‏إظهار الرسائل ذات التسميات الليبرالية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الليبرالية. إظهار كافة الرسائل

11/07/2013

حول علم الكلام الجديد ، الدين والتجديد ، الديمقراطية وتطبيق الشريعة ، الحداثة والتراث


اعداد: هيفاء السادة 
 جهينة الإخبارية      17 / 6 / 2013
  •  - الليبرالية تنطوي على كثير من الفضائل وأبرزها تحرير جسد وروح وعقل الإنسان.
  • - جمود الفقه هو ثمرة لضعف التفاعل بين الفقيه وبين الحياة الواقعية للناس.
  • -  مشكلة الفكر الإسلامي التقليدي هو بحثه عن أجوبة قديمة لأسئلة حديثة.
  • - شعور الإنسان بالحرية في إختيار طريقه الديني يجعله أقرب إلى معرفة الله.
  • - نحن سجناء في تاريخنا ويجب أن نتخلص من هذا السجن.
  • - البديل عن الوحدة المذهبية هو الدعوة إلى التسامح وإلغاء الجدران الفاصلة بين الطوائف.


قال الدكتور توفيق السيف ان الديمقراطية هي نظام الحكم الأمثل في هذا الزمان، مضيفا ان الديمقراطية هي أحد منتجات الإنسان الكبرى والمهمة وهي مقبولة منسجمة مع القيم الكبرى في الدين الإسلامي، وفي الأديان الأخرى.
عقيل عيدان
وخلال البرنامج الثقافي الفكري «مائدة افلاطون» الذي يقدمه الإعلامي الكويتي عقيل يوسف عيدان أكد الدكتور السيف ان فرصة استمرار النهضة الحالية أقوى بكثير بدرجة لا تقارن مع النهضة السابقة لسببين، هما دخول عامة الناس في المشروع، بالإضافة لتوفر وسائل الاتصال الجمعي.وفي لقاء له مع الإذاعة الكويتية في وقت سابق قال السيف أن الحاجة للاعتقاد تأتي من الحاجة إلى الانتماء، يمكن للإنسان أن يعيش بمفرده لكنه في وقت من الأوقات سيشعر بالفراغ وبأن قيمته قليلة، قيمة الإنسان إنما تتحدد من خلال موقعه في الجماعة ، اي بوجود النظائر والاشباه.
وأشار السيف ان علم الكلام موضوعه هو العقائد حسب التعبير المتعارف، لافتا إلى ان كل مجتمع فيه قوانين وفيه قيم ونظم علاقات وفيه معايير للتصحيح والتخطأة والقياس، كل هذه المعايير وكل هذه المعايير وكل هذه القيم والقوانين تقوم على قاعدة فلسفية هي التي تميز نظام اجتماعي بأكمله عن نظام اجتماعي آخر.
وتحدث السيف عن مسألة مصادر السلطة في التفكير الإسلامي المعاصر، مشيرا لوجود اتجاه قوي على اعتبار أن المجتمع وعاء للسلطة، وموافقة المجتمع مصدر للسلطة، لا تكون السلطة مشروعة إلا إذا صدرت عن رضا عامة الناس.
وبين السيف ان البحوث العلمية سواء في الفقه أو غير الفقه التي سارت على نفس النمط القديم، لا تأتي بأي جديد، فهي تعيد إنتاج ما هو معروف، الفكر الجديد الذي يفصل بين المعرفة والنص ويؤكد على تاريخية المعرفة الدينية هو الذي ينتج الفكر الإسلامي الجديد، الفكر الذي نتعرف عليه لأول مره، سورة الإسلام العصرية التي نكتشفها للمرة الأولى.
شبكة جهينة الإخبارية تنشر الحوار:
1)     تحفل الكتب والمؤلفات المعنية بقضايا الإصلاح والتجديد الديني بالحديث عن علم الكلام الجديد. ما هو هذا العلم وماذا يميزه عن علم الكلام القديم؟
علم الكلام موضوعه العقائد حسب التعبير المتعارف. لكن إذا أردنا توسيعه سنقول أنه القاعدة الفلسفية التي تقوم عليها الشريعة ونظام العمل في المجتمع الديني.
بعبارة أخرى فان كل مجتمع فيه قوانين وقيم ونظم علاقات ومعايير للتصويب والتخطئة والقياس. كل هذه المعايير والقيم والقوانين تقوم على قاعدة فلسفية واحدة هي التي تميز نظاما اجتماعيا بأكمله عن الأنظمة الأخرى.
وبالنسبة للمسلمين فان القاعدة التي يقوم عليها نظامهم الإجتماعي هي مانسميه بالعقيدة. علم الكلام هو الحقل العلمي المتخصص بدراسة هذه العقيدة.
كان علم الكلام نشطا حتى القرن الثاني عشر الميلادي، وقد تركزت نقاشاته حول العقائد الكبرى لا سيما التوحيد واسماء الله وصفاته والنبوة والامامة.
خلال القرن الحادي عشر خصوصا جرى تنظير الفروق بين الفرق والمقالات المختلفة في الموضوع. ويبدو ان الباعث على الاهتمام بهذا الجانب هو الميل الذي تفاقم منذ القرن العاشر الميلادي لتحويل المذاهب والمدارس السياسية والكلامية الى منظومات اجتماعية متكاملة اي ما نسميه الان طوائف.
ثم تراخى الإهتمام به، وإتجه الدارسون الى الإهتمام بالفقه، وهو العلم المختص بدراسة احكام الشريعة، او ما يسمى بالفروع. وسنأتي على الفارق بين الاثنين في وقت لاحق.
وهناك دعوة حديثة بدأت منذُ زمن طويل، منذُ بداية القرن العشرين تقريبا، لكنها بقيت محدودة، ولم تثر كبير اهتمام. ثم عادت الى سطح اهتمام المفكرين مرة اخرى في اواخر القرن العشرين. وقد برزت في اطار الدعوة لمراجعة الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام الإسلامي أي علم العقائد، ليس للنظر في القضايا التي انتهى بحثها مثل موضوع التوحيد والألوهية أو موضوع النبوة وموضوع القيامة، بل انصب اهتمام الداعين اليها على ما يوصف بالرؤية الجديدة للعالم. هذه الرؤية تحاول اعادة تشكيل قاعدة فلسفية دينية يقوم عليها تصور الفرد لذاته وللعالم، النظام الاجتماعي والقانون ونظم العلاقات الداخلية، والقيم والمعايير التي توجه او تضبط الحركة في المجتمع المسلم.
كمثل على تلك الموضوعات، ثمة نقاش حول العلاقة بين العلم والدين، حدود دور العقل في تحديد القيم، مضمون الرابطة الإجتماعية التي تربط بين افراد المسلمين، ويتشكل على ضوئها ما نسميه المجتمع السياسي. يبدا هذا النقاش بسؤال حول البنية الداخلية للمجتمع المسلم، هل هي قائمة على التعاقد بين الافراد، ام أن المجتمع المسلم بنيته عضوية، كما جرى فهمه في الماضي؟.
ومثل ذلك النقاش حول قيمة النص والوحي، وهو بحث يقود بالضرورة الى مصادر السلطة في المجتمع المسلم. ثمة إتجاه قوي في الفكر الاسلامي المعاصر، سيما الاتجاه الاصلاحي، يرى ان المجتمع هو وعاء السلطة، وان اختيار العقلاء لا يقل قيمة عن الاحكام المنصوصة، وان مضمون السلطة هو تمثيل المجتمع، اي ان السلطة لا تكون مشروعة الا بتفويض عامة الناس ورضاهم.
هذا يخالف التفكير القديم الذي ورثناه عن الاسلاف، والذي يميل إلى اعتبار السلطة موجودة في مكان ما خارج المجتمع. اما باعتبارها حقا خاصا للرسول ثم الأئمة والخلفاء ثم اقرب العلماء الى صفات هؤلاء. او القول بتبعيتها لموضوعها اي حفظ النظام العام، فهي للمتغلب الاقدر على ضمان الامن والاستقرار.
2)     ماهو الفيصل بين الرايين القديم والجديد؟
علم الكلام القديم يضع «الموروث» من نصوص واراء كمعيار للمقارنة والترجيح. علم الكلام الجديد يقرر ان المعيار هو «القيم الكبرى» التي قام عليها الدين او اراد اقرارها في حياة الناس، قيم مثل اصالة الحرية واصالة العدل والمساواة الخ.. حتى لو توصلنا عبرها الى اراء تخالف المتفق عليه من النصوص والاراء الموروثة.
موضوع علم الكلام الجديد اذن هو إعادة صياغة الأرضية الفلسفية والنظرية التي يقوم عليها التنظيم الإجتماعي لمجتمع المسلمين المعاصر.
