‏إظهار الرسائل ذات التسميات تطبيق الشريعة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تطبيق الشريعة. إظهار كافة الرسائل

01/11/2012

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد


غرض هذه المقالة هو التنبيه على الحاجة الى تطوير منهج البحث الفقهي المتعلق بالدولة والسياسة. وصول الاسلاميين الى السلطة في اكثر من بلد ، حرر العقل المسلم من اشكالية المشاركة في نظام سياسي مختلط او علماني او – بشكل عام – مؤسس على منظومة تخالف ما كان الاسلاميون يتطلعون اليه.
قبل الثورة الاسلامية الايرانية (1979) كان بعض الاسلاميين يتطلع الى السلطة التشريعية "البرلمان" كمجال ممكن للمشاركة في الدولة القائمة. انتصار الثورة عزز ميل التيارات الاسلامية الى الحلول الجذرية ، اي الهيمنة الكاملة على السلطة واقامة نظام جديد على ارضية دينية. لكن تطورات ما بعد الحرب العراقية الايرانية ، والاشكالات التي مرت بها تجربة ايران ، اضافة الى تصاعد الميل في العالم كله نحو منهج التحول الديمقراطي ضمن الانظمة القائمة ، دفع بمعظم الاسلاميين الى مراجعة متبنياتهم السابقة. فلم يعودوا مقتنعين بقصر مشاركتهم السياسية على السلطة التشريعية ، كما اصبحوا قانعين بالمشاركة الجزئية في الحكومات القائمة مع الاحزاب والتيارات الاخرى ، بعدما شغلهم حلم الانفراد بالسلطة ، كما هو الحال في ايران.
هذا ظرف سياسي جديد ، لم يسبق للاسلاميين التنظير له. وهو يضعهم امام اشكالات هامة وحرجة ، لجهة الاقرار بدور "الشريك المختلف" الذي لا يتبنى - وربما لا يقبل - فكرة الدولة الدينية. في حقيقة الامر فان بعض الاسلاميين ما عادوا يتحرجون من القول انهم يريدون دولة مدنية ديمقراطية يكون الدين مرشدا لها في الاطار العام دون التفاصيل[1]. هذا على الاقل ما تحدث عنه صراحة الاخوان المسلمون في مصر ، وحزب النهضة في تونس ، وقبلهما الاحزاب الدينية في العراق.
لكن المشكلة لا تقف عند هذه الحدود. نحن ازاء جدل اعمق واكثر جذرية ، يتمثل في التفارق بين مفهوم الدولة الحديثة الذي نخضع له ونسعى للاندماج فيه ، وبين نموذج الدولة الدينية الذي نتخيله ونقرأ حوله في كتابات قدامى الاسلاميين. ويتبع هذا التفارق جدل بين فكرة الديمقراطية والشورى ، وبين مصدر السلطة السماوي والارضي ، وبين فكرة العدالة الاجتماعية والتكافل ، وبين مبدأ المواطنة ومفهوم الرعية او مجتمع المكلفين.. الخ. هذه كلها اشكاليات جدية وجديرة بالنقاش. وهي بحاجة الى معالجات توصلنا الى اعادة انتاج مفهومات جديدة عن الدولة والسياسة ، مفهومات تستجيب لمتطلبات العصر والبشر الذين يعيشون فيه من ناحية ، وتحقق غايات الدين الحنيف في العدل والتقدم ، من ناحية اخرى.
تؤكد المقالة على هذه الحاجات. وتبدأ بعرض موجز لاسباب التفارق بين مفهوم الدولة الحديثة ونظيره في التراث الفقهي. ثم تقترح توسيع نطاق البحث حول قضايا الدولة والسياسة ، كي يتجاوزالحدود الضيقة للفقه في معناه المتعارف ، وتحرير النقاش حول المضمون الديني للسلطة من قيود الفتوى. وتقدم اخيرا بعض الامثلة عن قضايا يتجلى فيها التفارق بين المنظورين ، وهي في الوقت ذاته عميقة ومتشعبة بحيث لا يمكن التعامل معها بمنطق الفتوى.
اشير هنا الى ان القاريء سيلاحظ ان الامثلة والشواهد تنتمي للاطار الفقهي الشيعي. السبب الوحيد لهذا هو اطلاع الكاتب بشكل مفصل على هذا المجال وقلة بضاعته في فقه المدارس الاسلامية الاخرى. الامثلة تبقى ضمن حدودها ، لكن النتائج قابلة للتعميم كما يعرف المختصون. عناصر القوة والضعف في الفقه الاسلامي مشتركة بين مدارسه المختلفة وهي متشابهة الى حد كبير ، رغم بعض التمايزات.
في يناير 1988 كتب اية الله الخميني الى رئيس الجمهورية معلقا على حديث له في صلاة الجمعة :
"السلطة المتفرعة عن ولاية رسول الله المطلقة من احكام الاسلام الاصلية ، وهي مقدمة على جميع الاحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج.. سلطة الدولة الاسلامية عامة وتشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية بما يتجاوز الحدود المتعارفة في الابحاث الفقهية"[2].
كان هذا ردا على جدل وصفه الخميني لاحقا بجدل مدرسي نظري ، لن يعين على حل اي مشكلة بل سيقودنا الى طرق مسدودة ، وينقض الدستور[3].
اعتقد ان الخميني هو واحد من ابرز مجددي الفقه الاسلامي في العصور الاخيرة. وبحسب متابعتي لتطور الفقه الشيعي في جانب السياسة والدولة بشكل خاص ، فاني لا اتحفظ عن اعتباره ابرز من عالج هذا الفرع من الفقه خلال القرون الثلاثة الاخيرة على الاقل. كان الخميني واعيا بجذور المشكلة التي واجهتها دولته. لم يكن الامر متعلقا بخلاف حول فتوى او تعريف موضوع[4].
 حتى القرن العاشر الميلادي لم يعرف الفقه الشيعي نقاشا معمقا حول مسألة السلطة والدولة – او "الولاية" كما كانت تعرف في ذلك الوقت -. معظم النقاشات دارت على حاشية النصوص الخاصة بالامامة العظمى في تصورها المثالي الذي يشير حصرا الى الائمة المعصومين ، المنصوبين من قبل الخالق سبحانه. من هنا تاثر النقاش – قسرا – بالاطار الذي تبحث فيه المسألة ، اي العقائد او علم الكلام. نعلم ان العقائد حدودها ضيقة . لذا فان البحث الفقهي تمحور حول جانب ثانوي نوعا ما ، هو مشروعية العمل مع السلطان الجائر، تجويزا او تحريما ، بسبب ارتباطه باشكالية غصب السلطة. وهو نقاش يدور في اطار الفقه لكنه يخضع للمقدمات الكلامية الخاصة بعقيدة الامامة.
المقدمة الاساسية تقول بان الحكم لا يكون شرعيا (في المعنى الديني البحت) الا اذا كان المعصوم على رأس السلطة . ولان هذا لم يتحقق منذ تنازل الامام الحسن بن علي عن الخلافة في سنة 40 للهجرة ، فقد وصمت كل الحكومات التي قامت بعدئذ بانها غاصبة . وكان العمل فيها يثير اشكالا جديا : هل يعتبر العمل مع السلطان الغاصب مشاركة في الغصب او تسويغا له او مساعدة على ترسيخه؟.
استمر الربط الشديد بين الجانبين الكلامي والفقهي للمسألة حتى القرن العاشرالميلادي ، حين فصل الشيخ محمد بن النعمان المعروف بالمفيد (948-1022م) المسارين ، وتحدث عن عمل السلطان كتطبيق ممكن للحسبة (الامر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، وهو واجب شرعي قائم مع وجود الامام ومن دونه. اجاز المفيد العمل في الحكومة غير الشرعية ، شرط التزام العامل بمنع الظلم ومساعدة الضعفاء على نيل حقوقهم ، وضمان خير الامة ، ومنع اساءة استخدام مصالحها. واعتبر هذا تطبيقا لوظيفة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر[5]. وساعد الشريف المرتضى (966-1044م) ، تلميذ المفيد ، في تطوير المقاربة في رسالته المشهورة "رسالة عمل السلطان"[6].
كان وجود الدولة البويهية ظرفا مساعدا لتطور من هذا النوع. لكن المسيرة توقفت عند هذه الحدود. بل وحدث تراجع جدي بعودة الميل الى التشدد ازاء العمل مع السلطان . سيما خلال القرن السابع عشر والثامن عشر اللذين شهدا هيمنة الاتجاه الاخباري على المدرسة الفقهية الشيعية.
 وحين انحسر المد الاخباري في اواخر القرن الثامن عشر بجهود رجال مثل الشيخ محمد باقر الأصفهاني المعروف بالوحيد البهبهاني (1706-1791م) ، بقي تاثيره نشطا من خلال ما يمكن وصفه باتجاه مصالحة بين الاتجاه العقلاني الصريح الذي يأخذ به الفقهاء الاصوليون ، والمبالغة في تهوين مكانة العقل ، كما هو شائع بين الاخباريين. اتجاه المصالحة هذا حمل معه تراجعا عن اعتبار العقل مصدرا مستقلا للحكم الشرعي ، لصالح منظور محافظ يقصر دور العقل على كشف مفاد النص. مع هذا التحول اعيد احياء الروايات الكثيرة التي دعمت في الماضي ميلا انعزاليا يعتبر السلطة والدولة عالما فاسدا ولا اخلاقيا ، ومكانا لا يليق بالمؤمن الحريص على آخرته. وجرى تدعيم هذا الاتجاه بالروايات الخاصة بغيبة الامام الثاني عشر ومعانيها وما يترتب عليها. وهكذا اصبح العمل مع السلطان مخاطرة بالدين ، والسعي للسلطة خروجا على سيرة المؤمنين ، وادعاء الحق فيها اصطفافا مع الشيطان والطاغوت[7].
الميل لاعلاء مكانة النص يؤدي بالضرورة الى غلبة المنهج الظاهري الذي يتعبد بظاهر النص بدل اعتباره  مفتاحا لكشف الرسالة التي تنطوي في ثناياه ، والتي ينبغي – منطقيا - ان تنسجم مع روح الشريعة ، او الفلسفة العامة للتشريع ، "المدرسة الاسلامية" كما اسماها المرحوم الصدر-. ذلك الميل الاخباري واضح في تهوين الفقهاء لمكانة العقل والاجماع ، وحصر الاكثرية لدورهما في كشف مقصود النص ، بدل اعتبارهما مصدرين مستقلين للاحكام. وهو واضح ايضا في معالجة الاصوليين التي يغلب عليها التردد للمسالة المعروفة بالقبح والحسن العقليين. اظن ان معالجة جادة لهذه المسالة يمكن ان تؤسس لقبول عرف العقلاء كاداة علمية مقبولة في تكييف الحكم الشرعي وتطبيقاته ، وفي تحديد موضوعاته. وفي الموضوع السياسي خصوصا ، فان القبول بهذه القاعدة يمكن ان يؤسس لقبول الراي العام كاداة مشروعة لتشخيص المصالح العامة وتفويض السلطة.
اشكالية الامامة/الغصب فرضت حدودا ضيقة على البحث الفقهي في قضايا الولاية السياسية. وتجد هذا واضحا في معالجة الفقهاء لمسائل مثل نصب القاضي وممارسته مهام الولاية الصغرى او الخاصة ، كما تجده في معالجتهم لمسألة الخراج (المال العام) وشرعية تصرف الوالي فيه للمصالح العامة ، كما تجدها في مسائل الحدود والحقوق المالية الخ. من ذلك مثلا راي ابي الصلاح الحلبي (ت 1055م) الذي اجاز للفقيه المؤهل تولي القضاء في حكومة الجور رجوعا الى اذن ضمني/افتراضي من الامام ، في هذه الوظيفة على وجه الخصوص[8]. ومن ذلك راي الاصفهاني الذي اجاز ادارة الحاكم الجائر للمال العام في غيبة الحاكم العادل[9]. هذه امثلة عن معالجات حاولت ايجاد مخارج  لما ابتلي به الناس مع استقرار دولة الامرالواقع ، وضمور الامل في الدولة المثالية المتخيلة. لكنها بدل ان تقدم تنظيرا جديدا حول اصل الموضوع ، اي الدولة الواقعية ، وامكانية العدل النسبي او التحول نحو الحكم العادل في اطارها ، فقد اكتفى الفقهاء بمعالجات جزئية من نوع ما ذكرنا.
تقصير الفقهاء في معالجة هذه المسائل هو امتداد لعلة اوسع ، تتمثل في اغفالهم المزمن للبحوث الفقهية المتعلقة بالشان العام ، وتركيزهم الزائد عن الحاجة على الفقه الخاص بالعبادات الموجه للافراد. ويعتقد اية الله زنجاني ان موضوعات الفقه العام ، لا تحظى بقيمة اعتبارية في المجامع العلميـة والحوزات ، شبيـهة للقيـمة التي تحظى بها أبحاث في مجالات الفقـه الفردي ، مثل أبحاث الطهارة والصلاة وما إليها[10].بعض الباحثين ارجع هذا التقصير الى يأس الفقهاء من امكانية قيام دولة عادلة ، او ربما لهيمنة قناعة ضمنية فحواها ان سلطة "التغلب" قد اصبحت مصيرا نهائيا في العالم الاسلامي. لكن اية الله خامنئي ، مرشد الثورة الايرانية ، لاحظ ان هذه الحالة كانت لا تزال سائدة في المدارس الدينية بعد اكثر من عقد على قيام الحكومة الاسلامية[11]. ولهذا – ربما – يفضل باحثون اخرون نسبتها الى عيب منهجي في الدراسات الشرعية ، يتمثل في هيمنة الاتجاه الى التنظير المجرد ، وعدم اهتمام الدارسين بربط ابحاثهم مع تحولات الواقع والزاماته[12].
ايا كان السبب فقد بقي الفقه الاسلامي خلال المئتي عام الماضية ، منشغلا بقضاياه وجدالاته القديمة ، غافلا عما يجري في العالم الذي تغيرت قضاياه واسئلته ، وتغيرت معها ادوات المعالجة والنقد. وكان من بين ما تغير فكرة الدولة ومفهوم السياسة ، والمباديء التي تقوم عليها ، والقيم التي تمثل مضمونها. مفهوم ان فكرة السلطة والدولة والتنظيم السياسي وعلاقة الدولة بالمجتمع ، تعرضت لتحولات جذرية خلال القرنين الماضيين ، ولا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين. لكن هذه التحولات العميقة لم تترك اثرا على البحث الفقهي في قضايا الدولة والولاية ، يتناسب مع سعتها وعمقها ، لان البحث الفقهي كان منشغلا بغيرها وغافلا عنها.
كنتيجة لهذا فان ما يمكن وصفه بفقه الدولة او الفقه السياسي الذي ورثناه هو فقه مفكك يتعامل مع اجزاء الموضوع كدوائر منفصلة ، لا كاجزاء في صورة كاملة. بغض النظر عن الاسباب وتحديد المسؤوليات ، فان هذا الفقه الموروث ما عاد مؤهلا للمهمة التي نادى بها معظم الاسلاميين ، اعني اسلمة الدولة ، سواء على المستوى الدستوري او على مستوى القانون.

