. وأفهم ان مقصود السائل هو "صدقية الاخبار". لكنه استعمل كلمة "الحقيقة" فبدا لي غريبا نوعا ما. وسرعان ما ثبت صدق ظني ، فقد اجابه عدد من قرائه ، اجابات توحي بانهم يخلطون بين مفاهيم "الحق" و"الحقيقة" و"الواقع" و"الصحيح"، مع ان معانيها مختلفة. 

وأذكر للمناسبة نقاشا موسعا حول موضوع مماثل ، بيني وبين الاستاذ عدنان عيدان ، وهو خبير في حوسبة اللغة العربية ، ولاسيما استخداماتها في التعليم. وقد
عدنان عيدان
أخبرني ان كثيرا من نقاشات الشباب العربي ، تنقلب الى جدالات عقيمة او حتى نزاعات ، لانهم لا يميزون بين المحمولات المختلفة للتعابير والمصطلحات. وان السبب الجوهري في هذا ، هو ضعف مخزونهم اللغوي. وحسب اعتقاد الاستاذ عيدان ، فان خريج الجامعة يجب ان يكون قادرا على تقديم حديث لمدة لاتقل عن نصف ساعة ، من دون تكرار اي كلمة او وضعها في غير سياقها الصحيح. وأعلم ان 90% من شبابنا لا يقدرون على هذا.
وبالعودة الى نقاش الزميل الصحاف ، فقد اتضح من ردود المتداخلين ، بانهم ظنوا ان السائل يقصد الحقيقة الكاملة التي لايختلف عليها اثنان. وبعضهم قال ان الحق قصر على الشريعة المقدسة. والواضح ان المعنى الذي أراده هو الحق "النظري" المقابل للباطل. وقال آخرون ان الخبر الصحيح هو ماتراه بعينك لا ماتقرأ عنه. أي انه يماهي بين الحق والواقع. فالذي تراه بعينك هو الاشياء المادية الواقعية ، وليس الحق المجرد او الذهني او النظري.
وبدا لي ان هذا الخلط يجعل نقاشاتنا قليلة الفائدة ، نظرا لاختلاف المعاني المنعكسة في ذهن القاريء ، عن تلك التي يقصدها الكاتب. لذا وجدت من المفيد تقديم تصور أولي ، يوضح الفارق بين الاشياء التي نراها في العالم الواقعي ، والاشياء التي نصنعها في داخل أذهاننا ، وكلاهما نظنه حقيقة او وصفا للحقيقة. وهو قد يكون مجرد انطباع او تصور غير محايد.
سوف اترك تفصيل هذه المسألة لكتابات قادمة. لكني أود الآن التاكيد على الفارق بين ثلاثة مستويات للمعرفة ، هي الظن والعلم واليقين. ويشكل الاول (الظن) تسعة اعشار المعارف التي يحملها كل منا في ذهنه. وهو يعتمد عليها في التواصل مع عالمه. لكونها مفتاحا للمرحلة الثانية أي العلم. الانطباع الاولي عن الاشياء والشك والتفكير غير المكتمل ، والاحتمال والتخيل ، كلها تنتمي الى المستوى الاولي.
اما الثاني (العلم) فهو المعرفة المدعومة بدليل معياري ، يمكن التحقق منه بواسطة أي شخص. ان الاكثرية الساحقة من الناس لايستطيعون البحث عن الادلة او لا يرغبون فيه. لذا فان علمهم محدود بمجال اختصاصهم ، حتى لو حازوا قدرا من المعرفة في مجالات اخرى.
المستوى الثالث (اليقين) وهو المعرفة التي تحوزها من دون دليل علمي. قد تتوصل اليها بأدلة شخصية (غير معيارية) او من دون دليل اصلا. لكنها لا تتوقف على الدليل العلمي وليست مشروطة به. وهي ما نسميه بالميتافيزيقا (ماوراء الطبيعة) او الايديولوجيا. كل الناس لديهم قناعات من هذا النوع ، دينية او غير دينية.
اني أعرض هذه المستويات الثلاثة كي أدعو القراء لتحاشي الخلط بينها. فكل منها له طريقة في الاستدلال ، بل وحتى مستوى من الشحن المعنوي في الكلمات. سوف اعود للموضوع في وقت آخر. لكني اظن ان هذا كاف لتوضيح الفكرة.
الشرق الاوسط الأربعاء - 5 ذو الحجة 1440 هـ - 07 أغسطس 2019 مـ رقم العدد [14862]

31/07/2019

العلمانية الطبيعية: استقلال العلوم


كان العلامة ابن خلدون (ت-1406م) فقيها وقاضيا وعالم اجتماع ومؤرخا. وكان ابن رشد (ت-1198م) فيلسوفا وطبيبا وفقيها. وكان ابو الريحان البيروني رياضيا وجيولوجيا وفقيها. تستطيع ان تضيف أيضا ابن سينا والفارابي وابن الهيثم وابن بطوطة والادريسي ، وعشرات أمثالهم جمعوا بين علوم الشريعة وعلوم الطبيعة او العلوم النظرية والتجريبية.