3)     تاريخيا يحيل بعض الباحثين هذا المسمى الجديد إلى الاستاذ شبلي نعماني. هل هذا دقيق او أن الأمر أقدم من ذلك يعود على سبيل المثال إلى 1906 تحديداً في إيران خلال الثورة الدستورية ومواجهة رجال الدين للمستجدات في المجتمع الإيراني أنذاك؟
اشتهرت نسبة المصطلح الى شبلي نعماني «1857 - 1914»، وهو داعية ومفكر هندي، لانه نشر كتابا حمل عنوان «علم الكلام الجديد». واظنها المرة الاولى التي يصدر فيها عمل علمي بهذا العنوان. وبالمناسبة فان حركة التجديد الاسلامي في شبه القارة الهندية كانت اول من طرح هذا النوع من النقاشات. واشير الى ان السير سيد احمد خان «1817 - 1898» وهو من اساتذة النعماني، كان قد تحدث قبله عن الحاجة الى «علم كلام جديد». كما تحدث عنه الشاعر والفيلسوف محمد اقبال «1877 - 1938» بعد ذلك. وكان محور اهتمام الاصلاحيين الهنود هو تقديم فكر اسلامي يستجيب لتحديات الحضارة الغربية، ويبرهن على قابلية الاسلام لاستيعاب الحداثة. ولعل مبعث هذا الاهتمام المبكر هو كون شبه القارة الهندية من اوائل المجتمعات الاسلامية التي واجهت تحدي العلاقة الثقافية مع الغرب.
شبلي نعماني
على اي حال ليس لدي معرفة مفصلة بالمسار التاريخي للفكرة. لكني افترض انها، مثل سائر العلوم، تتطور وفق نمطين: نمط تراكمي ونمط انقلابي. في اوائل القرن العشرين شهدت ايران بروز تيار تجديدي في اطار الثورة الدستورية التي اشرتم اليها، وتمحور جدلها حول موضوع السلطة، وبطبيعة الحال فقد كانت مسالة الامامة عنصرا مهما في الجدل، نظرا لان جدلية السلطة عند الشيعة تبدأ بمسالة الامامة.
في هذا الوقت نفسه، اي اوائل القرن العشرين، كان ثمة حراك فكري تجديدي في مصر وبلاد الشام، ونعرف ان تلك الحقبة شهدت ظهور الكتابات التاسيسية لجمال الدين الافغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وامثالهم. اهتم هؤلاء وتلاميذهم - محمد رشيد رضا مثلا - بمعالجة الاشكالات الجديدة التي تحيط بفكرة الخلافة، وامكانية التوصل الى نظرية حول قيادة سياسية - دينية اصلح من النموذج القائم في الدولة العثمانية.
ماحدث في إيران وماحدث في المشرق العربي كان ردا على الاستبداد من جهة وعلى التحدي الاوربي من جهة ثانية. لكنا نلاحظ ان ذلك الحراك قد توقف عند بداية العقد الثالث من القرن العشرين، ولم يحدث تراكم علمي حول الافكار الاولية التي طرحت في تلك الحقبة.
4)     هل يمكن الحديث عن نهضة جديدة، تملك مقومات الإستمرار والتواصل؟ أم أن الأمر لازال غير واضح الإتجاهات؟
مانراه اليوم ليس متصلا - عضويا - بما عرفه العالم الاسلامي في بداية القرن العشرين. وهو - من ناحية اخرى - مختلف عنه في محاور اهتمامه ومقوماته. وأظن أن ظروفنا الراهنة تسمح بالظن بان المرحلة الجديدة سوف تقود الى تراكم علمي مستمر، ربما يعطينا علم كلام اكثر عمقا وانسانية واستيعابا لعصرنا وحاجات الانسان فيه.
فرص الإستمرار في النهضة الحالية أقوى بكثير من النهضة السابقة، لسببين بسيطين:
الأول دخول عامة الناس في المشروع: في المرحلة الأولى كان المشروع قصرا على عدد صغير من النخبة. اما في الوقت الراهن فهو مشروع الشعب العربي كله. العرب من المحيط إلى الخليج متفقون على ضرورة المشاركة في صناعة نظامهم السياسي، والمشاركة في صناعة مستقبلهم. لعلهم يختلفون في كيفية المشاركة، لكنهم متفقون على مبدا كونهم شركاء في صناعة النظام السياسي الذي ينتمون اليه، وان الدولة ليست عالما منفصلا عنهم. هذه الفكرة أصبحت من المسلمات البديهيات التي لا يجادل فيها أحد.
السبب الثاني توفر وسائل الإتصال الجمعي. فعندما اتحدث عن «طبائع الإستبداد» وهو ربما أهم الكتب التي ظهرت في تلك المرحلة سوف نجد أنه طبع في 500 نسخة، ولعلها لم تخرج من حدود بلاد الشام إلا بضع نسخ.
اما الآن فعندما تكتب مقالا أو تنشر كتاباً، فسوف يصل الى كل مكان، ضمن فاصل زمني لا يتعدى اسابيع. بعبارة اخرى فإن الفكرة التي ينتجها شخص واحد سرعان ماتتحول إلى قضية عامة. وصول الناس الى مصادر المعلومات يمكنهم من الحوار في القضية المطروحة وحولها. الحوار الذي يشارك فيه عدد كبير من الناس، يتحول سريعا الى مادة غنية بالاسئلة والحلول المقترحة، وهذا يقود - بالضرورة - الى تجاوز الطروحات الاولية الى مستويات اعلى من الاسئلة والحلول. تعميم الفكرة يؤدي الى تطويرها، وقابلية الفكرة للتطور تزيد فرص استمرارها وتجعل تاثيرها اعمق واوسع.
5)     كيف تؤثر العلوم الحديثة سيما في حقل العلوم النظرية والانسانية على علم الكلام الجديد؟
اتذكر ان اول درس لي في اصول الفقه كان يدور حول التعريف بالعلوم التي يعتمد عليها الفقه. يومئذ ذكر استاذنا علم النحو واللغة والبيان وذكر علم الرجال والدراية وتفسير القران والمنطق، باعتبارها جميع ضرورية لدارس الفقه. نعلم اليوم ان كلا من هذه العلوم قد تشعب وتفرع، ونعلم ان علوما اخرى قد انضمت الى العلوم الضرورية لدارس الفقه مثل علم الاجتماع والاقتصاد والفلسفة وغيرها.
بكلمة اخرى فان لكل من تلك العلوم اثر مهم في فهم الخطاب الديني. كما يجدر القول ان تطور تلك العلوم يستوجب انعطافا موازيا في الدراسات الدينية يتناسب مع القضايا والاسئلة الجديدة.
حتى وقت قريب كان النقاش الفلسفي في المدارس الدينية محصورا في الاسئلة ومسارات النقاش التي ورثناها عن الفلسفة اليونانية. لكن عددا من المفكرين المسلمين يتفاعلون اليوم مع الاتجاهات الجديدة في الفلسفة سيما في نظرية المعرفة التي تطرح نقاشات واسئلة تختلف جذرياً أو جزئياً مع النظريات اليونانية التي أعتدنا عليها.
يؤسفني القول ان النقاشات الفلسفية الجديدة لازالت محدودة، معظم مدارس العلم الديني لا تهتم بدراسة الفلسفة، وتلك التي تهتم - كما هو الحال في ايران مثلا - اكثر ميلا الى التراث الفلسفي اليوناني الذي دخلها منذ زمن بعيد وحظي بالكثير من الشروحات والنقاشات واعيد انتاج الكثير من قضاياه ضمن النسيج الثقافي الاسلامي. 
زبدة ما اردت قوله ان المناهج الفلسفية الحديثة لازالت محدودة الانتشار، لكنها بدأت تؤثر في نطاقات واسعة نسبيا. كمثل على ذلك فان كتاب «مفهوم النص» للمرحوم نصر حامد ابو زيد، ترجم وطبع ثلاث مرات في ايران. كما ان كثيرا من كتب د. عبد الكريم سروش ود. محمد مجتهد شبستري طبعت مرات عديدة وترجمت الى اللغة العربية. وكذلك حال كتب المرحوم محمد اركون. هذا يشير الى ان الطروحات الفلسفية الجديدة تحظى باقبال متزايد بين المشتغلين بالفكر والمهتمين بالدراسات الاسلامية. لكن علينا ان ننتظر بعض الوقت كي نكتشف مدى تاثيرها في المسار العام للدراسات الدينية، سيما في مجامع العلم الشرعي التقليدية.
