08/05/2019

كيف تتقلص دائرة الشرعيات؟

انه خيار يبدو بسيطا. لكن عاقبته عسيرة جدا. ولهذا يتجنب غالبية الناس المخاطرة به. موضوع هذا الخيار هو الفكرة التي طرحتها في الاسبوع الماضي ، اي دعوى أن للانسان دورا في انشاء القيم الدينية وصياغتها وتعديلها.

وقد عالجت الفكرة من زاوية مألوفة نوعا ما ، وهي كون العقل مصدرا للتشريع ، موازيا للمصادر الثلاثة الاخرى (الكتاب والسنة والاجماع). وقلت يومئذ ان القبول بدور العقل هذا ، والقبول بالعلم (البشري) اداة لتشخيص موضوعات القيم والتعاليم الدينية ، يعني – بالضرورة – ان الانسان شريك في وضع الاحكام الشرعية والقيم الدينية.

الذين يتبنون هذه الفكرة ، يرونها تعبيرا عن منطق الامور ، وليست خيارا نأخذه او نتركه. فحتى الذين يرفضون  دور العقل كمصدر مستقل للقيم الدينية ، مضطرون للقبول به كوسيط لتفسير مفهوم الحكم الشرعي وتحديد  موضوعه وكيفية تطبيقه.

من المفهوم ان كلا الفريقين يتحاشى الذهاب بالمسألة الى نهاياتها المنطقية. وبيانها على الوجة الآتي: النهاية المنطقية لقبول الدور التشريعي للعقل ، هو القبول بتهميش كبير او صغير لدائرة الاحكام التي ورد فيها نص في القرآن والسنة. لأن موضوعاتها زالت من الوجود او تغيرت بشكل جذري ، ووضع احكام جديدة لم ترد سابقا في اي نص.

اما النهاية المنطقية لرفض ذلك الدور ، فهي القبول بعدم وضع اي حكم جديد ، بالوجوب او بالتحريم ، على اي موضوع لم يذكر في الكتاب والسنة. لأن وضع الاحكام – حسب هذه الرؤية – حق لصاحب الشريعة (اي الرسول عليه الصلاة والسلام) دون غيره. وهذا يعني ان "جميع" المسائل الحديثة ، او ما يسمى بالنوازل ، تقع من حيث الاختصاص ، خارج نطاق التشريع. فلا يصح السؤال عنها ولا يجوز للفقهاء وضع احكام تخصها. كما لا يجوز لهم قياس مسألة جديدة على سابقة لها ، او حكم في موضوع على حكم قبله. لأنه من أنواع الاجتهاد ، الذي يؤدي – بالضرورة – الى ضم مسائل جديدة الى دائرة الشرعيات ، وابتكار حكم لها لم يرد في الكتاب والسنة. وهذه – وفق التعريف الدقيق – من وظائف الرسول لا الفقيه.

نعرف ان مجموع آيات الأحكام – وفق المشهور عند الفقهاء - لا يتجاوز 500 آية ، وان أحاديث الاحكام لا تزيد في أكثر التقادير  عن 1200 حديث. وهو نقل ابي يعلى محمد بن الحسين الفراء عن الامام احمد بن حنبل. الالتزام الدقيق بما ورد عن الرسول ، يستوجب ان لا يزيد العدد الأقصى للاحكام الشرعية ، بما فيها من واجبات ومحرمات ، عن مجموع الايات والاحاديث المذكورة ، اي نحو 1700 حكم.

ويترتب على هذا ان كل موضوع لم يسبق ان ورد فيه حكم ، سيبقى خارج دائرة التشريع ، وانه ليس للفقهاء من دور سوى تذكير الناس بالموضوعات التي لا تزال قائمة ، ولم تخرج من دائرة الحياة. لكن هذا المسار سيؤدي مع مرور الوقت الى تقلص الشريعة الى العبادات فقط. لأن غالبية موضوعات الاحكام الاخرى ، تتغير مع تحولات الحياة والمصالح العامة ، فتخرج احكامها من دائرة الاستعمال وتصبح مجرد ارشيف.

اظن ان هذا الشرح قد قدم صورة واضحة عما يترتب – منطقيا - على اعتراض المعترضين على دور العقل ، اي دور الانسان في انشاء القيم الدينية وصياغتها وتعديلها.

نعلم ان كلا الخيارين سيؤدي الى خروج الكثير من قضايا الشريعة من دائرة الحياة. وهذا امر مشكل. لكن الواضح ان القبول بدور الانسان في انشاء التشريع ، هو الاقرب الى مقاصد الشريعة ومصلحتها من القول الآخر.