الحاجة الى اعادة اكتشاف الموضوع

كان الامام الخميني بين الذين توصلوا الى هذه الحقيقة بعد قيام الثورة الاسلامية. حين اكتشف ان دولة حديثة لا يمكن ان يقام نظامها القانوني على ارضية الفقه الموروث. ولهذا طالب باجتهاد جديد ، ليس في الفروع ، بل في اصول المسائل ، في مسألة مثل اولوية النظام العام على الاحكام الفرعية ، مهما كانت مهمة ومحورية في التصور الديني ، ومسالة مثل جعل "المصلحة العامة" بمعناها المادي العقلائي مبرر ترجيح لحكم على حكم ، حتى لو كان المرجوح هو المستفاد الظاهر من النص.
لست مؤمنا بان الفقه هو الاطار العلمي المناسب للنقاش في مسالة الدولة وقضاياها. لكننا نواجه حقيقة واقعة ، هي هيمنة القراءة الفقهية للدين على التفكير الاسلامي في مختلف جوانبه. هذا يقودنا الى مسألة اوسع قليلا ، تتعلق باطار وغاية البحث العلمي في امور الشريعة. ثمة فهم عام فحواه ان اي بحث في العلوم الشرعية لا بد ان يستهدف التوصل الى اقرار حكم او دحض حكم او قاعدة شرعية. لعل هيمنة القراءة الفقهية هي السبب وراء هذا الربط المتكلف.
معروف ان الفقه علم احكام ، غرضه تقديم اجوبة على شكل الزامات شرعية جديدة ، او نقض الزامات قديمة. في المقابل فان البحث العلمي في معناه العام لا يستهدف بالضرورة تقديم اجوبة او انشاء الزامات ، قدر ما يستهدف معالجة الاسئلة المثارة ، بتفصيحها وتطوير نموذج ارقى منها. طبقا للفيلسوف المعاصر كارل بوبر ، فان ما نعتبره نظرية ليس سوى احتمال ذي طبيعة مؤقتة. وهو مفتاح لاحتمال نقيض او مخالف. انه اذن اشبه بسؤال ثان يقدم ايضاحات اجلى وادق لموضوع السؤال الاول[13]. البحث في مسائل مثل الولاية الشرعية والدولة الدينية لا يستهدف – بالضرورة -  تقديم فتاوى ، بل تطوير المعطيات النظرية الداخلة ضمن معالجة الموضوع. ومن هنا فان رفضنا او نقضنا لبعض ما يعتبر مسلمات في هذا الحقل ، لا يمثل انكارا لامر ديني ، لانه ليس في صدد الفتوى ، بل في صدد مناقشة الموضوع. معارضة اي فكرة ، حتى لو اجمع الناس على اثباتها شرعا ، لا ينبغي ان يعتبر معارضة لله والرسول ، بل مناقشة لموضوع واقعي ولفهم الناس له وتكييفهم لقيمته.