عدا البحوث الفلسفية، لاحظت ايضا تزايد الاهتمام بعلم الاجتماع بين المشتغلين بالعلوم الدينية. تساعد البحوث الاجتماعية في فهم العلاقة بين الفكرة النظرية وبين سلوكيات الافراد الجماعات، وهو من المجالات الهامة التي ينبغي استيعابها بالتوازي مع التفكير في النظريات الدينية
6)     بالعودة إلى العقيدة، اود ان اسأل سؤالا عاما: من أين تأتي الحاجة للإعتقاد؟ اليس اتخاذ دين محدد او شريعة معينة تقييد لحرية الفرد؟
الحاجة إلى الإعتقاد تأتي من الحاجة إلى الإنتماء، يمكن للإنسان أن يعيش بمفرده لكنه في وقت من الأوقات سيشعر بالفراغ وبأن قيمته قليلة. قيمة كل فرد وموقعه في النظام الاجتماعي يتحدد بموقف الافراد الآخرين منه.
حتى ينتمي الإنسان إلى جماعة فإن عليه أن يدفع ثمن الحياة الإجتماعية. اذا عشت في مدينة فعليك الالتزام بقوانينها ونظام الحياة فيها، في السير وفي الحركة وفي البناء وفي غير ذلك.
كل نظام في داخله حدود تقيد حرية الفرد. نحن نطالب بالحرية في اقصى تجلياتها. لكننا نتحدث عن الحرية في مجتمع يخضع للقانون وليس مجتمع الغابة. طبقا لراي جان جاك روسو فان انعدام القيود في مجتمع الغابة ليس حرية بالمعنى الدقيق. الحرية تتجلى في المدينة، والمدينة مجتمع ينظمه القانون. نحن اذن نقبل بالقانون الذي ينظم العيش الجمعي في المدينة لاننا نريد الحياة المشتركة مع الناس في المدينة، وندرك ان القانون ضروري لتنظيم هذا النوع من الحياة، رغم اننا ندرك ايضا ان علينا التنازل عن جزء من حريتنا مقابل التمتع بفضائل العيش مع الناس في المدينة في ظل القانون.
المجتمعات المسلمة تعتمد القانون المستمد من الشريعة او المنسجم مع القيم الدينية. لو كنت في بلد غير مسلم فستخضع لقانون اخر مستمد من مصادر اخرى. بعبارة اخرى فان اي حياة مدنية تتطلب قانونا يلتزم به الناس، وكل قانون يؤدي بالضرورة الى تقييد لحريةالفرد. لكن هذا ثمن نرتضي دفعه كي نبقى متحضرين.
7)     ماهو تصورك الشخصي عن الليبرالية؟ أي العناصر التي تعتبرها مقومات لازمة لليبرالية؟
دعني أولاً أقترح مدخلا للفكرة. نحن ننفتح على كل الافكار ونتعامل مع كل المفاهيم التي أنتجها البشر في هذا العصر أو في العصور القديمة، نضعها في مرتبة واحدة، سوء ظهرت وتطورت ضمن اطارنا المعرفي والحضاري الخاص او عند الأخرين. نتعامل مع كل الافكار تعاملا نقديا، لا ننبهر بها فنقلدها تقليدا اعمى ولا نغلق اذاننا وعقولنا دونها. بل نحاول التعرف عليها، نحاول تفكيكها وفهم سياق تطورها، فاذا وجدنا بعضها او كلها مفيدا لنا، عملنا على اعادة تركيبه ضمن الشروط الخاصة بثقافاتنا ومجتمعنا.
هذا هو الطريق الذي نتبعه في التعامل مع كل النظريات والمباديء والمفاهيم الجديدة.
فيما يخص «الليبرالية» فان فهمها مشروط بمعرفة الاطار الذي نتحدث ضمنه. قد نتحدث عنها في إطارها الغربي فنقول أن الليبرالية جيدة أو غير جيدة. لكن حين نتحدث عنها كموضوع قابل للجدل والتطبيق في بلادنا، فإننا نلحظ دائما إطار التعامل النقدي الذي اشرنا له انفا.
-        حسنا .. هل الليبرالية تنطوي على فضائل؟ أم لاتنطوي على أي فضيلة؟
الجواب: الليبرالية تنطوي على الكثير من الفضائل، أبرزها فضيلة الحرية، تحرير الإنسان، وتحرير جسده، تحرير روحه، وتحرير عقله. وهذا أصل في الخلق. خلق الله البشر أحرارا غير مقيدين بأي شيء حتى بالدين. ثم عرض عليهم الديانات، عرض عليهم المنهج، واعطاهم العقل الذي به يختارون هل ينتمون إلى هذا الطريق او لا ينتمون. قال تعالى: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ وقوله ﴿إِمَّاشَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ وفي الحديث المشهور «يولد أبن آدم على الفطرة». والفطرة هي حالة حيادية تنطوي على قابلية للإختيار والعيش. لكن إختيار دين معين أو ايديولوجيا خاصة يأتي في وقت لاحق. زبدة القول ان اهم مضمون لليبرالية هو تمجيد واعلاء قيمة الحرية الفردية، حرية الروح، وحرية الجسد، وحرية العقل. والحرية حسب اعتقادي أصل في الايمان.
الزاوية الثانية ان الحرية في المذهب الليبرالي قرين للمسؤولية. الفرد - عند اتباع هذا المذهب - مسؤول بشخصه عن كل أفعاله. لا احد غيره يتحمل مسؤولية افعاله. بديهي ان المسؤولية المباشرة للانسان هي المسؤولية المدنية، اي كونه مسؤولا عن اي فعل يقيم علاقة مع الافراد الاخرين. بكلمة اخرى فان الليبرالية لا تتحقق إلا ضمن مدينة حياتها منظمة بالقانون. الليبرالية لا توجد في الصحراء، ولا توجد في الغابة. من هنا نقول ان تعريف الحرية في المذهب الليبرالي مشروط بقانون المدينة، وهذا أيضاً أمر مقبول.
لا أريد الإطالة. ساذهب الى النقطة الأخيرة التي هي في العادة مورد الجدل. في الليبرالية الإنسان هو مبدأ كل شيء ونهايته، هو مصدر التشريع، مصدر الحق وهو معيار الحق والباطل. اظن ان هذه النقطة «الانسانوية» هي ابرز المبررات التي يطرحها الرافضون لليبرالية في المجتمعات المسلمة.
اعتقادي الشخصي ان الانسان الفرد يحظى بقيمة كبرى في الدين الاسلامي. لكني انظر للمقولة الليبرالية في هذا الخصوص بشكل انتقائي. من حيث المبدا ارى ان النظام الإجتماعي الإسلامي يقوم على اولوية الفرد وليس الجماعة كما هو شائع. بمعنى أن الفرد هو البداية وليس الأسرة أو الجماعة أو القبيلة. الخطاب الالهي موجه - بصورة اولية - الى الافراد. المسؤولية الاخروية/الدينية عما يجري في الدنيا تتعلق بالفرد. الفرد مطالب بان يختار ويلتزم بخياراته ويتحمل مسؤوليتها، بغض النظر عن خيارات الجماعة. هذا لا يطابق بشكل تام مفهوم (الفردانية =individualism ) المعروف في الادبيات الليبرالية، لكنه يقترب من جوهره الفلسفي.
الزاوية الثانية: ايهما مصدر الحق ومعيار الصواب والخطأ.. الفرد أم الجماعة؟
في هذا الجانب بنبغي التمييز بين مستويين. المستوى الاول يتعلق بالحقوق والتكاليف الاساسية الضرورية لضمان حياة البشر وكرامتهم. وقد اطلق الفيلسوف الانكليزي جون لوك عليها اسم «قانون الله» وتعرف في الفلسفة السياسية باسم «الحقوق الطبيعية» واميل الى تسميتها «الحقوق الفطرية». والمستوى الثاني يتعلق بالحقوق المدنية والتكاليف المترتبة عليها، الضرورية للحياة الجمعية المدنية.
ارى ان المستوى الاول يخضع لمعايير موضوعية فوق الفرد وفوق الجماعة، ونعتقد - كمسلمين - ان مثل هذه المعاييرالمتعالية يجب ان تكون سماوية، اي غير قابلة للتبديل والتعديل على يد الانسان. ومن بينها مثلا القيم الكبرى المطلقة مثل العدالة والحرية والمساواة والتراحم بين الناس. ومال عدد من المفكرين الاسلاميين الى تصنيفها كمستقلات عقلية، اي قيم متعالية تطلق دون الحاجة الى تدليل عليها، وقالوا ان مصدرها هو اجماع عقلاء البشر في مختلف الاماكن والازمنة على ضرورتها.
اما المستوى الثاني «الحقوق المدنية» فالجماعة هي من يضع معاييرها وطرق تطبيقها، شرط ان لا تؤدي الى التفريط في معايير المستوى الاول.