بعض الناس يرون هذا دليلا على براعة الأسلاف. لكن لو كان ابن خلدون معنا اليوم او كان ابن سينا او البيروني احياء في هذا الزمان ، فلن يواصلوا - على الارجح – اهتماماتهم المتعددة. وسيكرسون انفسهم لواحد من تلك العلوم او لبعض منه.

يندر ان ترى في أيامنا هذه ، عالما يجمع العلوم المذكورة ، فيكون طبيبا وفقيها ، او جيولوجيا وقاضيا او عالم اجتماع ومفسرا. لا يرجع السبب الى كسل المعاصرين ، بل لاتجاه العلوم بشكل متزايد نحو التخصص ، منهجا وموضوعا. بل استطيع القول ان بوادر هذا الميل كانت ملحوظة حتى في ذلك الزمان ، واحتمل ان علماء القرن العاشر والحادي عشر الميلادي ، كانوا اكثر ميلا الى التخصص من اسلافهم. لكن الاتجاه ككل لم يكن ملحا كحاله اليوم.

 الميل القسري للتخصص انعكس على كافة العلوم ، بما فيها علوم الشريعة نفسها. لهذا لا تجد اليوم من يجمع بين العلوم المرتبطة مباشرة بالنص الديني ، كالألسنية والتفسير ، او علم الحديث والتاريخ. كما يندر ان تجد عالما متبحرا في أصول الفقه ، وهو متبحر بالقدر نفسه في فروع الفقه.

يعتقد المفكر المعاصر عبد الكريم سروش ان ميل العلوم للتخصص ، قد قلص موضوعات البحث الخاصة بعلم الدين. دعنا نتخيل انك دخلت "المدرسة النظامية" ببغداد صباح يوم من ايام سنة 1070م مثلا. سوف ترى حلقات درس الفقه الى جانبها حلقات علم الفلك والنباتات والادوية ، وحلقات اللغة والتاريخ ، وهكذا.

كانت العلوم في حالة تواصل ،  لأنها كانت قليلة من حيث العدد ، ومحدودة من حيث مساحة البحث وعمقه. ولهذا كان بوسع شخص واحد ان يتبحر في علوم عديدة ، في آن واحد. اما اليوم فان "عدد" العلوم قد تضاعف ، بسبب انفصال فروع علمية عن اصولها ، او اكتشاف موضوعات بحث لم تعرف سابقا ، ثم اتجاه هذه الفروع الى بحث التفاصيل الدقيقة ، وتفرعها هي الاخرى.

الذي حدث بعد "استقلال العلوم" ان البشر قد حصلوا على أدوات تفسير لعالمهم ، من خارج اطار الدين. او لعل علاقتهم بهذا العالم ، قد تطورت من حالة الانفعال وانتظار الامر والنهي ، الى التأمل والبحث عن تفسيرات لما يجري فيه. اي ازدادت مساحة التساؤل وتقلصت مساحة اليقين ، وتغير موقف الانسان من الانصياع ، الى الرغبة في الاستقلال او السيطرة.

يبدو ان هذا هو الاتجاه الطبيعي ، او ما نسميه منطق التاريخ. في البداية يوفر الدين مفاتيح لفهم العالم ، لعل ابرزها الايمان - الميتافيزيقي اولا ، التجريبي تاليا - بان الكون نظام دقيق أحادي ومترابط الاجزاء. وبعد ان يتعرف الانسان على مفاتيح الطبيعة ، تتقلص وظيفة الدين إلى أخص اهتماماته ، اي الاجابة على اسئلة الوجود الكبرى وربط الانسان بخالقه. يعتقد سروش ان هذا المسار يؤدي بالتدريج الى نوع من التخارج بين الدين والعلم ، اي ما نسميه اليوم "علمانية". لكنه من نوع المسارات الطبيعية التي لا يمكن ايقافها طالما واصل الانسان تقدمه.

الشرق الاوسط الأربعاء - 28 ذو القعدة 1440 هـ - 31 يوليو 2019 مـ رقم العدد [14855]

https://aawsat.com/node/1836766/

لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...