‏إظهار الرسائل ذات التسميات حقوق المواطن. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حقوق المواطن. إظهار كافة الرسائل

07/07/2011

"شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

؛؛ جوهر مبدأ المواطنة هو "الشراكة في التراب". جميع اعضاء المجتمع ، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا ، شركاء في ملكية الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه؛؛


في كل مجتمعات العالم ثمة صراع مستميت للتخلص من عصر التقاليد والانتقال الى الحداثة. هناك بالطبع من يرمي الحداثة باسوأ الاوصاف ويحذر منها ، لكن جميع الناس في جميع بلدان العالم يتطلعون الى منظومة القيم التي تبشر بها الحداثة ، مهما كان رأيهم في الثمن الذي سيدفع مقابلها . ابرز وعود الحداثة هي تحويل العدالة من تطلع مثالي الى منظومة قانونية ومؤسسية ، وصولا الى ارساء نظام قانوني متكامل يكفل المساواة للجميع في الحقوق والواجبات ، وينهي جميع اشكال التمييز ، على المستوى القانوني وعلى مستوى السياسات.


تبدو فكرة التكافؤ والمساواة جميلة وجذابة ، لكنها على اي حال ليست سهلة المنال. اعتادت مجتمعاتنا على فكرة التمييز والتمايز قرونا طويلة . وحين نتحدث اليوم عن تغيير هذه العادة ، فلن يكون التحول بسهولة الكلام عنه.  فهناك من يؤمن ايمانا عميقا بان السلطة والموارد العامة هي امتياز تختص به الفئة المميزة ، سواء كانت عرقا او قبيلة او دينا او مذهبا سياسيا او غير ذلك. ولا يجد هؤلاء حرجا في الدعوة الى نظام اجتماعي ذي هيكلية مزدوجة يسمح لمختلف الناس ان يعيشوا في ظله ، لكن من دون التمتع بالمساواة في الحقوق والامتيازات.

 الانتقال الى عصر الحداثة يعني – على المستوى السياسي – تبني القيم الكبرى للنظام السياسي الحديث ، ومن بينها خصوصا مبدأ المواطنة  كارضية ومعيار لتنظيم العلاقة بين ابناء البلد الواحد . جوهر مبدأ المواطنة هو "الشراكة في التراب". طبقا لهذا المفهوم فان جميع اعضاء المجتمع ، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا ، شركاء في ملكية الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه. ويطابق هذا المفهوم الى حد كبير فكرة "الخراج" المعروفة في الفقه الاسلامي القديم ، والتي تؤكد على ملكية عامة المسلمين للموارد الطبيعية ملكا مشاعا.

بناء على هذا المفهوم فان الناس يولدون متساوين متكافئين ويبقون كذلك طيلة حياتهم . لا لأن احدا أقر لهم بهذه الصفة ، بل لكونهم شركاء في ملكية النظام الاجتماعي بمجمله ، لا منا من احد ولا منحة ، بل لطفا من الخالق ونعمة مهداة لعباده. ومن هنا فان اي عضو في هذا النظام لا يستطيع الغاء عضوية الاخر ، لأنها حق مترتب على ملكية مشروعة. كما لا يستطيع حرمانه من الحقوق والامتيازات المترتبة على شراكته في الملك ، مثل المشاركة في المناقشات واتخاذ القرارات المتعلقة بهذا الملك وكيفية ادارته .. الخ .

فيما يتعلق بالتنظيم القانوني ، فان ابرز تجليات العدالة فيه هي عمومية القانون ، اي تطبيقه على الجميع بغض النظر عن اشخاصهم او مكانتهم . وعكسه هو اعفاء البعض من الالتزمات التي يخضع لها بقية الناس ، او منحهم ميزات اضافية تفوق ما يستحقونه في الحالات الاعتيادية ، على وجه يؤدي الى حرمان الاخرين او انتقاص حقوقهم. ومن تجليات العدالة وعمومية القانون نشير خصوصا الى تساوي الفرص في الحصول على المناصب العامة والموارد المالية المتاحة لعامة الناس، وحرية الوصول الى مصادر المعلومات التي تؤثر سلبا او ايجابا في تحسين فرص المنافسة العادلة .

وكانت المدرسة الليبرالية تدعو في الاصل الى دور حيادي تماما للدولة ، بمعنى ان لا تمنع احدا من شيء ولا تعطي احدا شيئا . لكنها في المقابل تحرم الدولة من القيام باي عمل ذي طبيعة تجارية او تحقيق الارباح . بل ان احد كبار المنظرين شبه دور الدولة بالحارس الليلي ، الذي مهمته الوحيدة هو ردع العدوان وتامين الامن للجميع . لكن الرؤية الاكثر انتشارا في عالم اليوم تميل الى خط وسط بين هذه النظرية وبين نظرية دولة المنفعة العامة التي تلتزم بضمان حد متوسط من المعيشة الكريمة لجميع المواطنين . ويشمل هذا تأمين التعليم والصحة الاولية والاستثمار في الخدمات التي لا يمكن لعامة الناس ان يقوموا بها ، مثل الكهرباء والمواصلات الخ.
والمبرر الرئيس لهذه الرؤية هو ان شريحة كبيرة من المجتمع لن تستطيع الاستفادة من النظام القانوني والاداري بسبب الفقر الشديد الذي يحول دون حصول ابنائها على قسط من التعليم يؤهلهم للمنافسة ، او بسبب بعد مناطق سكناهم عن المناطق الجاذبة للاستثمار الخاص ، الامر الذي يجعلهم – بشكل طبيعي – خارج دائرة التنافس العادل على الموارد المتاحة للجميع. بعبارة اخرى فان هذه النظرية تدعو الدولة الى : أ) توفير البنية القانونية التي تضمن للجميع فرصا متساوية . ب) توفير المنظومات الادارية التي تسهل الاستفادة من تلك الفرص . ج) مساعدة المواطنين ، ولا سيما الشرائح الضعيفة بينهم ، على تخطي العوائق التي تمنعهم من استثمار الموارد المتاحة بصورة متساوية مع الآخرين.