التصنيف السابق يتعلق خصوصا بحياة الناس الدنيوية، اي ما يصلح دنياهم. لكن ثمة - اضافة الى هذا - التزامات يختارها الناس في سياق علاقتهم بربهم، ونطلق على هذا المسار عنوانا عاما هو الايمان او التدين. وهو يتعلق اساسا باغراض ما بعد الدنيا. فهذا مجال لا علاقة لليبرالية ولا اي مذهب فلسفي اخر به. فهو خيار خاص للانسان لا يصح تحديده ولا الجبر عليه. وهو يصنف ضمن عنوان حرية التفكير والاعتقاد، الذي يندرج ضمن الحقوق الفطرية. بعبارة اخرى فنحن لا نسأل عما اذا كانت الليبرالية تتوافق مع الايمان ام لا، فهي في الاساس ضد الجبر والتحديد. اما اذا سألنا هل ثمة توافق بين الليبرالية والايمان فالجواب اننا لا نتعامل معهما كخيارات متقابلة. واذا وجدنا تقابلا فسوف نطبق مبدأ حرية الاختيار. بالنسبة لنا كمسلمين فسوف نختار ما هو اقرب الى ايماننا ورضا ربنا.
8)     إذا أردنا أن نطبق الليبرالية في مجتمعاتنا العربية الإسلامية في الواقع هناك تفاوت في الحقوق بالفقه الإسلامي، مثلاً تفاوت الحقوق بين المرأة والرجل أو بين المسلم وغير المسلم، ومايعتبره البعض من ذاتيات الدين أو ضروراته، بحيث يصح القول أن تساوي الحقوق في الفكر الليبرالي يتعارض مع التعاليم الإسلامية، هل هذا الكلام دقيق؟
هنا تأتي أهمية علم الكلام. الأحكام الفقهية سواء تلك التي قال بها فقهاء معاصرون أو نقلوها عن أسلافهم، بل حتى تلك التي ورد فيها نص. غالب هذه الاحكام تنظيمية - سيما غير العبادية - هي اقرب الى معنى القانون الذي يستهدف تنظيم الحياة الجمعية وتداول المصالح بين الناس. السؤال الان: هل هذا القانون او ذاك نهائي، عابر للزمان والمكان أم أنه مشروط بموضوعه والمصالح التي استهدف تحقيقها. في هذا الجانب تحديدا فاننا نتحدث عن تأثر القانون بظروف الزمان والمكان وحاجات الناس المتغيرة.
لو ذهبنا لعلم الكلام ووضعنا فلسفة للنظام الإجتماعي تقول على سبيل المثال بأن للمسلمين في كل زمان من أزمانهم الحق في إعادة النظر في القوانين التي تحكم نظامهم الإجتماعي. حينئذ سيضع المسلمون المعاصرون يستجيب - من ناحية - للتحديات والاسئلة والحاجات الجديدة، ويستجيب - من ناحية اخرى - لمتطلبات الايمان. بعبارة اخرى فهم سيضعون القانون الذي يتناسب مع شعورهم بالانتماء الى هذا الدين. وبالتالي سيكون القانون إسلامياً بمعنى انتمائه للجماعة المسلمة وبمعنى تلاؤمه مع الشعور الديني عند واضعيه.
من زاوية اخرى، فانه من المهم القول ان الأحكام الفقهية - بما فيها تلك التي تحظى بالاجماع بين الفقهاء - ليست عابرة للزمان والمكان، وسأعرض بعض الامثلة لتوضيح الفكرة:
المثال الاول: اتفق فقهاء المسلمين بمختلف مذاهبهم على أن المرأة لا تتولى المناصب السيادية، مثل منصب القاضي ورئيس الدولة والوزير. لانها - في رايهم - غير مؤهلة تكوينيا للوفاء بحاجات هذه المناصب. وهذه نظرية قال بها اولا الفلاسفة اليونان، ثم دخلت في الفكر الاسلامي وتحولت الى احكام فقهية.
نعلم الان ان كثيرا من الفقهاء تخلى الان عن هذا الراي، رغم ما يحفه من اجماع على امتداد التاريخ الماضي ورغم النصوص الكثيرة التي اختيرت لتبريره. من هذا نفهم أن الأنظمة " التي تصنع في الإطار الفقهي وتصبح أحكاما، هي قضايا تتفاعل في صياغتها مع حاجات الناس وأوضاعهم الإقتصادية والإجتماعية والثقافية في كل زمان.
المثال الثاني: اتفق علماء المسلمين الماضين والمعاصرين على ان «الفائدة المشروطة» هي التي تضفي على التعامل المالي صفة الربا المحرم. لكننا نعلم ان شيخ الازهر السابق، محمد سيد طنطاوي والشيخ محمد مهدي شمس الدين وعدد اخر من الفقهاء، يطرحون قراءة مختلفة. طنطاوي مثلا يميز بين الفوائد المترتبة على القروض الاستهلاكية والاستثمارية، كما يبين بين الوادائع العادية وتلك التي تستهدف مباشرة العمران. وشمس الدين يدعو الى فهم حرمة او اباحة الفائدة ضمن منظور اوسع يتناول الحركة الاجمالية لراس المال في هذا الزمن مقارنا بزمن النص، اي الدور النسبي لكل من راس المال والعمل في توليد فائض القيمة. بعبارة اخرى فهو لا يرى ان الفائدة المشروطة بمفردها علة للربا المحرم. وان التحريم في زمن النص لا يؤخذ منفصلا عن السياق العام للنظام الاقتصادي ودورة راس المال في تلك الحقبة، وهي بالطبع مختلفة عن الحال القائم في زمننا.
مثال اخر يتعلق بالدية. فقد اتفق فقهاء المسلمين قديما وحديثا على ان دية المرأة والكافر تعادل نصف دية المسلم في القتل الخطأ. في ايران افتى عدد من الفقهاء بتساوي الدية، وتحول هذا الراي الى قانون بعد اقراره في مجلس الشورى.
هذه الامثلة وكثير غيرها تشير الى ان تغيير الاحكام الفقهية او تعديلها ليست امرا غريبا. ما نشعر به احيانا من جمود في الفقه هو ثمرة لضعف التفاعل بين الفقيه وبين الحياة الواقعية للناس. واظن ان ظروفا معينة تولد حاجات تدفع الفقهاء وعامة الناس الى مراجعة الثوابت والموورثات واستبدالها. هذا يعني ان التفاعل النشط، اي تبادل التاثير والتاثر بين الفقيه والناس سيفتح طريقا اوسع لتجديد الاحكام الشرعية.
9)     وبالتالي دكتور توفيق هنا يمكن أن نتكلم عن تاريخية النص الديني في سياقات معينة أو في زمان معين أو في مكان معين، وإلا هل هناك شيء آخر؟
تاريخية النص تحدث عنه بعض المفكرين مثل الاساتذة اركون وسروش وشبستري. لكني لا اميل للحديث عنه في هذه الفرصة المحدودة، ففيه تشعبات لا يسمح بها المقام. لكني سأشير الى مسالة مبدئية تلقي ضوءا اجماليا على الفكرة. تاريخية النص معناها ببساطة ان النص مجرد ظرف للرسالة التي في داخله، ما يريده الخالق منا هو الرسالة الداخلية التي تمثل قيمة ومعيارا جرى ادراجه ضمن النص او القضية التي يحكيها النص. بناء عليه فان الثابت والعابر للزمان والمكان هو القيمة والرسالة الداخلية التي عرضت في صورة نص او قضية يحكيها النص. النص بذاته والقضية بذاتها مجرد «ظرف» للرسالة، مثل اناء للطعام، وبهذا المعنى فانه ليس ضروريا اعتبار منطوق النص او القضية التي يحكيها دليلا نهائيا عابرا للزمان والمكان.
في الوقت الحاضر تتركز عملية الاسنتباط «الاجتهاد» على النص باعتباره هو - بذاته - البرهان والدليل. ولذا يقال ان النص الواضح متنا ودلالة والثابت سندا هو دليل قطعي. منذ زمن طويل اكتشف الفقهاء ان هذا القول المطلق بحاجة الى تحديد وتقييد، فوضعوا مثلا «سبب النزول» كامارة مقيدة او شارحة لمراد النص. ووضع الشاطبي وغيره المقاصد الشرعية في نفس السياق. وفي ايران المعاصرة ابتكر الامام الخميني فكرة «وزن المصلحة» في راي الفقهاء مقابل نظيرتها في راي العرف المتمثل في اكثرية نواب الشعب كدليل حاكم للاخذ بالراي الفقهي او رده. هذه كلها محاولات استهدفت تجاوز الاشكالية التي يثيرها القول باطلاق حاكمية النص الواضح.