امثلة على النقاشات المطلوبة

منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر تطور البحث في "السياسة" كحقل علمي متخصص.  وظهرت تبعا لذلك حقول فرعية عديدة ساهمت في تطوير نقاشاته. الفلسفة السياسية ، القانون ، الاقتصاد السياسي ، هي بعض الامثلة عن حقول علمية اتخذت قضايا الدولة والسلطة موضوعا لنقاشاتها. على نفس المنوال فان التفكير الديني في السياسة والدولة لن يستطيع اقامة حقل علمي متطور اذا بقي محصورا في  الاطار الفقهي ، المعني اساسا بالجانب القانوني من الحياة. 
نحن بحاجة الى معالجة دينية للجوانب القانونية . لكننا ايضا بحاجة الى معالجة الجوانب الاخرى السابقة للقانون. من ذلك مثلا مفهوم السلطة. لازالت مناقشات الاسلاميين – حتى يومنا هذا – تقارن بين سلطة الشعب وسلطة الفقيه. وهي تنطلق من فرضية التعارض بين الاثنين. هذه الفرضية قائمة بدورها على مسلمة سابقة فحواها ان الولاية في جوهرها هي مجموع الصلاحيات او السلطات التي يتمتع بها رئيس الدولة. واقع الامر ان الرئيس في الدولة الحديثة ليس سوى كبير الموظفين. الدولة الحديثة هي مؤسسة قانونية ووظيفية قائمة بذاتها ، مستقلة عن شخص الرئيس. واذا كان الامر الواقع في بلداننا ينحو الى تلخيص الدولة في رئيسها ، فاننا بحاجة الى هجر هذا الفهم الذي يمهد للاستبداد ، الى فهم ارقى يدور حول الدولة كمؤسسة قانونية يملكها المجتمع.
ومن ذلك ايضا مصادر الشرعية السياسية. يركز المفهوم القديم على "عمل" الوالي الذي يجب ان يكون مطابقا للحق ، ومن هنا فان شرعية سلطانه مستمدة من صحة عمله. بينما يركز المفهوم الحديث للدولة على "تمثيل" الوالي للارادة العامة. ما هو مشروع هنا هو ما يلبي الارادة الشعبية وما يطابق القانون. الوالي هو ممثل للشعب ومن هذا التمثيل يستمد مشروعية سلطته.
ومنها ايضا حقوق الانسان التي تعتبر اليوم احد ابرز معايير العدالة. حقوق الانسان تتضمن مباديء لازالت غير محسومة في الاطار الفقهي مثل حرية الاعتقاد والراي والتعبير ومخالفة الحاكم العادل ..الخ.
وتتحدث النقاشات الفقهية عن صلاحيات مطلقة للحاكم الشرعي ، لا يقيدها سوى عدالته النفسية . بينما يقوم بناء الدولة الحديثة على اعتبار الدولة منحازة ، واعتبار ملكيتها لوسائل الجبر المادي سبيلا محتملا للفساد او الاستئثار ، وعادة ما يستشهد بمقولة السياسي والمفكرالانجليزي اللورد اكتون "لا تتعلق المسالة بان طبقة معينة عاجزة عن الحكم . المسالة ان السلطة بذاتها مظنة للفساد والسلطة المطلقة مظنة للفساد المطلق"[14]
 لهذا السبب فان النقاشات السياسية المعاصرة لا تعول ابدا على اخلاقيات الحاكمين في منع انزلاق الدولة الى الفساد او الاستبداد ، بل على ادوات الردع الخارجي ، مثل المعارضة القانونية والصحافة الحرة والبرلمان المنتخب ، فضلا عن القيود الدستورية على السلطات.
مبدأ المواطنة يشكل هو الاخر مثالا على التفارق بين مفهوم الدولة الحديثة ومفهوم الولاية الشرعية المتعارف في البحوث الفقهية. المفهوم الدارج في مجامع العلم الشرعي يعرف الفرد كعضو في الجماعة الدينية ، كمتدين او مكلف ، لا كمواطن[15]. وطبقا لاية الله يزدي فانه "في الوقت الذي يعتبر المواطنون - من حيث المبدا - متساوين ، فان حقوقهم ولا سيما الحق في اشغال المناصب العامة ليس على هذا النحو "[16].
هذه أمثلة عن نوعية النقاشات التي نحتاج لاثارتها وتقديم معالجات دينية لها ، تتناسب مع معطيات العصر الحاضر وحاجات الناس فيه. قبول الناس بالقيم الدينية كمضمون للنظام السياسي او ارتيابهم في المضمون الديني للدولة يتوقف – الى حد كبير – على قدرة الاسلاميين على تطوير منظومة مفاهيم جديدة تستلهم القيم العليا للدين الحنيف ولا تتنكر لتجربة الانسان المعاصر. هذا يتطلب بالتاكيد التحرر من السياق المنهجي الموروث للبحث الديني في قضايا الدولة والولاية.

الخلاصة:

شهدت السنوات الاخيرة نموا كبيرا للمد الاسلامي ، تجلى في وصول الاسلاميين الى السلطة في عدد من الدول العربية . كشف هذا التطور عن تنامي الميل العام بين المسلمين الى دولة جديدة تحقق قدر معقولا من العدل في تطبيقاته المعاصرة ، مثل سيادة القانون ، المشاركة الشعبية ، والضمان القانوني لحقوق الانسان . مع هذه التحولات ، تزداد الحاجة الى مراجعة المفاهيم الخاصة بالدولة والسلطة التي ورثناها عن الاسلاف.
من المفهوم ان لكل جيل من اجيال المسلمين حق المشاركة في صنع تصوره الخاص للفكرة والممارسة الدينية ، تطبيقا لجوهر فكرة الاجتهاد وتاثير الزمان والمكان في تشخيص المصالح الشرعية وانتاج الحكم الشرعي المتناسب مع الزاماتها. تطبيق هذا المعنى يقتضي العمل على اعادة انتاج فهمنا الخاص للتحديات التي نواجهها ، وفي طليعتها بالتاكيد تحدي العدالة والدولة العادلة.
ما ورثناه من الفكر الديني الخاص بالسلطة والدولة لا ينسجم مع واقعها اليوم ، ولا يخدم كثيرا حاجاتنا ، وهو – بالتالي – لا يستجيب لتحديات عصرنا. لا يكفينا اذن ان نعود الى ذات المقولات وذات المنهج الذي اتبعه الاسلاف كي نستعمله في معالجة اسئلة العصر. سيكون هذا - مثلما وصفه الامام الخميني - مجرد نقاش مدرسي لا يوصلنا الى اي مكان. نحن بحاجة الى مطالعة الاسئلة الرئيسية لدولة اليوم ، على ضوء القيم العليا التي يريد الدين الحنيف اقامتها ، مهما بدا انها تتفارق مع المفهومات والنتائج التي توصل اليها الاسلاف. نحن بحاجة الى سؤال انفسنا عما نريد وعما نراه صلاحا لامرنا في هذا اليوم وفي هذا المكان بالتحديد. اجوبة الامس كانت مناسبة لاسئلة الامس ، ولدينا اليوم اسئلة جديدة مختلفة وواقع جديد مختلف.