وقد اطلق على العنصر الاخير مسمى "التمييز الايجابي" ، فهو ينطوي على محاباة لشريحة محددة ، لكن تلك المحاباة مقبولة لانها تستهدف بصورة محددة تمكين ضعفاء المجتمع من تجاوز اسباب ضعفهم وبلوغ مستوى من الكفاءة الذاتية يؤهلهم للاستفادة المتساوية من موارد البلاد المتاحة للجميع.

بصورة ملخصة يمكن القول ان فكرة العدالة الاجتماعية تتمحور حول توفير الفرص المتساوية للجميع ، ثم ضمان المنافسة العادلة بينهم على الارتقاء . وبالعكس من ذلك فان الظلم يكمن في حرمان الناس من الفرص او التمييز بينهم او محاباة البعض على حساب البعض الاخر او اغفال الشرائح العاجزة وتركها تحت مطحنة المنافسة بين الاقوياء. 


مقالات ذات علاقة 


من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي


23/02/2009

الانصاف .. لا شيء سوى الانصاف


ابسط ما نتوقعه من الوزراء والمسؤولين الذين تولوا مناصبهم اخيرا هو ارساء مبدأ الانصاف في التعامل بين اداراتهم وبين المراجعين. لا نطالب الوزير بمتابعة المعاملات ، وحتى لو اراد فلن يفعل الكثير . 99 بالمئة من المعاملات الحكومية تجري في المستويات الوسطى والدنيا من الادارة ، ولهذا فان تحسين مسار العلاقة بين الوزارة والمراجعين يتركز في هذين المستويين .
ما ندعو اليه ببساطة هو ان يصدر الوزير قائمة بحقوق المراجعين تقابل بالتحديد ما هو مطلوب منهم . لا نتحدث هنا عن قائمة بالنصائح الاخلاقية والاداب المتوقعة من الموظفين ، بل بالحقوق المستندة الى وصف قانوني واضح . حين تعترف للمراجع بالحق في شيء ، فانت تجرم كل من خرق هذا الحق وتفرض عليه عقوبة ، وتحدد جهة مرجعية تتولى تطبيقه. دعنا نأخذ مثالا : حين تتقدم الى المحكمة طالبا اثبات ملكية ارض او بناء مثلا ، فهم يفرضون عليك معايير محددة يعرفها المهندسون والمحامون ويجتهدون في الالتزام بها قبل تقديم المعاملة . لكنك تجد فيما بعد ان هناك مطالب اخرى مثل موافقة البلدية وربما وزارة الزراعة والمالية واذا كنت في المنطقة الشرقية فسوف يطلبون منك موافقة شركة ارامكو وربما غيرها ايضا .

 يتوقع المراجع ان تجرى هذه الامور كلها في ظرف شهر او شهرين خاصة اذا كان ذا همة وذهب بنفسه لمراجعة هذه الدوائر. لكنه يكتشف لاحقا ان الوقت مفتوح ، بمعنى انه قد يستغرق عاما في الحد الادنى وقد  تتضاعف حتى يخسر المراجع من الوقت والجهد ما يعادل قيمة الملك الذي يريد اثباته . الطريف في الامر ان بعض الدوائر مثل البلدية لا تكلف نفسها عناء الموافقة او الرفض رجوعا الى دفاترها الخاصة ، بل تطلب ارسال لجنة من ذوي الخبرة يعينهم عادة عمدة المحلة او القرية ، وهذا يتطلب دفع مبالغ  لهؤلاء ، غير محددة ولا يوجد لها اساس قانوني ، وتتناسب عادة مع حجم الملك وقيمته في السوق. لا تستطيع التملص من هذه الفقرة الا اذا كنت مستعدا لشكاوى ومناقشات تطول شهورا اضافية .

اذا عارضت هذه الاجراءات فسيرد عليك مسؤولو الدوائر بان هدفها هو حماية حقوق الدولة ، وهذا تبرير حسن . لكن ماذا عن حقوق المواطن صاحب المعاملة ؟. وماذا عن القيمة الاقتصادية للزمن والجهد الذي يبذله؟. نحن نجد ان الاصل عند كل دائرة هو ضمان حقوقها كاملة واجبار المواطن على الالتزام بما تقرره لضمان تلك الحقوق ، فماذا عن واجباتها ؟. اذا كنا نتحدث عن الانصاف ، فان الانصاف يقتضى الموازنة بين الطرفين ، بالغاء الاجراءات والمطالب غير الضرورية وتقديم بديل عن المطالب المكلفة . والاهم من كل ذلك هو تحديد وقت لانهاء المعاملات . يستطيع الوزير مثلا ان يقرر ان رخصة البناء يجب ان تصدر في موعد اقصاه اليوم السابع من تاريخ تقديمها . او ان اثبات الملك يجب ان لا يتاخر عن ثلاثة اشهر وان على الدوائر الاخرى ان تقدم سلفا المعايير التي تريد تطبيقها في الموافقة والرفض بحيث لا يضطر المواطن الى اللهاث وراء هذه الدائرة وتلك.

