24/04/2019

برنارد وليامز : الفيلسوف المجهول


تعرفت قبل مدة على برنارد وليامز ، الفيلسوف البريطاني المعاصر. وقد شعرت بالأسف لأني  تأخرت كثيرا في التعرف على نتاجه. كما شعرت باسف أشد ، لأني لم أعثر على اي من مقالاته او كتبه في اللغة العربية. واظن ان أيا منها لم يترجم ، وهذا هو السبب على الارجح لندرة ما يتداول من ارائه بين قراء العربية.
تعرفت على وليامز بمحض الصدفة. كنت قد تحدثت يوما عما زعمت انه حقيقة قائمة ، فحواها ان الناس جميعا متكافئون ، في القيمة والقابليات الذهنية والمعنوية ، وانهم - بناء على هذا الاصل – متساوون في الحقوق والتكاليف. وهذه الدعوى تستلزم – منطقيا – أن اي تمييز في المعاملة لأي انسان ، يجب ان يمهد لها بتبرير مناسب ، والا فهي خلاف الاصل الصحيح.
كنت أظن ان هذا الزعم مورد اتفاق بين الناس. لكن تبين لي ان هذا ظن في غير محله. فبعد دقائق من ذلك الحديث ، تحداني احد الحاضرين لاثبات ان المساواة بين الناس حقيقة قائمة بالفعل. وقد وجدت الرجل مقاتلا لا يشق له غبار ، فعجزت عن مجاراته في النقاش.
كشف لي ذلك النقاش عن جهلي بهذه النقطة بالذات ، اي التكافؤ باعتباره حقيقة قائمة في العالم الواقعي  ، وليس قيمة ندعو الناس الى قبولها ، أو حكما أخلاقيا نفترض صحته بغض النظر عن دليله. ويجدر بي ان أقول هنا انني مدين لنقاشات مثل هذا بالكثير ، لانها فتحت ذهني على مناطق مجهولة ، وشجعتني على البحث والتفكير في أمور ، ما تخيلت قبلئذ انها موجودة في هذا العالم ، فضلا عن الاقتراب منها او طرق ابوابها.
زبدة القول ان ذلك النقاش ، حملني على البحث عن المسألة ، فوقعت على كتاب قيم لباحثين امريكيين ، خصصا جانبا مهما منه لعرض ما أسمياه بالتعريف الوصفي descriptive equality لفكرة المساواة. هناك عثرت على برنارد وليامز ، فتركت الكتاب وكنت على وشك الفراغ منه ، وانصرفت الى هذا الفيلسوف ، الذي لفت اهتمامي بقدرته الباهرة على تجاوز  السطح الخارجي للتصورات والافكار ، والعلاقات التي تربط بين الناس ، منقبا عن "معنى ان تكون انسانا ، وان يكون الناس جميعا بشرا مثلك" ، ان تنظر اليهم من خلال الصفات التي تجمعك اليهم ، مثل العقلانية والشعور بالالم والمحبة والرغبة في البناء وفعل الخير  ، كي ترى الواحد منهم انسانا مثلك ، قبل ان يكون طبيبا او أمرأة او شابا أو بهي الطلعة او جاهلا او شيوعيا ..الخ.
توفي وليامز في 2003 وعرف كواحد من أعلام الفلسفة التحليلية ، وعرف – فوق ذلك – كفيلسوف اخلاقي ، ساهم في تطوير الرؤية السياسية الجديدة لحزب العمال ، الذي كان عضوا فيه منذ شبابه ، كما شارك بفاعلية في النقاش حول تطوير فكرة "تكافؤ الفرص" التي تعتبر اليوم أبرز التجليات السياسية لمبدأ المساواة.
أدهشتني قدرة وليامز على إثارة الاشكالات حول آرائه ، وتحليلها والرد عليها. ويبدو انه كان معروفا بهذا. فقد كتب زميله ادريان مور انه " كان قادرا على التنبؤ  باسئلة محاوريه ، ووضع اجاباتها ، حتى قبل ان يبدأوا في طرحها".
انني اكتب هذه السطور طمعا في لفت اهتمام القراء الى اعمال برنارد وليامز  ، فلعل الحماس ياخذ احدهم الى ترجمة اعماله ، التي اعتقد انها تضيف الكثير الى القاريء العربي ، سيما في قضايا الفلسفة الاخلاقية.
الشرق الاوسط الأربعاء - 18 شعبان 1440 هـ - 24 أبريل 2019 مـ رقم العدد [14757]

17/04/2019

عقل الاولين وعقل الاخرين

الذين يعارضون اعتماد العقل مصدرا للتشريع والمعرفة الدينية ، يقيمون موقفهم على منظومة استدلال  ، يرونها مناسبة لحمل تلك الدعوى.