[1] انظر مثلا عصام العريان: الإخوان المسلمون ومفهوم الدولة ، موقع اون اسلام (7-11-2007)  http://www.onislam.net/arabic/madarik/concepts/102465-2007-11-07%2016-12-32.html#8
[2] اية الله الخميني : صحيفه نور ، ج 20 ، ص 233.ن.إ:  http://www.islamicecenter.com/ketaabkhaaneh/sahifeh_noor/sahifeh_noor_jeld_20_khomeini_08.html#link63
[3] اية الله الخميني ، رسالة الى اعضاء مجمع تشخيص مصلحة النظام ومجلس صيانة الدستور في 1 يناير 1989.  صحيفه نور  ج 21 . ن.إ http://www.islamicecenter.com/ketaabkhaaneh/sahifeh_noor/sahifeh_noor_jeld_21_khomeini_02.html#link27
 [4] لتفصيل حول هذه النقطة ، انظر : توفيق السيف : دور الخميني في تعديل نظرية السلطة عند الشيعة (2006) http://talsaif.blogspot.com/2006/01/blog-post_30.html
[5]  الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان : المقنعه ، مؤسسة النشر الاسلامي ، (قم 1990) ،  ص 810
[6] الشريف المرتضى : "رسالة عمل السلطان" ، في السيد مهدي رجائي (محرر) : رسائل المرتضى ، دار القرآن الكريم ، (قم 1405) 2/89
لتفصيل حول هذا التطور وظروفه ، انظر توفيق السيف : نظرية السلطة في الفقه الشيعي ، المركز الثقافي العربي (بيروت 2002) ص 101
[7] انظر طائفة من هذه الروايات في: كاظم الحائري : ولاية الأمر في عصر الغيبة ، (قم 1994) ، ص. 77
[8] ابو الصلاح الحلبي: الكافي في الفقه، تحقيق رضا استادي ، مكتبة الإمام أمير المؤمنين العامة (اصفهان 1403) ، ص 423. ن. إ http://www.yasoob.com/books/htm1/m001/00/no0023.html
[9] يقول الشيخ الاصفهاني في سياق حديثه عن ولاية الامام والفقيه على الخراج "له الولاية بما هو رئيس المسلمين وحافظ حوزة المؤمنين ، ومع عدم التمكن من التصرف على الوجه المزبور يرجع الامر إلى من يقوم بهذا الامر ، وان كان متغلبا لان فوات مصلحة قيامه بالامر لا يسوغ تفويت مصالح المسلمين". محمد حسين الاصفهاني : حاشية المكاسب ، تحقيق عباس آل سباع ، انوار الهدى (قم 1418 هج)، 2/397
[10] آية الله عز الدين زنجاني ، مقابلة ، حوزة 23 ، آذر 1366 هـ.ش
[11] السيد على خامنئي : خطاب أمام مسئولي المدارس الدينية 25-9-1991
[12] محمد جواد مغنية : تجارب محمد جواد مغنية بقلمه ، دار الجواد ، بيروت. ص 52
[13]  For more on Popper's theory, see Herbert Keuth, The Philosophy Of Karl Popper, Cambridge University Press, 2005, p. 166
[14] G. B. Madison,  The Logic of Liberty, (Greenwood Press, 1986(,p. 9
[15] عباس قائممقامي : قدرت ومشروعيت (تهران 2000) ، ص 112
[16] محمد تقي مصباح يزدي : نظريه سياسي اسلام ، مؤسسه امام خميني (قم 2001) ، ص 311

05/06/2012

التحدي الذي يواجه الاخوان المسلمين

سواء فاز المرشح الاخواني او مرشح العسكر في الانتخابات الرئاسية المصرية الوشيكة ، فالمؤكد ان الاخوان سيشكلون الحكومة القادمة ، نظرا لهيمنتهم على البرلمان. هذا يضعنا امام تجربة فريدة. سيكون على الاسلاميين القادمين الى السلطة مواجهة اشكالات عديدة ، نشير هنا الى اثنين منها: الطائفية والسياحة.
منذ عهد الرئيس الاسبق انور السادات ، شكا الاقباط المصريون من سياسة تمييز رسمي معلنة حينا ومكتومة في اغلب الاحيان ، جعلتهم – بحسب منطق الامور – مواطنين من الدرجة الثانية. كانت السلطة - يومئذ - علمانية فلم يكن بالوسع اتهامها بالتحيز الديني.
اما اليوم فان على حكومة خرجت من صناديق الانتخاب ان تقدم نموذجا مختلفا. نموذج يتعامل مع المسلم والمسيحي باعتبارهم مواطنين لا اتباع ديانات. لم استغرب الميل الجارف عند الاقباط للتصويت ضد مرشح الاخوان. فالتراث الذي ينتمي اليه ، والثقافة السائدة في بيئته الاجتماعية ، تنظر لكل مختلف باعتباره ادنى شأنا. ولهذا لا يلام "المختلف" اذا شعر بالقلق على مستقبله ، حتى لو كان ماضيه سيئا وبغيضا.
تقول بعض التقارير ان المرشح الاخواني وعد بتعيين قبطي نائبا للرئيس. وهذه خطوة ستكون مؤثرة بالتاكيد في تطمين هذه الشريحة. لكنها خطوة واحدة فحسب. يتوجب على حزب العدالة والتنمية ومرشحه ان يقدم وعدا قطعيا باصلاح القانون على نحو يحول دون التمييز بين المصريين ، والغاء جميع اللوائح والتعليمات التي تجيزه او تسهل ممارسته.
التحدي الثاني الذي يتوجب على الاخوان مواجهته هو الاقتصاد. سيكون على رجال الحكومة الجديدة ممارسة ضغط شديد على انفسهم حين يضعون السياسات الخاصة بحماية وتشجيع السياحة مثلا. يساهم هذا القطاع بنحو 12% من الناتج القومي الاجمالي  ، و نحو 20% من الدخل الخارجي للبلاد ، وهي توفر نحو 4 ملايين وظيفة.
لم يكن قطاع السياحة محبوبا عند الاسلاميين . وقد نظروا اليه دائما كبؤرة للفساد . لكنهم مضطرون اليوم الى التعامل معه كمورد اقتصادي يستحيل الاستهانة به ، اذ يستحيل عمليا التعويض عنه في المدى القصير والمتوسط.
افترض ان الحكام الجدد مؤمنون بالواقعية السياسية . فهم بالتاكيد يعرفون ان العمل في السلطة لا يشابه الحديث في المساجد وحلقات التربية الحركية. لكن هذه لن تكون مهمة سهلة. فلديهم جمهور سبق اقناعه بان "الحكم الاسلامي" سياتي بالمن والسلوى ، وسيكون "نظيفا" من كل مكروه. ويظن كثير من هذا الجمهور ان مهمة كهذه لا بد ان تتحقق في اسابيع اذا امتلكت صولجان الحكم.
خلاصة القول ان الاسلاميين المصريين ، ومن يتاثر بهم خارج الحدود ، يبنون قصورا من الامال. لكنهم سيواجهون تحديات صعبة ، وقد تكون قاتلة. لهذا فمن الخير لهم ان يضعوا في اعتبارهم اسوأ السيناريوهات ، وان يتحاشوا الانفراد بالقرار ، كي لا يتحملوا وحدهم ثمن الاخفاقات ، وبعضها متحقق دون شك ، في هذه الظروف التي تتسم بانعدام اليقين.



الاقتصادية 5 يونيو 2012

29/05/2012

مصر ما زالت متدينة لكنها خائفة من التيار الديني



ذهلت حين سمعت أن الفريق أحمد شفيق حصد 24 في المائة من أصوات الناخبين المصريين. كان الأمر بسيطًا ومفهومًا لو ذهبت هذه الأصوات لعمرو موسى أو حمدين صباحي، لكن التصويت الكثيف لأحمد شفيق يكشف عن تأزم غير اعتيادي يجري تحت السطح. فهم هذا التأزم ربما يساعدنا أيضًا على كشف السبب الذي جعل الثورة اليمنية تنتهي بإعادة إنتاج النظام القديم بدل إرساء جمهورية جديدة. وهو قد يساعدنا على فهم تلكؤ العالم في اتخاذ موقف يدفع الأزمة السورية إلى خط النهاية المأمولة.
كنت أظن أن دول العالم ما عادت تخشى وصول الإسلاميين إلى السلطة، لكن ما جرى في ليبيا بعد سقوط القذافي، وما يجري في لبنان وسورية اليوم، يقدم مبررات إضافية على أن قلق دول المنطقة والعالم ليس مجرد ''إسلاموفوبيا'' كما كان يقال في السنوات الماضية.

ليس سرًّا أن الثورة اليمنية فتحت الباب أمام سيطرة تنظيم القاعدة على عدد من المحافظات. وليس سرًّا أن عددًا من المحافظات الليبية يخضع لجماعات دينية محلية تتبع اسميًّا فقط حكومة طرابلس. وليس سرًّا أن مراقبين عديدين يتحدثون عن احتمال مماثل في سورية ولبنان.

Mohamed Morsi-05-2013.jpg
التيار الديني كان هو القاسم المشترك في كل هذه الحوادث. هذا يثير سؤالاً جديًّا: هل يسهم الصعود الحالي للتيار الإسلامي في تصحيح مسار الدول العربية، أم يؤدي إلى تفكيك الإجماع الوطني والتمهيد لظهور دويلات الطوائف؟
تصويت المصريين لمصلحة أحمد شفيق بعد أشهر قليلة من إسقاط النظام الذي كان جزءًا منه، يشير إلى قلق عميق ينتاب المصريين. لعل الناس أرادوا الإسلاميين في الحكومة لأنهم يثقون بنزاهتهم، لكنهم يخشون تسليمهم القوات المسلحة. وهذا ما سيحصل لو أصبح مرشح الإخوان رئيسًا للجمهورية. الجيش- بالنسبة لعامة الناس- يمثل الملجأ الأخير فيما لو سارت الأمور في الطريق الخطأ.

يقول محللون إنه لو عقدت الجولة الثانية للانتخابات المصرية اليوم، فإن أحمد شفيق سيكون الرئيس القادم وليس مرشح الإخوان محمد مرسي. ولهذا السبب فإن على التيار الإسلامي المصري أن يبذل جهدًا استثنائيًّا لتطمين الناس. هذا لا يتحقق بالكلام في التلفزيون، ولا بإصدار تعهدات أحادية، بل باتفاقات محددة مع الأطراف السياسية الفاعلة، تتضمن التزامات علنية تعالج أسباب قلقهم.