اصدار قرار من هذا النوع ربما يكون عسيرا في ظل التقاليد الادارية السائدة ، لكنه سيكون ممكنا وسهلا لو بدانا بمراجعة الاجراءات وحذف ما هو غير ضروري منها . وهناك قطعا الكثير من الاجراءات في معظم الدوائر لا داعي لها اصلا ، ومنها ما هو تكرار لاعمال يقوم بها اخرون ، ومنها ما يرجع الى ازمان قديمة ولم يعد له موضوع ولا فائدة.

اتمنى ان يبدأ الوزراء الجدد بحصر جميع التعليمات واللوائح الخاصة بمعاملات المواطنين واعطائها الى لجنة خبراء مهمتها المحورية هي حذف الزوائد والمكررات والاجراءات المعطلة ، ثم اصدار لائحة بحقوق المراجعين والجهة المكلفة بالبت فيها عند الشكوى . ستحقق هذه الخطوة قدرا من الانصاف في التعامل بين الوزارة والجمهور ، واذا نجحت فسيكون للوزير الحق في الفخر بانه كان حقا رجل التغيير 
.
عكاظ 23 فبراير 2009

23/10/2006

صيانة الوطن في سيادة القانون

سواء كنت تحب المواطن الاخر او تبغضه فان رايك فيه لا يؤثر على وصفه كمواطن يتساوى معك في الحقوق والواجبات. المواطن الاخر شريك لك في الوطن ، ويجب ان يتمتع – اخلاقيا وقانونيا – بنفس الحقوق التي تدعيها لنفسك ، كما يتحمل نفس الواجبات التي تطلب منك بمقتضى عضويتك في الجماعة الوطنية. صحيح ان الناس قادرون على اختيار اوطانهم ، لكنهم غير قادرين على سلب غيرهم وطنيته وحصته في وطنه. الوطن شراكة بين افراد احرار متساوين في الحقوق والواجبات . لا يستطيع احدهم افتراض حق لنفسه يزيد عن الاخرين الا بموافقتهم . القاعدة العامة ان جميع اعضاء الجماعة لهم شريحة من الحقوق هي الحد الادنى الذي لا يمكن سلبه ولا حجبه ولا اختصاره باي مبرر او قانون.
الوطن ليس احتشادا لبشر في رقعة جغرافية . بل هو منظومة قانونية – اخلاقية جرت صياغتها على  نحو عقلاني ومقصود وفق فلسفة خاصة وقواعد عمل محددة . ومن هنا فان العلاقة بين المواطنين ضمن المجتمع السياسي الواحد ليست عفوية ولا هي تطور طبيعي عن علاقات عضوية مثل العائلة. وهي ليست من نوع العلاقات الطبيعية التي تقوم على اساس وحدة الدم مثل العائلة والقبيلة ، وليست من نوع العلاقات التجارية المؤقتة التي تقوم على اساس التبادل المالي مثل المنظمات التجارية ، كما انها لا تدور حول مصلحة محددة كما هو الحال في منظمات الاعمال ومجموعات المصالح والاتحادات النقابية .
 قامت فكرة الوطن على قاعدة الشراكة الابدية في الارض والموارد الطبيعية والمتجددة . ووضع القانون لتحديد طبيعة هذه الشراكة ومعناها وكيفية الاستعمال الامثل للارض والتوزيع العادل للموارد ، وصيغة العلاقة المناسبة بين المواطنين ، كي يحصل جميع اعضاء الجماعة على حقهم كاملا ، يتساوى في ذلك الصغير مع الكبير ، الوضيع مع الرفيع ، والبعيد مع القريب .
الهوية الوطنية التي نسميها اختصارا بالمواطنة هي المعيار الوحيد للعلاقة بين المواطنين ، مهما اختلفت اصولهم والوانهم وثقافاتهم ومتبنياتهم العقيدية والحياتية . ربما اجد نفسي خيرا من جاري ، وربما ترتاح نفسي لابن قريتي ولا ترتاح لابن القرية الاخرى . ربما افضل الناس من شريحة خاصة على من ينتمون الى شرائح اخرى . ربما اتبنى عقيدة او مذهبا او ايديولوجيا تعتبر اهلها ارقى من غيرهم او اقرب الى الصلاح ، وربما تحصر الخير فيهم دون غيرهم . لكن هذه الاعتبارات كلها متبنيات شخصية ، هي حق للفرد ، لكنها لا تصلح اساسا لتحديد طبيعة العلاقة بين المواطنين ، ولا تصلح لتبرير حجب الحقوق عن شريحة معينة . فالعلاقة بينك وبينهم قائمة في اطار اخر ، على ارضية اخرى ، وتحكمها منظومة قواعد وقيم مختلفة .
حين نقبل بحمل الهوية الوطنية ، فاننا نقر – ضمنيا – بمنظومة القيم والقواعد التي تنطوي عليها فكرة الشراكة القائمة على تكافؤ القيمة بين اعضاء الجماعة ، وتساويهم في الحقوق والواجبات ، وكون القانون حاكما على العلاقة بين كل منهم والاخر. لا يستطيع احد مهما علا كعبه ومهما وجد في نفسه من ميزة على غيره ، ان يقبل بحمل هوية الوطن ثم يقرر لنفسه حقوقا فوق الاخرين . وسواء كان لديه مبررات ، او عرض ادلة ، او استعان بالقوة او ببليغ الكلام ، فانه لا يستطيع تجاوز حصته التي تماثل حصة كل فرد آخر.
من اجل صيانة علاقة التكافؤ والمساواة في الحقوق والواجبات ، وضعت القوانين التي توضح حدود العلاقة بين الافرد ، وتسمي الانتهاكات التي ربما يمارسها بعضهم على غيره ، والوسائل المتبعة لتصحيح ما ترتب على تلك الانتهاكات من فساد . تتعزز المواطنة برسوخ سيادة القانون ويتسع الفساد والبغي اذا ضعف القانون او فقد هيبته او قل الاهتمام بتطبيقه . ولهذا السبب اتفق علماء السياسة قاطبة على ان سيادة القانون وتطبيقه على نحو واحد ، على الجميع من دون تمييز ، هي الخطوة الاولى لصيانة النسيج الوطني وترسيخ المواطنة ، وبسط العدالة في توزيع الموارد ، وكبح البغي والظلم