لكن التأمل في هذه الادلة يكشف عن نقاط ضعف اساسية ، أبرزها في ظني هو ان الاطار الذي يدرس فيه الموضوع ، ليس محددا على نحو دقيق. ولهذا دخلت فيه قضايا واستدلالات لا علاقة لها به ، كما اختلطت في سياقه العبارات الوصفية والتفسيرية ، بتلك التي تنطوي على احكام وقيم. بل وجرى استعمال هذه في موقع تلك وبالعكس. 

ومن ذلك مثلا القول الشائع ، بأن ابليس تحول من ملك الى شيطان رجيم ، حين اتبع عقله فعصى أمر ربه. ونعلم ان هذا ليس دليلا في هذا الموضع ، واستعماله فيه نوع من الحشو والقصص لا العلم.

ولعل الفوضى المهيمنة على النقاش سببها اتخاذه صفة المساجلة بين خصمين ، لا يريد احدهما معرفة حجج الآخر ، الا لغرض وحيد هو تثبيت موقفه. ولهذا ايضا لا أرى امكانية لتوصلهما الى رؤية موحدة. فكلاهما يعبر عن موقف فكري مرتبط بدائرة مصالح اجتماعية ، على النحو الذي أسماه توماس كون بالبرادايم ، او ما نسميه أحيانا بالنسق. ذلك الموقف اذن امتداد لمنظومة متبنيات ثقافية وانحياز اجتماعي ، لن تنفك اجزاؤه عن بعضها البعض ، بمجرد النقاش.

في زاوية ثانية نلاحظ ان النقاش حول دور العقل ، يعاني – كمعظم النقاشات المماثلة في الفكر الاسلامي – من ضعف واضح في تحديد المفاهيم المحورية ، التي يتوجب الاتفاق على تعريفها  كي يكون النقاش متصلا. مبرر هذه الحاجة هو ان بعض المفاهيم ، مثل "العقل" ، "النص" ، "الشريعة" و"الجماعة" الخ .. تحولت بشكل عميق ، لاسيما خلال القرن العشرين ، عن التركيب الذي كان معهودا حين بدأ هذا الجدل ، مع اشتهار منهج الامام ابو حنيفة في الاجتهاد ، قبيل منتصف القرن الثاني الهجري.

لابأس بالتذكير هنا بأن مفهوم "العقل" الذي عرفه الاسلاف ، كان اقرب للمفهوم الذي اشتهر عند فلاسفة اليونان ، اي اعتباره اداة مستقلة قادرة بمفردها على ادراك الكمالات ومواضع الجمال ، وبالتالي تمييز  الحقائق والفضائل والحكم على موضوعاتها.

اما "العقل" الذي نناقشه اليوم  فهو مختلف في تعريفه وفي تقييم عمله. ولعل أقرب المفاهيم القديمة اليه ، هو ما كان يطلق عليه "بناء العقلاء" ، الذي تشبه صورته الاصلية مفهوم العرف العام. جدير بالذكر ان الامام الغزالي كان قد اشار في ذيل كتاب العلم من "احياء علوم الدين" الى ان الخلاف على المفاهيم وحدودها ، كان واسعا حتى في زمنه (450-505ه) ، وحسب تعبيره فان أكثر "التخبيطات إنما ثارت من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبطوا فيها لتخبط اصطلاحات الناس في الألفاظ".

كذلك الحال في مفهوم "النص" الذي كان ينظر اليه في السابق كتعبير منفرد ونهائي عن الحقيقة ، بينما ينظر اليه اليوم كوعاء للحقيقة ، وفي بعض الحالات قيدا عليها. ولذا نحتاج أحيانا لتجاوزه ، من اجل تحرير الحقيقة او الرسالة المنطوية فيه ، من قيود التاريخ وانعكاسات الظرف عليه وعلى فهمه.

زبدة القول ان العقل الذي يدور حوله الجدل الذي استعرضناه في الاسبوعين الماضيين ، ليس واحدا او محددا. ان ما يقال عنه وعن دوره ، تأييدا او رفضا ، قد يتعلق بعقل متخيل ، تتعدد صوره ومفهوماته بقدر ما يتعدد المشاركون في الجدل حوله.  ولذا فلعل الأجدى ان يبدأ الناس بتحديد مفهوم العقل الذي يعنونه.

 


الشرق الاوسط الأربعاء - 11 شعبان 1440 هـ - 17 أبريل 2019 مـ رقم العدد [14750]

مقالات ذات علاقة

لماذا يرفضون دور العقل؟

  ليس هناك – على حد علمي – من ينكر دور العقل بصورة مطلقة. لو فعل أحد ذلك فلربما عده العقلاء مجنونا أو ساذجا. لكننا نعرف أناسا كثيرين ينكرون ...