أبرز نقاط ضعف الإخوان في الأشهر القليلة الماضية هو استهانتهم بقوة الآخرين، وتعزز هذا مع سيطرتهم على البرلمان. هذا يجعلهم اليوم أمام خيارات مريرة: لو فاز أحمد شفيق فسيقول الناس إن الإخوان هم الذين مهدوا له الطريق. ولو عالج الإخوان خطأهم وتحالفوا مع القوى السياسية، ونجح مرشحهم، فسوف يكون– في المرحلة الأولى على الأقل– رئيسًا ضعيفًا، الأمر الذي سيعطل عودة مصر إلى مكانتها السابقة كدولة محورية في النظام الإقليمي.

إذا كان ثمة درس على الإسلاميين أن يتعلموه من التجربة المصرية، فهو بالتأكيد درس التواضع. تستطيع السيطرة على كل شيء، وربما تشعر بالفخر ويشعر أتباعك بخيلاء القوة، لكن ليس كل انتصار في السياسة يستحق العناء. بعض الانتصارات تدفع تكلفتها بعد أن تتحقق، وهي تكلفة قد تكون أعلى كثيرًا من قيمة الانتصار ذاته.

الاقتصادية   2012 مايو 29

مقالات ذات صلة:

24/10/2011

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الاول



            د . محمد مجتهد شبستري
(  1  )   الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية


القضايا التي نناقشها اليوم كان ينبغي ان تناقش منذ ربع قرن على الاقل . مسائل مثل نوع الحكومة التي نريدها والتنظيم السياسي المناسب لبلدنا هي مسائل اولية ما كان ينبغي ان تترك من دون معالجة جدية حتى اليوم . لو اجرينا مناقشة معمقة ، تحليلية وعقلانية عند تاسيس نظامنا السياسي ، لكان معظم المسائل المثيرة للجدل اليوم قد وجد حلا . لحسن الحظ على اي حال ان هذه المسائل تطرح اليوم ، ومن بينها المسألة التي تناقشها هذه المقالة ، اي "الديمقراطية في مجتمع ديني" .
من المهم تحديد زاوية البحث في سؤال الديمقراطية والديمقراطية الدينية . بديهي ان كل مقاربة للموضوع سوف تعالج جانبا مختلفا عن ذلك الذي تعالجه المقاربات الاخرى . كل مقاربة تنتمي الى اطار علمي مختلف وتستخدم استدلالات ومناهج بحث وزوايا تركيز متمايزة . يمكن مناقشة السؤال من زاوية مفهومية ، فلسفية ، قانونية ، سوسيولوجية ، او سياسية . .الخ .
ربما ظن بعضنا ان سؤال "هل تتلاءم الديمقراطية مع الدين؟" يلخص كل المشكلة ، والحقيقة ان هذا سؤال عن زاوية واحدة من الموضوع فقط . وحتى لو اجبنا عليه فسوف يتوجب معالجة العديد من الاسئلة الاخرى مثل : ما هي الديمقراطية ؟ ، هل نظامنا ديمقراطي ؟ ، هل نحتاج الى الديمقراطية ؟ . كيف نصل الى الديمقراطية ؟ . وهذا يقودنا الى السؤال الذي نحن بصدده ، اي : ماذا يعني وصف الديمقراطية بالدينية ، وهل نتحدث عن ديمقراطية دينية ام ديمقراطية المتدينين ؟ ، وهل يجوز لعامة المسلمين ان يختاروا لانفسهم نظاما سياسيا مثل الديمقراطية ، ام ان الامر متروك لزعمائهم السياسيين والدينيين كي يختاروا النظام المناسب ؟ .
الديمقراطية هي احد المفاهيم الجديدة التي تولدت في اطار المدنية الغربية المعاصرة ، ودخلت حيز النقاش بين المسلمين في السنوات الاخيرة . معظم هذا النقاش يستهدف الحصول على تطمينات حول قدرة الديمقراطية على حل مشكلاتنا ، والتأكد من ملاءمة القيم الديمقراطية لمعتقداتنا الدينية ، اي امكانية اعتبارها خيارا مناسبا لمجتمعاتنا . فيما يتعلق بالتوليف بين الدين والديمقراطية ، ثمة اراء عديدة يدعي بعضها توفر ادلة في النصوص الاسلامية تدعم القيم والمباديء الديمقراطية ، بينما يقتصر الاخر على القول بامكانية الجمع بينهما ، اي وجود فرصة او وسيلة لحل التعارض المحتمل بين الطرفين .
بعض الاسئلة المطروحة في هذا النقاش يعبر عن انشغال ذهني او روحي لعامة الناس ، وبعضها يشغل السياسيين ، او المثقفين او المفكرين وهكذا . ما يشغلني شخصيا هو علاقة هذا السؤال بمعرفتنا الدينية . افترض ان بوسعنا توليف الديمقراطية مع الدين في اطار فهم عقلاني للدين ، وهذا يتوقف على توفر مناهج فهم وتفسير عقلانية . من هنا فسوف اعيد صياغة سؤال العلاقة بين الدين والديمقراطية على النحو التالي : هل لدينا فعلا ، او هل يمكن لنا تطوير فهم جديد للدين قابل لاستيعاب تحديات العصر وتطور الانسان المعاصر ؟ .
الديمقراطية هي سؤال واحد فقط من اسئلة كثيرة مطروحة بالحاح على المسلمين المعاصرين وعلى الفكر الاسلامي ، وبقاؤها مطروحة لزمن طويل يدل صراحة على ان هذا الفكر يفتقر الى منهجية مناسبة لاستيعاب ومعالجة التحديات النظرية وغير النظرية التي تولدت عن تطور الفكر الانساني في العصور الاخيرة . اذا اراد المسلمون ان يردموا الهوة الواسعة التي تفصلهم عن عصرهم ، ويلتحقوا بركب المدنية الحديثة من دون ان يضحوا بايمانهم ، فانهم بحاجة الى ثقافة جديدة قادرة على التسوية بين الدين والمدنية . تأخر المسلمين عن عصرهم هو ثمرة للممانعة التي يجدوتها في قيمهم الدينية ، اي ما يتخيلونه من استحالة الجمع بين ايمانهم من جهة والتقدم العلمي والاجتماعي من جهة اخرى . لكي لا نقع في منزلق التبرير ، فيحب ان نقر صراحة بان ما يفصلنا عن المدنية المعاصرة ليس المسافات ولا مؤامرات الاعداء ، بل عجزنا عن تطوير ارضية ذهنية وثقافية مناسبة تسمح بالتوليف بين متطلبات التقدم ومتطلبات الايمان . سر هذا العجز يكمن في هيمنة مناهج في فهم الدين غير عقلائية ، او غير قادرة على فهم العصر الحاضر وما فيه من قضايا وموضوعات وتحديات .
 المنهج السائد في الساحة الدينية ومجامع العلم الشرعي ، منهج متخلف يقود الى تفسيرات للقيم الدينية غير عقلائية ولا يمكن الدفاع عنها . كما ان الكثير مما يسمى اليوم قيما دينية ، ليس دينيا بالمعنى الدقيق ، كثير من هذه القيم ليس وحيا منزلا ، ولا هي تفسيرات قطعية ونهائية للوحي او القواعد الدينية الاصلية . بل تنظيرات لاعراف وتقاليد وسلائق توافق عليها المجتمع او النخبة الدينية في ازمان معينة او ضمن ظروف خاصة باعتبارها ضرورات للنظام الاجتماعي او مصلحة للمؤمنين ، وبناء على هذه الاعتبارات جرى ضمها الى منظومة القيم الدينية ، وترسخت بمرور الزمن وتلقيها بالقبول من جانب اجيال المسلمين او نخبتهم .
نحن نتفهم بطبيعة الحال الاسباب التي قادت الى تلك التفسيرات والظروف التي فرضتها ، فالازمان الماضية التي شهدت ولادتها لم تعرف مثل ما نواجهه اليوم من تحديات فكرية واجتماعية ، ولم يصل اهلها الى المستوى الذي يعرفه انسان هذا العصر من ثقافة وعلم وتكنولوجيا وانفتاح وسرعة . وعلى اي حال فلم تكن المشكلة يومذاك قصرا على المجتمعات الاسلامية ، فالتفكير الديني في مختلف بلاد العالم كان متخلفا او منفصلا عن الحراك العلمي والتطور العقلي الذي اوجد المدنية المعاصرة .
 ادى ظهور وتطور العلم الحديث خلال القرون الاربعة الاخيرة الى تقدم هائل في مجال العلوم الانسانية والتجريبية ، تغيرت على اثره حياة الانسان ، كما تغيرت ثقافته وتغير فهمه للعالم . وظهرت في هذا السياق مناهج جديدة للمعرفة والتفسير والتفكير ، تسعى لتمكين الانسان من اعادة فهم ما يجده في عالمه وما ورثه عن اسلافه من تراث وافكار وقيم وتجارب ، ونشير هنا خصوصا الى تبلور مناهج جديدة لفهم النص الديني على اسس عقلانية . ولا شك ان المؤمنين بالاديان قد استفادوا من هذه المناهج . وهذا ما يفسر الميل المتصاعد في عالم اليوم لاستبعاد التفسيرات العرفية او الخرافية للدين . واستطيع القول من دون تحفظ ان توفر العلم والمناهج الفلسفية الحديثة وتطور التجربة العقلية للانسان لم تترك اي مبرر لتلك الشريحة من دارسي العلوم الدينية التي غضت الطرف عما توفره المناهج العلمية الجديدة من امكانات هائلة لفهم وتفسير النص الديني ، وكرست نفسها لحراسة المناهج القديمة التي اكل عليها الدهر وشرب ، وظهر عجزها عن الوفاء بحاجات المسلمين الروحية والدنيوية الراهنة .
كثير من مشكلاتنا الثقافية هي نتاج لترددنا في تطوير مناهج الفهم والاستدلال التي يتعارف عليها العلماء باسم الاستنباط او الاجتهاد ، ولا سيما التردد في الاخذ بالمناهج الجديدة في فهم النص واستنطاق مضمونه . وللاسف فعلى الرغم من توفر هذه المناهج ورغم قدرتنا على تطويرها ، الا ان الاهتمام بهذا الامر في مجامعنا العلمية ضئيل او ربما معدوم . في سنوات الثورة الاسلامية الاولى أتاحت الظروف السريعة التغير مجالا للدعوة الى تجديد الفكر الديني ولاسيما مناهج الاستنباط ، ومساءلة اولئك الذين يتصدون للاجتهاد والفتوى عن منهجهم في البحث ، والمعايير التي يقررون على ضوئها خياراتهم . لكن هذه الدعوة واجهت في كل الاحوال معارضة غير منصفة ، وواجه اصحابها انواعا من العنت حتى اضطروا الى السكوت عنها .
زبدة القول ان الاجابة على سؤال العلاقة بين الديمقراطية والدين يتوقف الى حد كبير على المنهج الذي نتبعه في فهم الدين واستنباط قواعد العمل من نصوصه . وارى انه لا يمكن في ظل المناهج الموروثة التوصل الى جواب مناسب ، لان هذه المناهج ليست مؤهلة من الاساس للتعامل مع اسئلة من هذا النوع . ومن هنا فانه لا الديمقراطية ولا القيم والافكار الاخرى التي انتجتها المدنية المعاصرة ، قابلة للفهم او الملاءمة مع تفكيرنا الديني في ظل تلك المناهج . دعنا على اي حال ننتقل من هذه المقدمة الى مسألة اخرى ، احسبها تمهيدا ضروريا للتفكير في العلاقة بين الدين والديمقراطية ، اعني بها الارضية التي يقوم عليها كل من الطرفين .
 قيم الدين وقيم الديمقراطية
حديثنا عن "الديمقراطية" يأخذ بعين الاعتبار كونها مفهوما محددا جرى تعريفه على نحو دقيق من خلال التجربة الفعلية في العالم فضلا عن الابحاث والدراسات في المحافل العلمية المتخصصة . بتعبير اخر فاننا لا نسعى من وراء هذا النقاش الى تخليق مفهوم جديد نطلق عليه اسم "الديمقراطية" ، بل معالجة المفهوم المعروف في العالم وربما تعديل بعض اطرافه بما لا يؤثر على قوامه الاساسي والمباديء الكبرى التي تمثل جوهره . بالنظر لتطورها في محيط معرفي مختلف فان "القيم الديمقراطية" هي تركيب منظومي متمايز عن "القيم الدينية" التي تمثل هي الاخرى تركيبا منظوميا خاصا وقائما على ارضية مختلفة عن تلك التي تقوم عليها القيم الديمقراطية . من ابرز موارد الاختلاف بين المنظومتين على سبيل المثال ، هو ان قيم الديمقراطية تمثل قيما توافقية- ضمنية ، بمعنى انها ثمرة لنوع من التوافق الاجتماعي على معناها ومؤدياتها . وفي الحقيقة فان معظم القيم الديمقراطية – فوق قيامها على التوافق – تستهدف ايضا تعزيز وتعميق علاقات التوافق والتعاقد بين الافراد . من بين القيم التي يظهر فيها كلا البعدين مثلا اصالة التعاقد ، الرضا والقبول الشعبي كمصدر للشرعية ، المساواة المدنية ، حق الفرد في الاختيار المستقل لنمط حياته الاجتماعية والسياسية ، سيادة القانون ، ارتباط الحقوق الدستورية بالمواطنة ، ضمان حقوق الانسان ، حاكمية الشعب . الخ . هذه المفاهيم تنطوي في داخلها على محتوى قيمي – توجيهي ، ومن هنا فان تفعيلها في الحياة العامة هو الذي يعطي للديمقراطية شكلها ومضمونها الخاص .