25/12/2004

الكلفة السياسية لفواتير الهاتف


 طبقا لتقارير الصحافة المحلية فان شركة الاتصالات السعودية قادرة على منع اي مواطن او مقيم من السفر اذا كان مديونا لها ، وتقول الشركة ان هذا ينطبق على المديونيات التي تتجاوز العشرة الاف ، لكن مواطنين افادوا بانهم او مكفوليهم منعوا من السفر من اجل خمسة عشر ريالا فقط . والمبلغ الاخير يقل بالتاكيد عن كلفة المحاسبة وفرض قرار المنع وتنفيذه اذا اردنا ان نحسب كلفة العمل الذي تقوم به الشركة او جهة التنفيذ . هذه الكلف في المجموع تمثل اهلاكا لعوامل الانتاج ، ولو جرى احتساب مجموع الكلفة التي تقع على جميع المتضررين ، فلربما تصل الى نسبة مؤثرة من الناتج الوطني العام .

الكلفة المادية على اهميتها قد تكون هينة بالقياس الى الكلفة السياسية والاجتماعية لمثل هذا النوع من الاجراءات. من الناحية القانونية فان شركة الاتصالات لا تختلف عن اي بقال في السوق ، فكلاهما يعتبر – قانونيا – وحدة تجارية خاصة غرضها الربح ، وبالتالي فان علاقتها مع المواطن من جهة ومع الدولة من جهة اخرى ، هي علاقة مصلحة مالية بحتة . صحيح ان شركة الاتصالات تقدم خدمة عامة ، لكنها خدمة مقيمة بالكامل على اساس تجاري وغرضها الربح وليس مساعدة المواطنين فلماذا تمنح حقا من نوع منع المواطنين من السفر . دعنا نتصور خطورة المسألة لو ان كل منشأة تجارية اخرى حصلت على حق مشابه ، حينئذ فان البقال الذي يجاور بيتك يستطيع منعك من السفر لانك تأخرت في سداد قيمة مشترياتك ، والبنك سيمنعك من السفر حتى تسدد فاتورة البطاقة الائتمانية ، وشركة الكهرباء لان الشيك لم يصلها في الموعد المقرر ، وصديقك الذي تدين له بعشرين ريالا لانه نسي انك دفعت حقه ، وصاحب التكسي لانه صادف يوما انك ركبت السيارة ولم يكن معك فكة ، وشركة الخطوط لانك حجزت مقعدا ولم تشتر التذكرة ، وو.. الخ . وقبل زمن كانت شرطة المرور تستطيع منعك من السفر اذا لم تسدد مخالفات السير ، ولا ادري ان كان الامر جاريا حتى الان ام لا .

المبالغة في ايقاع عقوبة المنع من السفر على المواطنين لاي سبب ، معقولا او غير معقول له كلفة سياسية كبيرة تتمثل في تعميق شعور الناس بالحصار. اي ان تكون حركة المواطن وعمله وسفره ومعيشته، كلها محكومة بارادة اخرين يتمتعون بقدرة مطلقة وفورية على اعاقته في اي وقت .

من ابرز سمات الدولة الحديثة هو التمييز الحاسم بين الدولة (التي تمثل جميع الناس) والمنشآت التجارية التي تمثل مصالح اصحابها فقط . بموجب هذا التمييز فان القطاع التجاري يمنع بصورة كاملة من الاستفادة من قوى الدولة او صلاحياتها القانونية لتحقيق اغراض تجارية خاصة ، ومن بينها منع التجار من ايقاع اي نوع من العقوبة على المواطنين . ولهذا مثلا فان الدول المتقدمة تمنع على الشركات التي تستفيد من ميزات ترجيحية (من نوع احتكار صناعة الاتصالات الذي تتمتع به شركة الهاتف) من قطع الخدمة الا بعد اخطار قانوني متكرر وتمكين المواطن من الرد والاعتراض امام جهة محايدة .

ما يهم التاجر هو الربح اولا واخيرا ، اما الدولة فينبغي ان تهتم بتحرير المواطن من الضغوط المختلفة ، المعيشية و الاجتماعية وغيرها . المنع من السفر هو حرمان للمواطن من حق طبيعي واصلي يتمتع به بموجب المواطنة وهو عقوبة كبيرة جدا تقارب عقوبة السجن . وطبقا للنظام الاساسي ومواثيق حقوق الانسان التي وقعتها المملكة في اطار الامم المتحدة ، فانه لا يجوز حرمان المواطن من حقوقه الطبيعية الا بموجب قرار من محكمة صالحة وضمن اجراءات التقاضي المعمول بها في البلاد.