لكن كما اشرت سلفا فان القول بتاريخية النص يتجاوز هذا كله ويستهدف جعل العقل الجمعي في كل زمان مصدرا للالزام الشرعي.
10) هل ترى ان الفكر والفقه الاسلامي الموجود بين ايدينا اليوم قادر على تجديد نفسه؟
لبحوث العلمية سواء في الفقه أو غير الفقه التي سارت على نفس النمط القديم، لا تأتي بأي جديد، هي تعيد إنتاج ماهو معروف ومالوف بصياغات جديدة احيانا. هذا اشبه بكتاب قديم يعاد نشره على الانترنت. الوسيلة الحديثة لا تغير من حقيقة ان الفكرة قديمة ومنفصلة عن زمنها. اما الافكار الجديدة التي نعرفها اليوم فهي ثمرة التفاعل الايجابي مع الاسئلة الجديدة، خاصة الاسئلة التي تتناول المسلمات المعتادة والموروثة، وهي ايضا ثمرة الفصل بين النص وما حوله من معارف وشروح واجتهادات بشرية.
11) هل تكمن المشكلة في أننا نعيد طرح الأسئلة لذلك نعيد إنتاج نفس الأجوبة؟
مشكلة الفكر الإسلامي التقليدي هو بحثه عن أجوبة قديمة لأسئلة حديثة، يعني السؤال يثار اليوم فيذهب الفقيه إلى كتب الفقهاء والمفكرين الذين ماتوا قبل 1000 سنه، أو 500 سنة. فكأنك تفترض أن هذا السؤال هو عينه السؤال الذي اثير في ذلك الوقت.
معلوم أن السؤال نتاج طبيعي لبيئته الثقافية والإجتماعية، اسئلة الناس تتغير بين زمن واخر لان ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية تتغير، مستوى ونوعية معارفهم تتغير، وكذلك همومهم وانشغالاتهم. هذا ما يسمى في الهرمنيوتيك الفلسفي بالأفق التاريخي. فهم الافق التاريخي ضروري لوضع السؤال في اطاره الصحيح وبالتالي تحديد الجواب المناسب. اظن ان معظم اخفاقاتنا الثقافية والسياسية والاقتصادية كانت نتاجا لاختلاط الازمنة في ثقافتنا العامة. ابسط الامثلة على هذا هو ماتسمعه دائما من استدلال باية او حديث نبوي او حادثة جرت في زمن ما، تساق للتدليل على سلوك يدعى اليه او العكس او تساق لتاكيد قيمة او نفيها، دون الاخذ بعين الاعتبار الافق التاريخي الخاص بالدليل واختلافه عن الظرف الذي نتحدث فيه.
12) البعض يعتقد أن الإيمان الحقيقي هو ثمرة إختيار حر غير قسري. ونعرف أن المجتمع الليبرالي يوفر الحرية الكاملة للناس كي يؤمنوا بمن شاؤا، فهو يعتبر العقائد حقا شخصيا لا يجوز للمجتمع او الدولة استعمال الجبر والتحديد القسري فيه. هل ترى ان هذا الظرف هو الامثل لتحقيق الايمان؟
هذا رأي آية الله محمد مجتهد شبستري، وهو أستاذ فلسفة في إيران، فهو يرى أن النظام الليبرالي ديمقراطي هو النظام الذي يوفر فرصة لحياة دينية سليمة، بمعنى أنه يمكن الإنسان من إختيار طريقه ومعتقده، يمكنه من ممارسة عباداته دون قلق او حرج، او حاجة للتبرير للآخرين أو أو خوف منهم.
شعور الإنسان بأنه حر حرية كاملة في إختيار طريقه الديني يجعله أقرب إلى معرفة الله عز وجل، أقدر على فهم علاقته الخاصة والشخصية بالله عز وجل.
التدين في ذروته طريق يسلكه المؤمن إلى الله عز وجل، تواصل روحي واندماج للذات في حب المطلوب المعبود. وبهذا التعريف فهو تجربة شخصية تتوقف على تحرر القلب والعقل من الضغوط الخارجية، سواء ضغط الثقافة أو ضغط المادة او ضغط الأسرة أو ضغط الدولة أو غيرها.
13) كيف يتعين علينا قراءة الإنسان اليوم، على نحو يجلي مبدأ إحترام النفس الإنسانية، وعموماً ماهي في تقديرك المبادئ التي تقرر احترام ارواح الناس وتجنب اللجوء للعنف؟
خلال دراستي لمبدأ «العقد الإجتماعي» «نشرت لاحقا ضمن كتابي رجلىالسياسة» واجهتني بعض الاسئلة التي اظنها اساسية، أحدها يتعلق بمكانة الفرد ودوره ضمن النظام الاجتماعي. العقد الإجتماعي يقوم على فكرة أن أفرادا أحرارا متكافئين قد أتفقوا على النظام الذي يحكمهم، فهل يستطيع الفرد بمفرده أن يقرر ماهو صالح له أو غير صالح، هل الفرد - من حيث المبدأ - مؤهل لهكذا دور؟. هذا السؤال قادني لسؤالين آخرين اولهما: هل يملك الإنسان نفسه؟ هل يملك جسده؟ هل يملك روحه ام لا؟
إذا قلنا بأن الإنسان يملك نفسه فكل سلطة عليه من الخارج هي بغي وعدوان، لأنها تنطوي بالضرورة على تصرف في ملك الغير. لو دخل احد بيتي دون اذني، فان القانون يعتبره عدوانا على ملكي، بنفس المبدأ لو كنت أملك نفسي وتدخل آخر في حياتي ايا كان مبرره فهو إعتداء على ملكي، الا اذا حصل مسبقا على موافقتي.
السؤال الثاني: هل يستطيع الإنسان الفرد وتالياً الجماعة «العقل الجمعي» أن يكتشف الحقيقة، أي هل للحقيقة وجود موضوعي خارجي، قابل للإدارك من جانب العقلاء العاديين.
إذا قلنا نعم.. فإن المجتمع الفرد والمجتمع قادرون على تشخيص المصالح والمفاسد، لأن المصلحة والمفسدة هي حقائق موضوعية، إذا كانت قابلة للإدارك فإن الناس قادرون على تشخيصها. اهمية هذا الكلام تكمن في حقيقة ان وظيفة الدولة والنظام الاجتماعي بمجمله ليس سوى ترتيب المصالح والمفاضلة بينها وتحديد اولوياتها،
أي تقديم مصلحة وتأخير أخرى، إذا قلنا ان الناس قادرون على إدراك الحقيقة وبالتالي تشخيص المصالح والمفاسد، فهذا يعني انهم مؤهلون لتعريف وانشاء نظامهم الإجتماعي، وإذا قلنا بأن الإنسان يملك نفسه فهذا يعني أنه هو مصدر السلطة على نفسه، يعني هو يختار من يرأسه وليس لاحد ان يفرض نفسه عليه دون رضاه.
وجدت كثيرا من الأدلة في الفقه مثلاً تؤكد ملكية الإنسان لنفسه وابرزها القاعدة الفقهية المعروفة بقاعدة السلطنة، والتي تستند الى بناء العقلاء وروايات فحواها ان الناس مسلطون على ما تحت ايديهم. وهذه من القواعد الراسخة في الفقه الإسلامي، ويستدل بها كثير من الفقهاء على ملكية الإنسان لنفسه ويستفيدون منها مثلاً في موضوع نقل الأعضاء، عند السؤال هل يجوز للإنسان التبرع بأعضائه، يقول كثير منهم بالجواز لان الانسان يملك جسده. وقد اعتمدت على هذه القاعدة في تطوير الراي الذي جادلت دونه، اي ان سلطة الانسان على نفسه تامة لا يجوز مزاحمتها او نقضها دون رضاه.
