22/05/2019

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني


أستطيع القول من دون تحفظ ان الاصلاح الديني رهن بالتعامل مع ثلاث معضلات ، أولها وأصلها فيما أظن هو هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني ، أما الثاني ، فهو الاستسلام للنهج الاخباري في وضع القيم والأحكام ، واخيرا تحويل الاحتياط الى معيار للتدين.

أعلم ان هذه دعوى عريضة. ويعلم القاريء ان المجال المتاح لا يسمح بمجادلة مطولة حولها. ولذا سأكتفي بشرح موجز للمعضل الأول ، طمعا في إثارة الاذهان للتفكير فيه ، وهذا غاية المراد.
موضوع علم الفقه هو "فروع الدين" التي تنقسم الى عبادات ومعاملات. وغرضه استنباط الاحكام ، اي تحديد الواجب والمحرم والمكروه والمستحب. وبسبب انحصاره في هذه الدائرة ، فان تطور العلم واتساعه ، انصرف الى البحث عن مزيد من الاحكام ، اي توسيع دائرة الموضوعات الشرعية. ومع مرور الوقت بات التوسع في الاحكام ، مجالا للتنافس بين المشتغلين بعلم الفقه. حتى لو سألت احدهم عن رأي الشرع في زرع هذا النوع من الشجر او ذاك لأفتاك ، ولو سألته عن حكم هذه الرياضة او تلك لما تأخر في الجواب.
لا يكترث الفقه باحوال القلوب ، قدر ما يركز على الشكليات والافعال الظاهرة. ومن هنا فان معيار التمييز بين المتدين وغير المتدين هو السمات الظاهرية ، اي ما يظهر على الانسان وما يراه الناس في شكله الخارجي ولباسه ولغته.
في الوقت الحاضر يشكل علم الفقه بوابة الولوج الى علوم الشريعة. بل لا نبالغ لو قلنا ان مسمى علم الشريعة ، ينصرف الى علم الفقه في المقام الاول. اي ان علم الفقه يشكل الجزء الاكثر بروزا وتاثيرا من المعرفة الدينية. مع ان الموضوع الذي يختص به ، أي "فروع الدين" وهي تضم كما سلف العبادات والمعاملات ، لا تشكل غير نسبة صغيرة من مساحة المعرفة الدينية. وقد اشرت في مقال سابق الى ان آيات الاحكام التي تشكل موضوعا لعمل الفقهاء ، لا تزيد عن 500 آية ، اي نحو 8% من مجموع القرآن.
هيمنة المدرسة الفقهية على علم الدين لم تبدأ اليوم. بل أظنها بدأت في وقت ما بين القرن الثاني عشر والقرن الخامس عشر الميلادي ، حين انحسر الاهتمام بالمعارف العامة ومنها المعارف الدينية ، وانحصر في علم الفقه دون غيره. ومع الوقت ، بات مسمى المجتهد او عالم الدين او الفقيه ، يطلق على العالم في الفقه بصورة خاصة ، وانصرفت مدارس العلم الديني الى دراسة الفقه ، دون غيره من علوم الشريعة.
هيمنة النهج الفقهي تعني بالتحديد هيمنة الرؤية التي تنظر للدين باعتباره اداة تقييد لحياة الأفراد وسلوكياتهم. ونعرف ان هذا أمر يخالف هدفا عظيما للرسالة السماوية ، وهو تحرير العقول والقلوب.
لا نحتاج الى كثير من المجادلة في النتائج التي تترتب على تطبيق هذا المنهج ، فهي واضحة أمامنا ونراها كل يوم ، ولا سيما في كلام الفقهاء التقليديين وتطبيقاتهم. وهي في الجملة تطبيقات حولت الدين الحنيف الى موضوع للامتهان والسخرية ، كما تسببت في هجرانه من جانب شريحة واسعة جدا من ابنائه.
معرفة الله والايمان به والسلوك اليه والالتزام بأمره ، ليست مشروطة باتباع آراء الفقهاء ونتائج بحوثهم. فهذه لم يعرفها المسلمون الا في عصور ضعفهم وانحطاط حضارتهم. لا نريد القول بوجود علاقة سببية بين هذه وتلك ، لكن التقارن بين الاثنين لا يخلو من تأمل.
الشرق الاوسط الأربعاء - 17 شهر رمضان 1440 هـ - 22 مايو 2019 م

مقالات ذات علاقة

15/05/2019

لازم النظافة ولازم الطهارة




عقب الاستاذ مجاهد عبد المتعالي على نقاش سابق في هذه الصفحة ، قائلا ان العقل الاسلامي مطالب بالتحرر من خلطه المزمن بين ما أسماه "لازم النظافة" و"لازم الطهارة"(الوطن 11 مايو 2019). واختيار مجاهد لهذا المثال في غاية الذكاء والجمال ، لأن فعل النظافة مادي ، قابل لتوليد معنى روحي هو الطهارة. هذه المقارنة تختصر -  في ظني - مفهوم علاقة الدين بالدنيا بتمامه.