في اعتقادي ان منع المواطن من السفر بناء على طلب شركة الاتصالات او المرور او اي منشأة اخرى من دون حكم قضائي متكامل الاركان ، هو مخالفة صريحة للنظام الاساسي الذي هو مرجع القوانين جميعا ، كما انه يزيد في الشعور بالمظلومية والحصار عند المواطنين . وفي مثل الظروف الحالية فاننا بحاجة الى اشاعة الرضى بين المواطنين وليس القهر . اذا ارادت شركة الاتصالات ان تحصل على حقوقها فلتقم دعوى قضائية على من تشاء ، لا ان تخرق الحقوق الثابتة للمواطن.

الدولة هي الجهة الوحيدة التي لها الحق في ايقاع العقوبات وهذا الحق مقيد – بموجب النظام الاساسي- بقرار المحكمة وتوفر ضمانات قضائية متساوية لجميع الاطراف . لهذا فينبغي عدم التوسع في استعمال القرارات الادارية ، سيما تلك التي تنطوي على خرق للحقوق الاساسية للمواطن بالنظر لما تؤدي اليه من تعقيدات في العلاقة بين المواطن والدولة ، وهو مالا يريده اي عاقل لا سيما في مثل الظروف الحالية.

 ( السبت - 13/11/1425هـ ) الموافق  25 / ديسمبر/ 2004  - العدد  1287

08/02/2001

لماذا لا يطالب الناس بحقوقهم


خلال عقدين من عمر مجلس التعاون الخليجي ، توصلت الدول الاعضاء إلى عشرات من الاتفاقيات والمواثيق الثنائية والجماعية ، صرف لاجلها المسؤولون من الدول الاعضاء وقتا غاليا ، لانها في نظرهم كانت ضرورية لتوثيق العلاقة بين دول المجلس ، وبغض النظر عما طبق فعلا من تلك الاتفاقيات ، وما لم يطبق ، وبرغم النقد الذي يوجه عادة لتباطؤ العمل الخليجي المشترك ، فان معظم الخليجيين حريصون على الدفاع عن تجربة المجلس وتطويرها .

وكنت اتمنى دائما ان يتبنى المجلس ميثاقا خليجيا لحقوق المواطن ، فهذا هو الحقل الوحيد الذي لم يطرق في اي من اجتماعاته ، وكان سمو امير الكويت قد اقترح في ديسمبر 1996 ، تشكيل هيئة استشارية تشكل اساسا للدور الشعبي في المجلس ، لكن من المؤسف اننا لا نسمع كثيرا عن دور هذه الهيئة ، ولا نعلم ان كانت توصل صوت شعوب المنطقة إلى المجلس ، أم انها تكتفي بتاييد ما تقترحه الحكومات ، وعلى اي حال فان ممثل الشعب لا بد ان ياتي بتفويض  شعبي كي يستطيع ممارسة عمله ، أما  إذا عين بقرار حكومي ، فان من ياكل على مائدة السلطان يضرب بسيفه ، كما قيل في الامثال .

(حقوق المواطن) هي الغائب الكبير في التداول السياسي والاعلامي على امتداد الخليج ، والغريب ان احدا من السياسيين وصناع القرار لا ينكر ايا من هذه الحقوق ، ولا ينكر الحاجة إلى رعايتها ، بل انهم يفاخرون عادة بتجذرها في التراث الاسلامي والتقاليد الاجتماعية ، بحيث يخيل للسامع ان دول المنطقة هي التي وضعت الميثاق الدولي لحقوق الانسان ، واجبرت دول العالم على ضمه إلى دساتيرها .

لكن اولئك السياسيين لا يقبلون ابدا بتحويل مباديء حقوق الانسان إلى نصوص قانونية ملزمة ، ولا يوافقون على قيام هيئات اهلية تراقب الالتزام بمضمون تلك المباديء ، بل ولا يقبلون ممارسة المواطن لما يفترض انه حق لـه ، ولنأخذ مثلا حرية التعبير التي تقول بها الانظمة والدساتير ، فهي لا تحترم اطلاقا لعشرين سبب وسبب ، وهي تخرق بعشرين وسيلة ووسيلة ، ومن ابسطها دوائرالرقابة ، في معرض الكتاب العربي بالكويت مثلا منعت الرقابة عشرات من الكتب ، رغم ان بعضها كان موجودا قبلئذ في الاسواق ، وفي دول خليجية أخرى ، يعتبر اي كتاب ممنوعا في الاصل إلا إذا ثبت خلافه ، ولانه لا يوجد اساس منطقي ومعياري لتحديد المسموح والممنوع ، فان الامر يتعلق كليا بنفسية الرقيب وثقافته ، ومزاجه الخاص في اليوم الذي وصله الكتاب ، ومن طريف ما يذكر هنا انني جمعت عددا من مقالاتي المنشورة في صحف محلية وطبعتها في كتاب ، وحين عرضته على الرقابة للحصول على ترخيص النشر ، ابلغت بان الكتاب ممنوع ، فاخبرت مدير الرقابة بان محتويات الكتاب منشورة جميعها في الصحف المحلية ، فرد علي بان "مسمى" الكتاب يختلف عن " مسمى " المقال ، وهذه قاعدة قانونية لا اظن احدا في العالم كله قد توصل اليها من قبل ، فهي تستحق ان تكتب بماء الذهب وتعمم على جميع الدول الاعضاء في الامم المتحدة كوثيقة دولية ، ومنعت الرقابة ديوانا لشاعر معروف وكان التبرير ان بعض القصائد غير مفهومة ، وعدم فهم الرقيب حجة شرعية تستحق ان يضيفها الفقهاء ورجال القانون إلى الادلة المعتمدة في استنباط الاحكام .