كذلك الامر في النقاش حول موضوعية الحقيقة. ثمة نقاش واسع في الفلسفة الإسلامية حول هذه المسألة، وقد وجدت ان كثيرا من الفلاسفة والاصوليين المسلمين يذهبون هذا المذهب، ولهم فيه ادلة متينة. زبدة القول ان المبدأ الاساس في تحديد قيمة الانسان يتالف من جزئين اولهما هو الاقرار باستقلاله وسلطته على نفسه وعليه نبني القول بعدم قسره او فرض سلطة عليه دون رضاه، والثاني هو ان تحديد القيم والالزامات وفرضها على الناس لا يصح الا بتوافقهم على ذلك. دعوى ان الفقيه او الشرع بشكل عام حدد قيما غير قابلة للادراك واجاز فرضها على الناس دون رضاهم هو قول لا يسنده دليل. وبالتالي فانه ليس لاحد ان يضع قيمة للناس، يرفعهم او ينزلهم، يجبرهم على شيء او يمنعهم من شيء استنادا الى دعوى امر شرعي او مصلحة، لانهم قادرون تشخيص المصالح وهم المكلفون بهذا الامر
14) يبدو لي ان هناك نوع من الصراع بين رجل الدين وبين المثقف الديني، هناك نقاشات عديدة تنطلق بينهما عن مرجعية التمثيل الديني، والقدسية المتوهمة لرجال الدين، ماهي الخلفيات التاريخية أوالأيديولوجية التي تحكم هذا الصراع الذي دائماً نجده في الأدبيات؟
انا لا أجد أي خلفيات تاريخية ولكن هناك دوائر مصالح أو انظمة مصالح مختلفة. رجل الدين، سيما رجال الدين الذين تعلموا ويمارسون العمل ضمن المدرسة الفقهية في فهم الدين، يختلفون في خطابهم الديني وفي دوائر تاثيرهم الاجتماعي وفي انشغالاتهم الحياتية عن تلك الشريحة من العلماء والمفكرين الذين يسعون لفم شامل، او ما نسميه فهم ديني - انساني للدين. الفريق الاول مشغول بالتاكيد على المظهر الديني للحياة، مشغول بالتزام الناس بتفاصيل الاحكام الفقهية. اما الفريق الثاني فهو منشغل بعمران الارض ونهوض الامة وقوتها وتقدمها ومستقبلها. بعبارة أخرى ينطلق الفريقان من هموم مختلفة ويقومون بأعمال مختلفة مثلاً رجل الدين الذي يعمل في الإطار الفقهي عمله الدعوه، والدعوة تحتاج إلى تقديم أجوبة بسيطة وفيها قدر كبير من العموم، تستهدف تطمين الناس والمحافظة على الجماعة، بينما عمل المفكر يستهدف إثارة الأسئلة ودحض الأجوبة وتفكيك حلة السكون والإطمئنان.
اختلاف الخطاب والهموم يؤدي بالضرورة الى اختلاف دوائر النفوذ ومحاور التركيز وبالتالي المواقف من الاحداث والقضايا الاجتماعية. نحن إذا إزاء دائرتي مصالح «دائرتي عمل مختلفتين» هذا هو السبب.
15) اظن ان تجديد الفكرة الدينية يحتاج الى تنشيط الحوار بين الفلسفة والفقه والدين، وارى ان هذا الحوار قد توقف لزمن طويل. هل ترى فرصة لعودته في الوقت الحاضر؟
بحسب معلوماتي وهي قليلة، ثمة عودة الى الاهتمام بالفلسفة في المدارس الدينية وبين المفكرين. بنظرة عامة استطيع القول ان هذا لازال صغيرا في مساحته وفي نوعية القضايا التي يطرحها للنقاش. في ايران هناك حسب علمي مجلتان متخصصتان في الفلسفة الجديدة، وهناك عدد من الأساتذة الأكاديميين الذين يركزون أهتمامهم على نظرية المعرفة والفلسفة الحديثة ويمارسون نقداً منتظماً للفلسفة القديمة والمعرفة الأفلاطونية، التي لا توال هي السائدة المدارس الدينية عموما. كثير من الطلاب الجدد في «الحوزة العلمية» جاؤوا من الجامعات، ولديهم انشغالات ذهنية مختلفة عن المعتاد في الحوزة، وهم يستمعون جيداً للجدالات الفلسفية الجديدة في ايران، سيما وان قيام الدولة الدينية كشف عن نقاط ضعف جوهرية في الخطاب الديني والفقهي التقليدي. لاحظت ايضا ان بحوث الفلاسفة والمفكرين الجدد تحظى باقبال كبير جدا، وهؤلاء يطرحون نقاشات مثيرة للاهتمام.
لذلك لدي امل بأن ماسيأتي سيشهد عودة الجدل والنقاش، والتلاحم النقدي بين الفكر الديني والفلسفة الجديدة.
16) هل الأساليب المستمدة من الدين كافية لتسيير المجتمع المعاصر والدوله الحديثة؟
هذا يعتمد على تعريف الدين الذي تعنيه. اذا كنت تعني «الرسالة العلمية» اي مجموعة الفتاوى التي يصدرها الفقيه لمقلديه، او كنت تقصد الكتب المدرسية فهي بالتاكيد لا تكفي لتسيير قرية فضلاً عن دولة.
لكن إذا تحدثنا عن الدين في المعنى الواسع فالجواب مختلف. اقصد بالدين الذي يسير الحياة عنصرين متفاعلين: القيم العليا التي قررها او اقرها النص الديني، والاجتهادات يقوم بها المسلمون كرد على الاسئلة والمشكلات والتحديات التي تواجه حياتهم.
التحديات التي نواجهها كبشر هي نتاج عملنا وهي لهذا السبب ليست فوق قدرتنا على الاستجابة وتقديم الحلول. ما يميز المجتمع المؤمن عن غيره ليس استجابته للتحديات بل مضمون ومدى تلك الاستجابة. كمثل على ذلك فان القيم التي يتبناها المؤمنون تمنعهم من قتل الناس والاستيلاء على املاكهم كي يحلوا مشكلاتهم الاقتصادية، تمنعهم من تدمير الارض لزيادة ثرواتهم.
انا من القائلين بعدم وجود ارتباط ضروري او سببي بين الدين والحضارة. يمكن للبشر ان يديروا انفسهم ويقيموا حضارتهم مع الدين او بدونه. الفارق الذي يصنعه الدين هو ان الحضارة المتوافقة مع الايمان ستكون اكثر انسانية واقل كلفة.
من نفس المنطلق اقول ان عودة الاسلام الى الحياة مرهون باقلاع الانسان المسلم من حالة الانفعال والاستهلاك الى حالة الفعل والانتاج. هذا لا يحتاج الى المزيد من الالتزام بالاحكام الفقهية او استذكار التاريخ كما يفعل بعضنا اليوم، بل يحتاج الى تعزيز دور العقل النقدي وتعزيز قيمة الفرد وتعظيم قيمة العلوم واصحابها والخروج من سجن التاريخ وجدالاته العقيمة والتخلي عن حالة الخوف من العالم وتعزيز الثقة بالذات والمستقبل.
لدي ايمان راسخ بان الجيل الجديد من المسلمين لديه القدرة على ابداع الحلول لكثير من مشكلاتنا الموروثة والجديدة. ونحتاج الى تمكين هذا الجيل من الامساك بازمة الامور، اي تحريره من القيود الذهنية والروحية التي وقعنا فيها واعتدنا عليها.
17) اشرت الى هيمنة التاريخ على تفكيرنا. هل هذا يعود الى ماوصفه د. محمد اركون بالمخيال العربي الذي يرى الحق والنجاة في القديم دون الحديث ام ان هناك اسباب اخرى؟
صورة ذات صلة
محمد اركون
واقع الحال أننا نقدس الماضي، ننظر إليه كحالة متعالية، وننظر إلى أنفسنا وواقعنا بشيء من الإستصغار. لا أعلم السبب وراء هذه المقارنة السقيمة بين الماضي والحاضر. ربما تكون أسبابه نفسية، أو حالة التخلف التي نشعر أننا شركاء في المسؤلية عنها، أو ربما شعورنا بالضعف في مواجهة التحدي الأجنبي. ايا كان السبب، فنحن سجناء في تاريخنا ويجب أن نتخلص من هذا السجن. هذا سجن للعقل، فيجب أن نكسر هذا السجن. كي نرى واقعنا كما هو. اول خطوة نحو المستقبل هي الادراك الصحيح لواقعك الفعلي كما هو وليس كما تتصوره او كما خيل اليك.
18) منذ فجر الإسلام أنقسم المسلمون إلى مذاهب وطوائف، ماهو الأساس في هذا الإنقسام؟ وماهي نظرتك حول مسألة المذهبية في الإسلام؟
الإنقسام في المجتمعات هو نتيجة طبيعية للتطور الثقافي والإجتماعي، حينما يتطور الإنسان يكتشف مفهوم الملكية ويكتشف دائرة المصالح الخاصة به، أو التي هو شريك فيها، اود الاستشهاد براي الفيلسوف المعروف جان جاك روسو الذي قرر ان اكتشاف مفهوم الملكية هو الذي تباين المصالح ومن ثم انقسام الناس وتنازعهم. وبالمناسبة فان معظم النظريات المثالية «اليوتيوبية» حاولت تقديم حل للنزاعات بفرض مساواة قسرية في الملكية. لكن هذا خلاف الطبيعة البشرية.
الإنقسام لازم من اللوازم الطبيعية في النمو والتقدم الذي يحدث في المجتمعات، لكن التعامل مع هذه الإنقسامات هو الذي يميز بين مجتمع العقلاء ومجتمع الجهلة.