لا اريد الان الدخول في بحث حول الارضية الفلسفية او الاخلاقية لتلك المفاهيم ، وما اذا كانت مستمدة من القانون الطبيعي او الفطرة او غير ذلك من المصادر . الامر المسلم به هو ان تلك القيم قد حصلت على مكانتها الرفيعة نتيجة لـ "توافق" اعضاء المجتمع على معياريتها ، بعبارة اخرى فان اعضاء مجتمع ما قد "توافقوا" على هذه القيم و "تعاقدوا" على جعلها اساسا للقانون الذي يحكم حياتهم  . تحول هذه القيم النظرية الى معايير حاكمة ومنظمة للعلاقات الاجتماعية هو اذن نتيجة للتوافق والتعاقد بين اعضاء الجماعة ، وليس بفرض او الزام من جانب احدهم او من جانب قوة خارجية فوقهم . من هنا فان الخطوة الاولى التي تمهد لقيام حكومة ديمقراطية ، هو توفر هذا النوع من التوافقات (او القيم الديمقراطية) بين الشعب .
لم يكن توصل المجتمعات الديمقراطية الى تلك التوافقات ثمرة للتامل الفكري المجرد ، بل نتيجة لتحولات في الحياة الاجتماعية واحيانا ازمات طاحنة اوجبت على الناس التفكير في بدائل ومخارج من تلك الازمات . ومن هنا يمكن القول ان ظهور هذا النوع من التوافقات والقيم ، وقبول الناس بها وتعايشهم مع مستلزماتها ، يتطلب تحولات من نوع ما ، اقتصادية او سياسية او ثقافية ، توفر ما يمكن وصفه بتمهيد نفسي او ذهني يسهل على اعضاء المجتمع القبول بمبدأ التوافق كوسيلة قطعية ووحيدة لحل الخلافات والتعارضات في المصالح وادارة الموارد والثروات الطبيعية المشتركة ، ثم الانتقال الى مرحلة التعاقد بين افراده على صورة النظام السياسي الذي يأملون العيش في ظله .
من الممكن بطبيعة الحال ان يعيش الناس من دون هذه القيم . من الممكن مثلا ان يعيش الناس في مجتمع لا يعرف مفهوم المواطنة وما يترتب عليها من حقوق دستورية ، او لا يعرف مفهوم الارادة العامة ، او حقوق الانسان ، او التمييز بين المجال الشخصي والعام ، الخ . . من الانصاف ايضا القول بانه لا يمكن البرهنة باي طريقة فلسفية او تاريخية او غيرها على ان المجتمعات التي لم تتوصل الى تلك التوافقات والقيم ، كانت على خطأ او كانت سيئة او غير متحضرة او غير طبيعية ، او ان حياة الناس فيها كانت خالية من المعاني الانسانية . واقع الامر ان التحولات الاجتماعية والعلمية قد وضعت امام الناس حقائق جديدة على مستوى المعرفة او على مستوى السياسة والاقتصاد ، اي حقائق ذهنية وحقائق مادية . ونتيجة لتعرف الناس على تلك الحقائق ، توصلوا الى قناعة ضمنية او صريحة بان الاخذ بالقيم والمفاهيم الديمقراطية المذكورة اعلاه سوف يجعل حياتهم اكثر انسانية .
خلافا لهذا المعنى فان القيم الدينية ليست توافقية ، اي ان اعتبارها الديني والاخلاقي ليس منبعثا من اتفاق الجماعة على دينيتها او معياريتها . الدين ليس من ذلك النوع من سبل الحياة الذي يتوافق اعضاء المجتمع على صناعة مضمونه او منحه القيمة المعيارية . ربما يقول بعضنا بان القيم الدينية يمكن ان تتولد بصورة من الصور من تجربة روحية . ونقصد بالتجربة هنا معناها العرفاني وليس المادي . التجربة بالمعنى المادي قد تنحصر في ممارسة الشعائر ومظاهر السلوك اليومي التي يقوم بها كل المتدينين . اما المعنى العرفاني الذي يتحدث عنه الفلاسفة والعارفون ، فهو يشير الى نوع خاص من التفاعل بين الانسان والكون ينبعث من وحدة الاصل الذي يرجع اليه الطرفان . هذا التفاعل ينتج معرفة وعلاقة بين داخل الانسان وخارجه ، بينه وبين النظام الكوني الذي يعيش فيه ، وهو قريب من معنى الفطرة الى حد ما . وعليه فاذا كان منشأ الدين هو هذا النوع من التجربة الروحية ، فانه يمكن ان يكون ايضا منشأ للقيم الدينية . لكن حتى لو قلنا بهذا المنشأ للدين او القيم الدينية ، فانه لا يمكن ان يكون من نوع المفاهيم التوافقية ، فالتجربة الروحية بهذا المعنى هي – بالضرورة - تجربة فردية لا يمكن للانسان ان يشرك فيها غيره بل ولا يمكن ان تكون مشتركة مع الغير .
يتميز الدين عن سائر الممارسات الحياتية الاخرى بانطوائه على جانب قدسي هو مصدر فعال للالزام ، بمعنى ان الايمان بذاته يولد في داخل النفس معنى خاصا للافعال ، ويترتب عليه شعور عند المؤمن بان عملا ما هو واجب يلزمه القيام به ، وان عملا اخر ينبغي اجتنابه . القبول بالايمان ومقتضياته وممارستها من جانب الفرد ، تشكل ما يمكن وصفه بتجربة دينية بالمعنى العام للكلمة ، فهي تولد قيما او تسبغ قيمة على اشياء ، وتسلبها من اخرى ، فهي مثلا تلقي رداء القداسة على اماكن او اعمال او اشخاص او كلام ، فتجعلها ذات قيمة استثنائية . توليد هذه القيم لا يجري نتيجة لتوافق اجتماعي كما هو واضح ، بل من خلال علاقة مباشرة بين الفرد وبين المصدر الاعلى الذي ينتسب اليه دينه ، اي من خلال تجربة روحية فردية .
زبدة القول اذن ان الديمقراطية هي منظومة قيمية تقوم على ارضية التوافق الاجتماعي ، فالارادة العامة للمجتمع هي مصدر شرعيتها ومعياريتها . خلافا لهذا فان القيم الدينية مستمدة من الايمان الديني ، وهو ليس قائما على توافق بين الناس ، بل ثمرة للاتصال بين الفرد وربه . حتى لو قلنا بان الدين هو تجربة روحية ، فانها ايضا لا تخرج عن ذلك الوصف ، ذلك ان التجربة الروحية هي في نهاية المطاف تجربة فردية وليست موضوعا للتوافق .
 الديمقراطية كضرورة للحياة الدينية
فيما يتعلق بالتركيب المفهومي "الديمقراطية الدينية" يمكننا تصور معنيين للوصف الديني :
المعنى الاول : ان الديمقراطية الدينية هي اطار يضم في داخله منظومة من القيم الدينية ، اي ان المحتوى القيمي والاخلاقي للديمقراطية هو امتداد للنص الديني او للتجربة الدينية . اذا كان هذا المعنى هو الصحيح فان وصف الديني هو قيد للديمقراطية وليس شرحا عليها . وبالتالي فان اهمية الديمقراطية او قيمتها تنبع من كونها تكليفا دينيا . كما ان قبول المؤمن بها راجع الى ورودها في النص الديني او ارتباطها بالتجربة الدينية .
المعنى الثاني : ان الديمقراطية التي نتحدث عنها (الدينية) هي ذات الديمقراطية المعروفة في العالم من دون ان نتدخل او نغير في مفهومها . اي انها غير مستنبطة من النص الديني وليست موضوعا للاجتهاد والاستنباط على النحو المتعارف اليوم في الحوزة العلمية وغيرها من مجامع العلم الشرعي . مفاد هذا القول انه لا يمكن الحصول على قيم الديمقراطية في الكتاب والسنة او سيرة المعصومين ولا يمكن تاسيس شرعيتها او معياريتها على هذا الاساس . وبالتالي فان الاقتناع بها او التعويل عليها لا يستند الى آية في القرآن او رواية من المأثورات او عملا مسجلا كسيرة للمعصوم .
في رأينا ان المعنى الثاني هو الصحيح . لكن يجب الانتباه الى ان عدم الاشارة الى القيم الديمقراطية في التراث الديني لا يعني ابدا انها مقولة باطلة او مضادة للدين . فورود مفهوم ما في التراث يرتبط بالظرف الزمني والموضوعي الذي شهد ولادة ذلك التراث . بديهي ان المفاهيم والافكار الجديدة ومن بينها الديمقراطية لم تكن سؤالا مطروحا في الزمن الذي نعتبره مرجعيا ، اي زمن حضور المعصوم . وقد اشرنا في السطور السابقة الى ان ظهور قيم الديمقراطية وامثالها من القيم التوافقية رهن بتحولات خاصة في حياة المجتمعات ، وما لم تتحقق هذه التحولات البنيوية فان ظهور تلك القيم ، وخصوصا تحولها الى ضرورة للحياة ، هو امر مستبعد . نعلم ايضا ان مجتمع المسلمين لم يتعرض خلال العصور السابقة التي نرجع اليها في دراسة النصوص الدينية ، لتلك التحولات التي اثرت في وعي الانسان . نحن نعيش اليوم في عالم جديد ، ولدت فيه الكثير من المفاهيم الجديدة ، كما تغيرت كثير من المفاهيم المعروفة سابقا . انظر مثلا الى مفهوم "الدولة" المعاصر وكيف انه مختلف تماما عن مفهومه المتداول في كتب التراث ، وانظر ايضا الى مفهوم القانون ، المواطنة ، حاكمية الشعب ... الخ . هذه المفاهيم وامثالها لم تكن موجودة او معروفة في نظامنا الاجتماعي وثقافتنا السائدة قبل العصور الحديثة . هذه مفاهيم جديدة للحياة الانسانية وعلينا ان نسعى لفهمها ونقدها وتنسيجها في نظامنا الثقافي . اما البحث عن نظائرها في كتب التراث او في تجربة المسلمين الاوائل فهو عمل لا طائل تحته ، لانها بذاتها لم تكن موجودة او ان موضوعاتها لم تكن مطروحة فيما سبق .
السؤال الذي يواجهنا عند هذه النقطة هو : اذا لم يكن ممكنا العثور على دليل يدعم الديمقراطية في النصوص الدينية ، فهل ثمة مرجعية بديلة يمكن الاستناد اليها في الاخذ بالنظام الديمقراطي؟ . بعبارة اخرى كيف نتصور ديمقراطية دينية دون ان يكون لها مرجعية في النص الديني ؟ .
 للجواب على هذا السؤال نحن بحاجة الى التفسير العقلاني للدين الذي سبق الحديث عنه . صحيح انه لا يمكن التوصل الى مرجعية دينية للديمقراطية بالاعتماد على منهج الاجتهاد والاستنباط الموروث ، لكن يمكن العودة الى القيم الدينية والى روح الدين بشكل عام للبرهنة على انه لا يوجد تعارض بين الدين والديمقراطية ، بمعنى انه يمكن لنا ان ناخذ بالنظام الديمقراطي دون ان نخسر ايماننا ، بل يمكن البرهنة على ان الاخذ بالديمقراطية سوف يجعل تطبيق مقتضيات الايمان اكثر يسرا واقرب منالا . المشكلة اذن لا تتعلق بقابلية الدين او الديمقراطية للتلاؤم مع بعضهما ، بل بالمنهج المتبع في فهم وتفسير الدين .