وقد تحدثت هنا عن انتهاك حرية التعبير بواسطة الرقابة ، واغفلت انتهاك هذا الحق بواسطة الاجهزة الامنية والسياسية ، فهناك لا يتوقف الامر عند المنع ، بل يصل إلى الاستجواب والتحقيق وتوجيه التهمة ،  وربما الحبس أو المنع من السفر ، فضلا عن الخروج من دائرة الموالين أي المرحومين .

على اننا في الخليج نتميز عن غيرنا بنوع آخر من الرقابة ، يلخصها المثل المشهور عندنا (العين من العين تخجل) ومضمونه ـ لمن لا يعرف - ان من يرفع صوته ، أو يتحدث فيما لا يخصه ـ اي الشان العام الذي لا يخص شخصا معينا - يستدعى من قبل مسؤول ما أو شخصية رفيعة ، فيعاتب ويسأل ان كان ينقصه شيء ، وقد يحصل على بعض الاحسان ، وعندئذ فان آليات العرف والتقاليد تتدخل لتقرر الخطوة التالية ، وهي ان يرد المستدعى على احسان داعيه بالسكوت عما يسبب الازعاج لـه أو لمن يليه ، وهكذا تحل المسائل باللطف واللين ومن دون ضجيج ، واظن ان قليلا من الناس في العالم يعرفون هذه السياسة أو يمارسونها في الوقت الحاضر ، ولهذا فانها يمكن ان تعتبر ابتكارا خليجيا يثير الاهتمام.

ربما يرتاب بعض الناس في فاعلية هذه السياسة أو تاثيرها ، لكني اجد انها شديدة التاثير ، خاصة إذا انضمت إلى الوسائل الأخرى المعروفة ضمنا أو الظاهرة  في خلفية الصورة ، فالذي يستدعى يعرف ان عدم الاستجابة تؤدي إلى الحرمان من الترقية أو ربما خسارة الوظيفة ، أو ربما العقاب الجسدي والمعنوي في مستويات أخرى .

لكن المسؤولين لا يجدون الوقت الكافي لمواجهة كل صاحب لسان ، لهذا لجأوا إلى الحلول الجماعية ، ففي أحد اقطار المنطقة قالت الانباء ان اساتذة الجامعة يتحدثون عن "حرم جامعي" اي مكان يتمتع فيه الاستاذ والطالب بحرية التعبير ، وبعد نحو ثلاثة اشهر من تاكيد وجود هذه الاحاديث ، امر ولاة الامر بتخصيص قطعة ارض سكنية لكل استاذ جامعي ، وجرى النص في الامر المذكور على الحد الادنى لقيمة المنحة ، وهي تعادل راتب الاستاذ في اربع سنوات .

واعتقد ان المركب الكامل للسياسة في الخليج ، هو السر وراء تأخر ظهور مطالبة شعبية بحقوق الانسان على مستوى المنطقة ، هذا المركب يضم التلويح بالقوة  وعدم قانونية المطالبة من جهة ، وبالمكاسب المادية للانصياع من الجهة الثانية .

والحقيقة ان احدا لا يرغب في الحديث عن هذه الامور ، فالكلام فيها موجع لكل الاطراف ، لكن مراسلا اجنبيا سأل خبيرا ماليا عن السر في انتعاش سوق المنطقة فور نهاية حرب الخليج الثانية ، فاجابه الخبير ببساطة ان الحكومة تدخلت بائعا وشاريا في سوق الاسهم ، كما صرفت مبالغ كبيرة بغرض تحريك السوق ، لانها ارادت تخليـص الناس من " الهمـوم " التي اثارتها الحرب ، فسأل المراسل : هناك تقارير عن عجز مالي كبير لدى الحكومة ، فمن اين جاءت بهذه الاموال ، فاجابه الخبير برقة : الحكومات تعرف دائما اين يوجد المال ومتى يستخدم .

وخلاصة القول اننا نحصل على الرفاه المادي ، ولدى الكل أو الاكثرية حرية كاملة في البحث عن المال ، وكلنا يعرف هذا كما ان حكوماتنا تعرفه ، ولهذا فقد اكرمتنا بما يكفي ويزيد عن الحاجة ، وفي المقابل فقد اكرمناها بالسكوت عن حقوقنا الاساسية ، ليس حق الاكل والشرب والتنعم في المسكن والملبس ، بل حقنا في التفكير والتعبير عما نفكر فيه ، وحقنا في فرص متساوية امام القانون ، وحقنا في تقرير الطريقة التي تدار بها حياتنا ،  وحقنا في تقرير صورة مستقبل ابنائنا .

الرأي العام 8 فبراير 2001

09/07/1998

حـديـث النــــــــاس



رغم انشغال الناس بمتابعة مباريات المونديال ، فان الوضع الاقتصادي يحظى بنصيب كبير من الأحاديث التي تدور في المجالس والسوق ، لا سيما بعد القرارات التي اتخذت الشهر الماضي لخفض الانفاق في ميزانية العام الجاري ، وقد غذى الوزير النعيمي الآمال بتحسن قريب في الاوضاع ، حين بشر الناس بان اسعار البترول سوف ترتفع ، إذا التزمت الدول المنتجة باتفاقات تحديد الانتاج الأخيرة ، وان هذا التحسن سوف يبدأ بالظهور في اوائل السنة القادمة .