مجتمع العقلاء يحترم الإختلاف والتمايز وينظر اليه كجزء من الواقع الإعتيادي للحياة. التمذهب كان موجودا في الإسلام منذ البداية. وكانت المذاهب اشبه بانحيازات سياسية او مدرسية داخل الإسلام، ولم تكن طوائف او تكوينات اجتماعية متباينة ومستقلة. التطور الذي حدث منذ القرن العاشر الميلادي، اي في المرحلة الاخيرة من حكم العباسيين، هو أن المدارس تحولت إلى طوائف، وهذه الطوائف تحولت إلى أنظمة إجتماعية مغلقة تحاول الإستئثار بالموارد المادية في الأرض التي تقيم عليها وتقصي الطوائف الأخرى.
في هذا اليوم لا ارى الدعوة إلى الوحدة او الغاء المذاهب والطوائف امرا مجديا او ممكنا. البديل الصحيح هو الدعوة إلى التسامح أي إلغاء الجدران الفاصلة بين الطوائف والإنغلاقات الثقافية التي تبرر انفصالها الاجتماعي والسياسي. يمكننا التعامل مع الاطياف والطوائف كانظمة اجتماعية طبيعية اعتيادية تؤكد التنوع، شرط ان نجعلها منفتحة على بعضها. هذا في ظني سيعيدها الى حالتها الاصلية كمدارس او انماط حياة مختلفة لكن غير متعارضة.
19) هل النظام الديمقراطي القائم على المساواة في المواطنة والتعددية والحقوق هو الحل للأزمات الطائفية في العالم؟
لا شك أن الديمقراطية هي نظام الحكم الأمثل في هذا الزمان، الديمقراطية هي أحد منتجات الإنسان الكبرى والمهمة وهي مقبولة منسجمة مع القيم الكبرى في الدين الإسلامي، وفي الأديان الأخرى.

يجب أن نتعامل مع هذه الفكرة ونطورها، أن نحاول تنسيجها ضمن شبكتنا الثقافية الخاصة، قد نعترض على جزء هنا أو جزء هناك، لكننا لا نرفضها بشكل كلي، ربما نعدل مانراه غير قابل للملاءمة وهذا امر طبيعي ومقبول. لكن في الاساس، ارى ان التقدم نحو الديمقراطية، سيما في نسختها الليبرالية، هو الحل الجذري للنزاعات الطائفية والعرقية والقومية، التي تتصاعد وتتعمق في ظل الاستبداد وهيمنة التقاليد القديمة البائسة.

24/10/2011

الديمقراطية في بلد مسلم- الفصل الاول



            د . محمد مجتهد شبستري
(  1  )   الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية


القضايا التي نناقشها اليوم كان ينبغي ان تناقش منذ ربع قرن على الاقل . مسائل مثل نوع الحكومة التي نريدها والتنظيم السياسي المناسب لبلدنا هي مسائل اولية ما كان ينبغي ان تترك من دون معالجة جدية حتى اليوم . لو اجرينا مناقشة معمقة ، تحليلية وعقلانية عند تاسيس نظامنا السياسي ، لكان معظم المسائل المثيرة للجدل اليوم قد وجد حلا . لحسن الحظ على اي حال ان هذه المسائل تطرح اليوم ، ومن بينها المسألة التي تناقشها هذه المقالة ، اي "الديمقراطية في مجتمع ديني" .
من المهم تحديد زاوية البحث في سؤال الديمقراطية والديمقراطية الدينية . بديهي ان كل مقاربة للموضوع سوف تعالج جانبا مختلفا عن ذلك الذي تعالجه المقاربات الاخرى . كل مقاربة تنتمي الى اطار علمي مختلف وتستخدم استدلالات ومناهج بحث وزوايا تركيز متمايزة . يمكن مناقشة السؤال من زاوية مفهومية ، فلسفية ، قانونية ، سوسيولوجية ، او سياسية . .الخ .
ربما ظن بعضنا ان سؤال "هل تتلاءم الديمقراطية مع الدين؟" يلخص كل المشكلة ، والحقيقة ان هذا سؤال عن زاوية واحدة من الموضوع فقط . وحتى لو اجبنا عليه فسوف يتوجب معالجة العديد من الاسئلة الاخرى مثل : ما هي الديمقراطية ؟ ، هل نظامنا ديمقراطي ؟ ، هل نحتاج الى الديمقراطية ؟ . كيف نصل الى الديمقراطية ؟ . وهذا يقودنا الى السؤال الذي نحن بصدده ، اي : ماذا يعني وصف الديمقراطية بالدينية ، وهل نتحدث عن ديمقراطية دينية ام ديمقراطية المتدينين ؟ ، وهل يجوز لعامة المسلمين ان يختاروا لانفسهم نظاما سياسيا مثل الديمقراطية ، ام ان الامر متروك لزعمائهم السياسيين والدينيين كي يختاروا النظام المناسب ؟ .
الديمقراطية هي احد المفاهيم الجديدة التي تولدت في اطار المدنية الغربية المعاصرة ، ودخلت حيز النقاش بين المسلمين في السنوات الاخيرة . معظم هذا النقاش يستهدف الحصول على تطمينات حول قدرة الديمقراطية على حل مشكلاتنا ، والتأكد من ملاءمة القيم الديمقراطية لمعتقداتنا الدينية ، اي امكانية اعتبارها خيارا مناسبا لمجتمعاتنا . فيما يتعلق بالتوليف بين الدين والديمقراطية ، ثمة اراء عديدة يدعي بعضها توفر ادلة في النصوص الاسلامية تدعم القيم والمباديء الديمقراطية ، بينما يقتصر الاخر على القول بامكانية الجمع بينهما ، اي وجود فرصة او وسيلة لحل التعارض المحتمل بين الطرفين .
بعض الاسئلة المطروحة في هذا النقاش يعبر عن انشغال ذهني او روحي لعامة الناس ، وبعضها يشغل السياسيين ، او المثقفين او المفكرين وهكذا . ما يشغلني شخصيا هو علاقة هذا السؤال بمعرفتنا الدينية . افترض ان بوسعنا توليف الديمقراطية مع الدين في اطار فهم عقلاني للدين ، وهذا يتوقف على توفر مناهج فهم وتفسير عقلانية . من هنا فسوف اعيد صياغة سؤال العلاقة بين الدين والديمقراطية على النحو التالي : هل لدينا فعلا ، او هل يمكن لنا تطوير فهم جديد للدين قابل لاستيعاب تحديات العصر وتطور الانسان المعاصر ؟ .
الديمقراطية هي سؤال واحد فقط من اسئلة كثيرة مطروحة بالحاح على المسلمين المعاصرين وعلى الفكر الاسلامي ، وبقاؤها مطروحة لزمن طويل يدل صراحة على ان هذا الفكر يفتقر الى منهجية مناسبة لاستيعاب ومعالجة التحديات النظرية وغير النظرية التي تولدت عن تطور الفكر الانساني في العصور الاخيرة . اذا اراد المسلمون ان يردموا الهوة الواسعة التي تفصلهم عن عصرهم ، ويلتحقوا بركب المدنية الحديثة من دون ان يضحوا بايمانهم ، فانهم بحاجة الى ثقافة جديدة قادرة على التسوية بين الدين والمدنية . تأخر المسلمين عن عصرهم هو ثمرة للممانعة التي يجدوتها في قيمهم الدينية ، اي ما يتخيلونه من استحالة الجمع بين ايمانهم من جهة والتقدم العلمي والاجتماعي من جهة اخرى . لكي لا نقع في منزلق التبرير ، فيحب ان نقر صراحة بان ما يفصلنا عن المدنية المعاصرة ليس المسافات ولا مؤامرات الاعداء ، بل عجزنا عن تطوير ارضية ذهنية وثقافية مناسبة تسمح بالتوليف بين متطلبات التقدم ومتطلبات الايمان . سر هذا العجز يكمن في هيمنة مناهج في فهم الدين غير عقلائية ، او غير قادرة على فهم العصر الحاضر وما فيه من قضايا وموضوعات وتحديات .
 المنهج السائد في الساحة الدينية ومجامع العلم الشرعي ، منهج متخلف يقود الى تفسيرات للقيم الدينية غير عقلائية ولا يمكن الدفاع عنها . كما ان الكثير مما يسمى اليوم قيما دينية ، ليس دينيا بالمعنى الدقيق ، كثير من هذه القيم ليس وحيا منزلا ، ولا هي تفسيرات قطعية ونهائية للوحي او القواعد الدينية الاصلية . بل تنظيرات لاعراف وتقاليد وسلائق توافق عليها المجتمع او النخبة الدينية في ازمان معينة او ضمن ظروف خاصة باعتبارها ضرورات للنظام الاجتماعي او مصلحة للمؤمنين ، وبناء على هذه الاعتبارات جرى ضمها الى منظومة القيم الدينية ، وترسخت بمرور الزمن وتلقيها بالقبول من جانب اجيال المسلمين او نخبتهم .