نحن بحاجة الى رصد راسمال كبير في مناقشة هذه المقولات ، فمن دون الانخراط في بحث عميق ومتعدد الابعاد فان مشكلات مثل ما نحن بصدده (اي ما هي الديمقراطية الدينية) لن تكون قابلة للحل . اذا تحدثنا عن الاصلاح في امثال مجتمعنا ، فلا شك ان الافكار الاصلاحية لا يمكن ان تصل الى نتيجة من دون بحوث عقلانية معمقة ومتواصلة في النص الديني وتفسيره .
يجدر الاشارة هنا الى ان مجتمعنا ليس الوحيد الذي تثار فيه هذه الاسئلة او تظهر في صفوفه الحاجة الى مثل هذا البحث . فهي مطروحة حتى في المجتمعات الغربية التي قطعت شوطا بعيدا في الاصلاح السياسي . بالنسبة للمؤسسات الدينية المسيحية مثلا ، نشير الى ان الفاتيكان كان حتى منتصف الستينات من القرن العشرين يتخذ موقفا مرتابا واحيانا معاديا لمواثيق حقوق الانسان الدولية باعتبارها نقيضا للمسيحية . لكنه اقتنع منذ العام 1964 بان اعتماد هذه المواثيق يوفر فرصة افضل للتدين والايمان . الاستدلال الذي جرى الاخذ به يومئذ هو ان هذه المواثيق تعين لكل انسان حريما لا يمكن تجاوزه من جانب اي سلطة ، ويضم هذا الحريم منظومة من الحريات الطبيعية التي ترتبط بانسانية الانسان ، وابرزها حرية الاعتقاد والعبادة وحرية التفكير والعمل الخ . اذا تمتع كل انسان بهذا الحريم فانه – كمتدين ، سواء كان مسيحيا او غيره - يمكن ان يعيش حياته الدينية ويمارس مقتضيات ايمانه بحرية وأمان . ومن هنا فان اي نظام سياسي يحترم حقوق الانسان هو بالضرورة اكثر انسانية واقرب الى جوهر الدين من اي نظام قاهر او شمولي لا يقيم حرمة لحياة الافراد الشخصية ولا يحترم حقوقهم .
حسنا ، لو اتبعنا هذه الطريقة التجريبية في الاستدلال ، فهل ستوصلنا الى توليف مناسب بين الدين والديمقراطية ؟ .
دعنا نفترض ان المسلمين وجهوا هذا السؤال لانفسهم : ما هو ظرف الحياة الاكثر تناسبا مع هويتنا كمسلمين ، العيش في ظل حكومة ديمقراطية ام العيش في ظل حكومة استبدادية او شمولية؟ .
 يمكن صياغة هذا السؤال على نحو آخر : ما هو نوع النظام السياسي – الاجتماعي الذي يوفر فرصة اكبر لنا كي نعيش في انسجام مع ايماننا ومعتقداتنا وقيمنا الدينية ، هل هو النظام الديمقراطي ام الاستبداد ؟ .
نفترض ان كل عاقل سيفضل – بصورة مبدئية على الاقل - الديمقراطية على الاستبداد . اذا اخذنا بهذه الرؤية فلن يكون ثمة حاجة الى تغيير في محتوى مفهوم الديمقراطية او استبدال القيم التي يقوم على اساسها او يسعى الى ترسيخها . من ناحية اخرى فان هذه الرؤية لا تأخذ بالديمقراطية من منطلق الانفلات من حدود الدين واحكامه . على العكس من ذلك فاننا نطرح ذلك السؤال ، وناخذ بهذه الرؤية انطلاقا من كوننا مسلمين مؤمنين ، نريد ان نعيش حياتنا من دون ان نتخلى عن ايماننا . ولهذا فان سؤالنا يدور في جوهره حول البيئة التي توفر فرصة اكبر وافضل للعيش كمؤمنين . رؤيتنا تقول ان القبول التوافقي بقيم الديمقراطية واقامة الحكومة التي تجسدها ، سوف يوفر ظرفا افضل للاعتقاد الحر والممارسة الحرة لمقتضيات الايمان ، ومن هنا فان هذا النظام اكثر انسانية كما انه اكثر دينية من اي نظام استبدادي .
الاخذ بالديمقراطية وتفضيلها على ما سواها ينطلق اذن من مبررات دينية بحتة . لكن هذا ليس نهاية القصة . فالنظام الديمقراطي يوفر - اضافة الى ما سبق - فرصا لتحقيق اغراض الدين واهدافه . من الامور البديهية عندنا ان الدين يسعى الى محو الظلم والقهر وترسيخ العدالة الاجتماعية باعتبارها اهدافا اولية لاي مجتمع ديني . وينظر الى هذه الاغراض كمسؤولية مشتركة يساهم في انجازها جميع الناس . يريد الدين ايضا ان يؤمن به الناس مختارين لا مضطرين او مجبرين ، وان يعيشوا احرارا في دنياهم غير مرتهنين او مقموعين ، لان الحرية هي البيئة التي يزدهر فيها الايمان وتتبلور فيها الطاقات الانسانية ، وتتقدم الحياة . هذه الاغراض هي بعض الثمرات النسبية لنظام ديمقراطي ، ولهذا فان قبولنا بمثل هذا النظام ينطلق من ايماننا الديني ، وهو مبرر على ارضيته . نقبل بالديمقراطية لانها تمكننا من تحقيق الاغراض التي يسعى اليها الدين ونريد تحقيقها كمؤمنين .
ليس ثمة تناقض بين ان نكون مسلمين وان نستعير نظاما حياتيا تبلور خارج اطار الاسلام . في الماضي فعل المسلمون الشيء نفسه واستعاروا انظمة حياة تبلورت خارج اطارهم لانهم وجدوها اكثر تناسبا مع اسلامهم ومع نوعية الحياة التي يريدون ان يحيوها كمسلمين .
من الواضح ان قبول الديمقراطية بالاستناد الى قيم دينية توافقية وتنسيجها ضمن ثقافة المسلمين يستوجب مراجعة وتعديل نظام القيم الخاص بالثقافة الاسلامية لتمكينها من استيعاب القيم الجديدة وهضمها وادراجها ضمن منظوماتها القيمية الخاصة . من ذلك مثلا موقفنا من القهر والعنف ، اذ ليس من المعقول ان تندرج قيم الديمقراطية في نظامنا الثقافي بينما لا نزال نروج للعنف وفرض الاراء والقناعات بالقوة والقهر ونلقي عليها اوصافا قيمية او دينية من نوع اعتبارها امرا بالمعروف ونهيا عن المنكر او جهادا في سبيل الله ، لايمكن ان نقدس الجبر والقهر ونستوعب الديمقراطية في الوقت نفسه . هذا لا يعني بطبيعة الحال التخلي عن المباديء الاسلامية مثل الجهاد او الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل التخلي عن استخدام مثل هذه المباديء في القهر والتجبر او ممارستهما بطريقة تحتوي على قهر او عنف ، مثل قمع حرية التعبير او منع الافراد من ممارسة شعائر او انماط حياة تخالف السياسات الرسمية . اول شروط الديمقراطية هو الاعتراف بالمجال الخاص للانسان الذي هو حريم شخصي لا سلطة للدولة فيه ، ولا يجوز خرقه من جانب اي طرف .
ليس من العسير على اي مجتمع ان يراجع منظوماته القيمية . في الحقيقة فان هذه العملية تجري في كل الاوقات في كل مجتمع . الناس يتفاعلون مع التحولات التي تجري في حياتهم ومن حولهم ، كما يتفاعلون مع التحديات التي تواجههم ، فيغيرون اراءهم وقناعاتهم ، اي يستبدلون قيما قائمة باخرى جديدة من اجل تحسين كفاءة نظامهم الاجتماعي وتحسين مستوى معبشتهم ، وهكذا تجري الامور على الدوام ، وبصورة عفوية في الغالب . القيم الدينية التي نتحدث عنها ولدت قبل اربعة عشر قرنا ، لكنها تعرضت طوال هذه الفترة لمراجعات عديدة حتى وصلت الينا على الصورة التي نعرفها اليوم ، وهي صورة تختلف قطعا عما كانت عليه قبل قرون . لا يوجد اي مانع شرعي او عقلي يحول دون مراجعة القيم التي نرجع اليها في تنظيم حياتنا ، بل يمكن القول ان هذا هو موطن الاجتهاد في معناه الدقيق .
لو نظرنا الى ثقافتنا السائدة وما ينطوي عليه تراثنا ، نظرة نقدية ، فسوف نجد الكثير مما يحتاج الى اصلاح في نظامنا القيمي وفي اعرافنا وتقاليدنا . هناك على سبيل المثال تمييز بين الناس وتصنيف لهم كمواطنين من الدرجة الاولى والثانية . ثمة طبقات او اصناف اجتماعية تعتبر نفسها ممتازة على غيرها ، وتحسب لنفسها حقوقا على الاخرين ، وهذا بطبيعة الحال خلاف اصل التكافؤ والتساوي بين بني الانسان . هذه القيم وامثالها تحتاج الى اصلاح يقود الى الاقرار بالتكافؤ التام بين الناس والمساواة المدنية بينهم كمواطنين اكفاء لبعضهم . لا يمكن اغفال هذه العيوب في نظامنا الثقافي لان التغافل لا يحل اي مشكلة .
زبدة القول اذن ان التوليف بين الدين والديمقراطية ليس بالامر العسير . لكنه مشروط بالنظر في الاسلام ، في روحه وفي قيمه ، وانتهاج منهج عقلاني انساني في فهمه وتفسيره . وهذا يتطلب بالضرورة عدم الاقتصار على اراء الفقهاء ، وعدم الاخذ بمنهج الاجتهاد والاستنباط الموروث . ان رؤية جديدة وانسانية للدين سوف تمكننا من بسط ارضية فكرية وقيمية دينية جديدة تستوعب التحديات الفكرية والحياتية التي تتجه الينا . نحن في امس الحاجة الى هذه الارضية كي نعيش عصرنا ونحافظ على ايماننا في الوقت ذاته .


بقية فصول الكتاب


تقــــــــــــــــــــــــــــــــديم 
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/1.html
1)  الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية                                                         محمد مجتهد شبستري
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_8707.html
2) الديمقراطية والديمقراطية الدينية : المباديء الاساسية                                 محسن كديور
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_9060.html
3) الديمقراطية الدينية: حاكمية العقل الجمعي وحقوق الانسان                           عبد الكريم سروش
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_6931.html
4) من المدينة الفاضلة الى مدينة الانسان :
 الفرضيات الاولية لبحث الديمقراطية الدينية                                             علي رضا علوي تبار
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_7868.html
5) في معنى الوصف الديني للديمقراطية                                                  علي بايا
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_24.html
6) جدل فقهي حول الدولة الحديثة                                                          توفيق السيف
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post.html      


رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...