ونود ان نحمل تصريحات وزير البترول على محمل الجد ، فلنا حاجة في التفاؤل ، وانتظار الخير الآتي ، لكني آمل ان لا تؤدي هذه التصريحات الى اعتبار الامور طبيعية تماما ، أي ان لا يقول المخططون بأن الانخفاض الحالي في اسعار البترول ، طبيعي ويحدث في كل مكان .. الى آخر ما يقال عادة ، عندما يراد تطييب الخواطر القلقة في الازمات ، نأمل حقا ان تتحسن اسعار البترول في اوائل السنة القادمة ، لكن من جهة اخرى ، يصعب التصديق بانها سوف تتجاوز المعدلات التي سادت خلال السنوات العشر الاخيرة ، خلافا للتفاؤل الذي ساد اواخر العام الماضي ، بان الاسعار سوف تقف عند معدل 16 دولارا للبرميل .

كثير من الناس الذين يشغلهم هذا الموضوع ، وانا منهم ، يسمعون تصريحات متفائلة مثل هذه ، كما يقرأون ما ينشر ويسمعون ما يقال ، مما يخالف فحواها ، ويعلمون بان التطمينات وتطييب الخواطر لا تعالج مشكلة ولا تغير حالا الى احسن منه ، وان خففت من القلق الوقتي لدى القلقين . ما يهمنا الان هو النظر في المسألة ككل ، فالعاقل من يتعظ بتجارب غيره فضلا عن تجاربه الخاصة .

بدأت انعكاسات  الانخفاض الحالي في اسعار البترول ـ ومعها الدخل الوطني ـ تظهر تدريحيا في السوق ، فانخفض مؤشر اسعار الاسهم المحلية مع انخفاض الطلب ، كما تدور احاديث عن احتمال رفع اسعار الخدمات العامة مثل الكهرباء والوقود ، وهي اجراءات سبق ان اتخذت عندما واجهت البلاد ازمة مماثلة قبل ثلاثة اعوام ، ونجحت الى حد ما في اختصار عجز الميزانية ، لكن معالجة عجز الميزانية ليس دواء طويل الامد لاقتصاد البلاد ، الا اذا اردنا التوقف في المستوى الابتدائي للاقتصاد أي ابقاء الناس متكلين في حياتهم ومعايشهم على الانفاق الحكومي المباشر ، وهو أمر لا يريده أحد ولا يستصوبه أحد .

يقول أهل الرأي في السوق بأن ما نحتاجه اليوم ، هو حلول جذرية وسياسات واقعية واستراتيجيات طويلة الأمد ، تؤدي الى تحرير الاقتصاد الوطني من الاعتماد الكلي والكامل على مبيعات البترول الخام ، واذا كنا قد وجدنا انفسنا مضطرين في بدايات معركة النمو ، الى التعويل على عائدات البترول ، والتساهل في ربط حياة الناس بصورة كاملة بالانفاق الحكومي ، فلا ينبغي الاسترسال في هذا النهج الى النهاية ، فهو يتحول  مع مرور الزمن ، من حافز للنمو الى مثبط لامكاناته ، في الوقت الذي لا تستغني البلاد عن مصادر جديدة لمواصلة نموها الاقتصادي والاجتماعي .

من ناحية أخرى فان رفع اسعار الخدمات العامة ، ليس محبوبا ولا مبررا عند أكثرية الناس ، لا سيما من الطبقات الوسطى والفقيرة ، صحيح ان الحكومة تدعم اسعار الكهرباء مثلا ، لكن من الصحيح ايضا ان الناس ليسوا مسئولين عن السياسات التي تتسم بالتبذير من جانب شركات الكهرباء ، والتي تتحول تاليا الى فواتير يتحمل عبئها المستهلك الذي لا ناقة له ولا جمل ، والحق ان الاحتكار الشامل الذي تتمتع به الشركة السعودية الموحدة للكهرباء (سكيكو) قد مكنها من فرض اراداتها الخاصة على جمهور المستهلكين ، وهناك من يدعي ان بالامكان اختصار فواتير الكهرباء  بصورة ملموسة ، لو وجدت شركات منافسة لشركة سكيكو ، وهناك من جرب فعلا وتأكد من هذا المدعى ، الامر نفسه يقال بالنسبة للوقود ، فنحن نعلم ان تكاليف انتاج البترول في المملكة ، تعتبر الاقل على مستوى العالم ، وان الحكومة لا تدعم اسعار الوقود ، أي ان ارامكو كانت تربح سابقا ، ولا تزال تربح من مبيعات الوقود ، والاحرى ان تخفض اسعاره  الآن ، تماشيا مع انخفاضه في السوق العالمية ، لا ان ترفعه كما يتوقع المتشائمون . الغرض ان التفكير يجب ان ينصب على سياسات اكثر واقعية ، وعدم رمي عباءة المسئولية على الحائط الواطئ للمستهلك البسيط .

منذ عدة أعوام يلح الخبراء على تخصيص شركات القطاع العام وخفض النفقات الحكومية ، باعتبارهما عنصرين جوهريين لتصحيح المسار الاقتصادي ، وقد بدأت أولى بشائر القبول بهذه الاقتراحات مع قرار تخصيص خدمة الاتصالات ، والحديث عن تخصيص النقل الجوي ، لكن الواضح ان الامر بحاجة إلى ما هو أكثر ، كما يحتاج إلى إزالة الصفة الاحتكارية التي تتمتع بها هذه القطاعات ، مع تحولها من مفهوم الخدمة العامة إلى الخدمة التجارية المدفوعة الثمن ، إذ لا يعقل أن تحافظ شركة الهاتف على احتكارها لهذه الخدمة ، مع أن التزامها الاول سيكون منصبا على مصالحها كشركة تجارية ، كما انه لن يكون منطقيا تمتع الخطوط السعودية بميزة احتكار خدمة النقل الجوي بعد تخصيصها ، واجبار المستهلك على دفع قيمة أعلى لما يشتريه من الخدمات ، اذا كان بالوسع ايجاد هذه الخدمة باسعار اقل .