 الشرق الاوسط الأربعاء - 3 رمضان 1440 هـ - 08 مايو 2019 مـ رقم العدد [14771]

https://aawsat.com/node/1712131

01/05/2019

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

|| النقاش حول دور العلم والعقل ، يتناول في الجوهر دور الانسان في صياغة وتعديل الفكرة الدينية||

مقالة الاستاذ نجيب يماني المعنونة "بل العقل سابق للنص" المنشورة في عكاظ 29 ابريل 2019 ، مثال على المراجعات الراهنة في التفكير الديني ، ولا سيما القيم المعيارية السابقة للاحكام الشرعية والضابطة لصحتها.
وقد استاثرت مكانة العقل في الاسلام وفي تشريع الاحكام ، بنصيب الأسد من هذه النقاشات. لكني أظن اننا قد تقدمنا خطوات صغيرة فحسب ، نحو استعادة العقل لهذا الدور. وهذا بدوره يستدعي التساؤل عن سبب التأخر ، مع كثرة النقاش حوله ، وسعة الشريحة المؤمنة بالحاجة اليه.
ويظهر لي ان هذا جزء من مشكلة عميقة جدا. لكنها من نوع المشكلات التي لا يطيق الناس نقاشها بانفتاح ، أعني بها علاقة الانسان بالدين ، والتي يتفرع عنها بطبيعة الحال علاقة العلم والعقل بالدين.
دعنا نبدأ من الفرع كي نفهم الأصل. فقد سالت انهار من الحبر في مناقشة العلاقة بين الاثنين. اما في الغرب فالفرضية السائدة في غالب الدراسات ، هي التفارق بين عالمي الدين والعلم. اما في العالم الاسلامي فاتخذ البحث مسارا تبجيليا واعتذاريا. 
كان محور المسار التبجيلي هو التأكيد على ان الاسلام رفع من قيمة العلم وكرم اهله ، وانه لا تفارق بينهما. وركز المسار الاعتذاري على التشكيك في قيمة العلم وقطعيته ، بالقول مثلا ان نتاج العلم ليس احكاما يقينية ، بل نظريات محتملة التغيير ، وان العالم لا يخلو من قضايا تتجاوز ما يستطيع عقل الانسان ادراكه ، وامثال هذا من الاعتذارات ، التي  غرضها الرد على دعوى عدم التوافق بين الدين والعلم.
هذا المنهج في النقاش ، بمساريه التبجيلي والاعتذاري ، عتم على العنصر المحوري في القصة كلها ، أعني به دور الانسان في صياغة وتعديل الفكرة الدينية. نعلم طبعا ان العلم نتاج بشري ، وان الجدل بشانه ، وكذا الجدل بشان العقل ودوره ، يتناول - في حقيقة الامر - دور الانسان وعلاقته بالدين. تبدأ هذه العلاقة بسؤال: هل جاء الدين من أجل الانسان ام خلق الانسان من اجل الدين؟. ثم: هل الدين مبني على اساس منطقي ، اي متوافق مع عقل الانسان ، وبالتالي هل القضايا الدينية مما يمكن للانسان استيعابه ، ام تنتمي لعالم آخر يتجاوز المنطق البشري.
فاذا كان متوافقا وقابلا للفهم ، فهل يمكن – او يسمح – للعقل بالتدخل في تعديله ام هو ممنوع عليه. واذا كان مما يتجاوز قابليات الانسان ، فكيف يكون الانسان ملزما به ، ونحن نعلم ان فهم الامر واستيعابه شرط للتكليف به ، والا كان من نوع تكليف ما لايطاق ، المخالف لأصل العدل.
هذه المجادلة توضح اذن ان النقاش حول دور العلم والعقل ، يتناول في الجوهر دور الانسان في صياغة وتعديل الفكرة الدينية. فاذا قلنا بان للانسان دور حاسم وتام في تصميم وصياغة الفكرة الدينية ، سيرد علينا بان هذا سينتهي الى نزع الصفة الالهية عن الدين ، وجعله بشريا تماما. واذا قلنا ان للانسان دور جزئي ثار سؤال: من يضع الحدود.
ثمة اسئلة اخرى لا يتسع لها المجال. لكني اود الاشارة قبل الختام الى ان دور الانسان ، رغم كثرة الجدل ضده ، لازال اقرب الى روح الدين ، واقرب الى منطق الحياة ايضا ، من القول بعدمه. لكن هذا يحتاج الى حديث أوسع ،  قريبا ان شاء الله.
الشرق الاوسط الأربعاء - 25 شعبان 1440 هـ - 01 مايو 2019 مـ رقم العدد [14764]

مقالات ذات صلة

 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...