اتفق مع الصديق مجاهد ، على حاجتنا لايضاح الحد الفاصل بين ما نصنفه داخل الدين وما نعتبره خارج الدين. وهي حاجة ملحة في هذا الزمان ، وكل زمان يشهد تحول الدين والكلام باسمه الى وظيفة ومصدر عيش. ففي حالة كهذا يتبارى المدعون حراسة الدين والحديث باسمه ، بتبارون في توسيع دائرة التكاليف ، حتى لا يبقى فعل انساني خارجها. وحجتهم الثابتة هي ان دين الله شامل لكل فعل من افعال الحياة. فاذا قلت لهم ان الامر ليس على هذا النحو ، وجهوا اليك السؤال المفخخ: هل ترى ان دين الله ناقص او عاجز عن استنباط حكم في موضوع جديد؟.
ملا احمد النراقي

لتفكيك هذا التداخل وتوضيح المسألة ساعرض نقطتين: الاولى في خطأ القول بان دين الله شامل ، سيما في المعنى المتداول عند الناس ، وهو موافق للقول المأثور "ما من مسألة الا ولله فيها حكم".  أقول ان هذا نقاش قديم. وقد سبق ان دار بين فقيهين هما يوسف البحراني (ت-1772م) واحمد النراقي (ت-1828م) ، حين استدل الاول بالاية "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء -النحل 89" والايات والاحاديث التي تماثلها. فرد عليه النراقي بان المقصود فيها ، هو تبيين ما يجب على الخالق بيانه ، او يقتضي الحال او اللطف بيانه ، لا كل شيء على نحو الاطلاق. فالبديهي ان كثيرا من امور الدنيا ، لم تبين في القرآن الكريم ولا في السنة الشريفة. وذلك لانها ليست مما يجب بيانه ، بمعنى انها خارج دائرة الشريعة والتكليف. كما ان عدم البيان لا يوجب الظن بالنقص ، فترك البيان لما ليس مطلوبا ، ليس مظنة نقص. بل لعل بيان غير المطلوب يعد تكلفا. والتكلف مما يعاب على الكامل.
النقطة الثانية:  ان غالبية الناس – ولا سيما المشتغلين بالعمل الديني – قد خلطوا بين معنيين للدين مختلفين تماما ، اولهما الشريعة كمنظومة واجبات وتكاليف تقيد حرية الفرد. والثاني الدين كمنظومة روحية تمنح الفعل قيمة. يضم المعنى الاول ما يفعله الانسان (مجبرا) لانه واجب عليه ، مثل صوم رمضان وعدم الكذب مثلا. بينما يتسع الثاني لكثير من امور الدنيا دون ان يولد الزاما او حرجا على الانسان. بل ربما زاده حبا لعالمه وارتباطا به. من ذلك مثلا ان تزرع شجرة في حديقة بيتك او في الصحراء ، وتستذكر في نفسك ان هذا مما يحبه الله. هذا يسمى بالنية وهي المدخل الى توليد المعنى في الفعل. ومثله ان تساعد جارك الفقير ، لانك تحبه او لانك ترغب ان يكون محيطك الاجتماعي محبا لك. لكنك تستذكر أيضا ان احب الناس الى الله انفعهم للضعفاء من خلقه. أفعال كهذه دنيوية بحتة وغير واجبة بالمعنى الفقهي. لكن استذكار معناها الروحي يحولها الى طريق لنيل رضا الله سبحانه ، فتصبح افعالا دينية.
اظن هذا كافيا لبيان الخيط الواصل بين "لازم النظافة" و"لازم الطهارة" ، اي بين الديني والدنيوي.
الشرق الاوسط الأربعاء - 10 شهر رمضان 1440 هـ - 15 مايو 2019 مـ رقم العدد [14778]

لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...