ما أردت قوله ان تخصيص الخدمات العامة ذات الطبيعة التجارية ، وهو الاجراء الذي اعتبره الخبراء ضروريا لخفض النفقات الحكومية وتنشيط القطاع الخاص ، بحاجة الى أن يوضع ضمن مفهوم أوسع من بيع اسهم الشركات المملوكة للحكومة ، لتوفير بضعة عشرات من الملايين ، ينبغي ان يوضع ضمن مفهوم تطوير اهتمامات القطاع الخاص من الاستثمارات الجزئية والقصيرة الامد ، الى الاعمال الاستراتيجية الطويلة الامد ، ولتحقيق هذا المفهوم ، فاننا بحاجة الى تحرير السوق من الامتيازات الاحتكارية التي تتمتع بها بعض الشركات على حساب البقية ، ولا سيما على حساب المستهلك النهائي ، كما ينبغي التأكيد على تضمين مفهوم الخدمة العامة في الاستثمار ، والتخلص من عقلية الربح المادي الاقصى ، السائدة في السوق ، والتي ترسخت في السنوات الماضية كنتاج للتدفق المفاجيء للثروة والفرص ، وقصور المفاهيم والقيم التي يجري نشرها وتعليمها ، عن استيعاب الحقائق الجديدة ، التي افرزها تطور الصراع بين المال والقيمة الاجتماعية ، بين العناصر المادية وغير المادية في النمو الاقتصادي

يقول الناس ايضا ان المحافظة على المستوى المرتفع للمعيشة ، بحاجة الى ابتكار مداخل وأدوات واطارات استثمار جديدة ، لا سيما في قطاع الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة ، ويضربون مثلا على هذا المدعى بقطاع البناء والاسكان ، الذي لا يمكن التساهل في اهميته وحيويته ، فمع تراخي صندوق التنمية العقاري او توفقه احيانا عن الاقراض السكني ، فان هذا القطاع قد انكمش الى حدود مقلقة ، وقد كان يمثل شريحة واسعة من اجمالي القطاع الخاص ، ويمكن اعادة تنشيطه بتغيير سياسات الاقراض السائدة في البنوك المحلية .

 ولنا في تجارب الدول الاخرى درس وعبرة ، في بريطانيا مثلا يتم تمويل 60 بالمائة من عمليات بناء وتملك البيوت السكنية بقروض شخصية ، ونظرا لاتساع هذا القطاع فقد تأسست ـ الى جانب البنوك العادية ـ بنوك متخصصة في هذا المجال ، يطلق عليها (جمعيات البناء) حيث يستطيع أي مواطن بغض النظر عن امكاناته المادية الفعلية ، اقتراض مبلغ لشراء مسكن خاص ، كما ان شركات البناء تنظم اتفاقات مع تلك البنوك ، لاقراض من يرغب في شراء المساكن التي تبنيها ، ان قطاع الاسكان من القطاعات المزدهرة في بريطانيا رغم ان الحكومة لا تقدم قروضا ، بل تضع سياسات وتوجيهات لتعمل هيئات التمويل الخاصة على ضوئها . ان تنشيط قطاع البناء يمكن ان يتوازى مع وضع توجيهات للاستثمار في صناعة مواد البناء ، ومعظمها من نوع الاستثمارات المتوسطة ، من اجل رفع مستوى التكامل الرأسي لهذه الصناعة ، وتمكين البلاد من انتاج كل ما يلزمها لبناء مساكن ابنائها .

في نفس المجال نحن بحاجة الى تغيير بعض مفاهيم الملكية السائدة في الانظمة ، والمفاهيم السائدة في المجتمع ايضا ، لتمكين المواطن من امتلاك شقة في عمارة او طابق في بيت ، يتشارك في ملكية ارضه مع الغير ، والسماح بتأجير الارض لفترات طويلة ، مئة سنة مثلا ، بحيث تعامل المنشآت المقامة فوقها معاملة الملك الحر طيلة فترة التاجير ، اضافة الى تشجيع اقامة الجمعيات التعاونية للسكن ، ومنحها امتيازات مالية او قانونية ، لتخفيض كلفة البناء او الاستملاك السكني ، مما سيؤدي الى تنشيط قطاع البناء والعقار والصناعات المرتبطة بالبناء .

الخلاصة ان الناس ـ معظمهم على الاقل ـ ينظرون بقلق الى انعكاسات الانخفاض الراهن في الدخل الوطني على معيشتهم ، لكنهم في المقابل ليسوا غافلين عن حقيقة ان هذا التطور السلبي لم يكن اختياريا ، كما ان اعادة الوضع الى ما كان عليه في أوائل الثمانينات او بعيدها ، ليس من الاحتمالات التي ينظر اليها غالبية الناس ، الاكثرية حسب ما أظن تعرف بعض الحقائق او كلها رغم انها لا تعلن بصورة رسمية ، ولا تناقش في الصحافة المحلية ، ما يطمح اليه الناس هو سياسات جديدة تتعامل مع الشأن الاقتصادي باعتباره قضية مستقبلية ايضا ، وليس مشكلة وقتية محدودة ، ذلك يحتاج الى سياسات جديدة والى توجيه جديد لمراكز الثقل ، وتعديل الانظمة السائدة لتكون عونا على هذا التوجيه ، فلعلنا نعود الى وضع اقتصادي طبيعي ، لا يعتمد كليا وقطعيا على عدد براميل البترول التي نبيعها وقيمة كل برميل .

عكاظ 9 يوليو 1998

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...