نحن نتفهم بطبيعة الحال الاسباب التي قادت الى تلك التفسيرات والظروف التي فرضتها ، فالازمان الماضية التي شهدت ولادتها لم تعرف مثل ما نواجهه اليوم من تحديات فكرية واجتماعية ، ولم يصل اهلها الى المستوى الذي يعرفه انسان هذا العصر من ثقافة وعلم وتكنولوجيا وانفتاح وسرعة . وعلى اي حال فلم تكن المشكلة يومذاك قصرا على المجتمعات الاسلامية ، فالتفكير الديني في مختلف بلاد العالم كان متخلفا او منفصلا عن الحراك العلمي والتطور العقلي الذي اوجد المدنية المعاصرة .
 ادى ظهور وتطور العلم الحديث خلال القرون الاربعة الاخيرة الى تقدم هائل في مجال العلوم الانسانية والتجريبية ، تغيرت على اثره حياة الانسان ، كما تغيرت ثقافته وتغير فهمه للعالم . وظهرت في هذا السياق مناهج جديدة للمعرفة والتفسير والتفكير ، تسعى لتمكين الانسان من اعادة فهم ما يجده في عالمه وما ورثه عن اسلافه من تراث وافكار وقيم وتجارب ، ونشير هنا خصوصا الى تبلور مناهج جديدة لفهم النص الديني على اسس عقلانية . ولا شك ان المؤمنين بالاديان قد استفادوا من هذه المناهج . وهذا ما يفسر الميل المتصاعد في عالم اليوم لاستبعاد التفسيرات العرفية او الخرافية للدين . واستطيع القول من دون تحفظ ان توفر العلم والمناهج الفلسفية الحديثة وتطور التجربة العقلية للانسان لم تترك اي مبرر لتلك الشريحة من دارسي العلوم الدينية التي غضت الطرف عما توفره المناهج العلمية الجديدة من امكانات هائلة لفهم وتفسير النص الديني ، وكرست نفسها لحراسة المناهج القديمة التي اكل عليها الدهر وشرب ، وظهر عجزها عن الوفاء بحاجات المسلمين الروحية والدنيوية الراهنة .
كثير من مشكلاتنا الثقافية هي نتاج لترددنا في تطوير مناهج الفهم والاستدلال التي يتعارف عليها العلماء باسم الاستنباط او الاجتهاد ، ولا سيما التردد في الاخذ بالمناهج الجديدة في فهم النص واستنطاق مضمونه . وللاسف فعلى الرغم من توفر هذه المناهج ورغم قدرتنا على تطويرها ، الا ان الاهتمام بهذا الامر في مجامعنا العلمية ضئيل او ربما معدوم . في سنوات الثورة الاسلامية الاولى أتاحت الظروف السريعة التغير مجالا للدعوة الى تجديد الفكر الديني ولاسيما مناهج الاستنباط ، ومساءلة اولئك الذين يتصدون للاجتهاد والفتوى عن منهجهم في البحث ، والمعايير التي يقررون على ضوئها خياراتهم . لكن هذه الدعوة واجهت في كل الاحوال معارضة غير منصفة ، وواجه اصحابها انواعا من العنت حتى اضطروا الى السكوت عنها .
زبدة القول ان الاجابة على سؤال العلاقة بين الديمقراطية والدين يتوقف الى حد كبير على المنهج الذي نتبعه في فهم الدين واستنباط قواعد العمل من نصوصه . وارى انه لا يمكن في ظل المناهج الموروثة التوصل الى جواب مناسب ، لان هذه المناهج ليست مؤهلة من الاساس للتعامل مع اسئلة من هذا النوع . ومن هنا فانه لا الديمقراطية ولا القيم والافكار الاخرى التي انتجتها المدنية المعاصرة ، قابلة للفهم او الملاءمة مع تفكيرنا الديني في ظل تلك المناهج . دعنا على اي حال ننتقل من هذه المقدمة الى مسألة اخرى ، احسبها تمهيدا ضروريا للتفكير في العلاقة بين الدين والديمقراطية ، اعني بها الارضية التي يقوم عليها كل من الطرفين .
 قيم الدين وقيم الديمقراطية
حديثنا عن "الديمقراطية" يأخذ بعين الاعتبار كونها مفهوما محددا جرى تعريفه على نحو دقيق من خلال التجربة الفعلية في العالم فضلا عن الابحاث والدراسات في المحافل العلمية المتخصصة . بتعبير اخر فاننا لا نسعى من وراء هذا النقاش الى تخليق مفهوم جديد نطلق عليه اسم "الديمقراطية" ، بل معالجة المفهوم المعروف في العالم وربما تعديل بعض اطرافه بما لا يؤثر على قوامه الاساسي والمباديء الكبرى التي تمثل جوهره . بالنظر لتطورها في محيط معرفي مختلف فان "القيم الديمقراطية" هي تركيب منظومي متمايز عن "القيم الدينية" التي تمثل هي الاخرى تركيبا منظوميا خاصا وقائما على ارضية مختلفة عن تلك التي تقوم عليها القيم الديمقراطية . من ابرز موارد الاختلاف بين المنظومتين على سبيل المثال ، هو ان قيم الديمقراطية تمثل قيما توافقية- ضمنية ، بمعنى انها ثمرة لنوع من التوافق الاجتماعي على معناها ومؤدياتها . وفي الحقيقة فان معظم القيم الديمقراطية – فوق قيامها على التوافق – تستهدف ايضا تعزيز وتعميق علاقات التوافق والتعاقد بين الافراد . من بين القيم التي يظهر فيها كلا البعدين مثلا اصالة التعاقد ، الرضا والقبول الشعبي كمصدر للشرعية ، المساواة المدنية ، حق الفرد في الاختيار المستقل لنمط حياته الاجتماعية والسياسية ، سيادة القانون ، ارتباط الحقوق الدستورية بالمواطنة ، ضمان حقوق الانسان ، حاكمية الشعب . الخ . هذه المفاهيم تنطوي في داخلها على محتوى قيمي – توجيهي ، ومن هنا فان تفعيلها في الحياة العامة هو الذي يعطي للديمقراطية شكلها ومضمونها الخاص .
لا اريد الان الدخول في بحث حول الارضية الفلسفية او الاخلاقية لتلك المفاهيم ، وما اذا كانت مستمدة من القانون الطبيعي او الفطرة او غير ذلك من المصادر . الامر المسلم به هو ان تلك القيم قد حصلت على مكانتها الرفيعة نتيجة لـ "توافق" اعضاء المجتمع على معياريتها ، بعبارة اخرى فان اعضاء مجتمع ما قد "توافقوا" على هذه القيم و "تعاقدوا" على جعلها اساسا للقانون الذي يحكم حياتهم  . تحول هذه القيم النظرية الى معايير حاكمة ومنظمة للعلاقات الاجتماعية هو اذن نتيجة للتوافق والتعاقد بين اعضاء الجماعة ، وليس بفرض او الزام من جانب احدهم او من جانب قوة خارجية فوقهم . من هنا فان الخطوة الاولى التي تمهد لقيام حكومة ديمقراطية ، هو توفر هذا النوع من التوافقات (او القيم الديمقراطية) بين الشعب .
لم يكن توصل المجتمعات الديمقراطية الى تلك التوافقات ثمرة للتامل الفكري المجرد ، بل نتيجة لتحولات في الحياة الاجتماعية واحيانا ازمات طاحنة اوجبت على الناس التفكير في بدائل ومخارج من تلك الازمات . ومن هنا يمكن القول ان ظهور هذا النوع من التوافقات والقيم ، وقبول الناس بها وتعايشهم مع مستلزماتها ، يتطلب تحولات من نوع ما ، اقتصادية او سياسية او ثقافية ، توفر ما يمكن وصفه بتمهيد نفسي او ذهني يسهل على اعضاء المجتمع القبول بمبدأ التوافق كوسيلة قطعية ووحيدة لحل الخلافات والتعارضات في المصالح وادارة الموارد والثروات الطبيعية المشتركة ، ثم الانتقال الى مرحلة التعاقد بين افراده على صورة النظام السياسي الذي يأملون العيش في ظله .
من الممكن بطبيعة الحال ان يعيش الناس من دون هذه القيم . من الممكن مثلا ان يعيش الناس في مجتمع لا يعرف مفهوم المواطنة وما يترتب عليها من حقوق دستورية ، او لا يعرف مفهوم الارادة العامة ، او حقوق الانسان ، او التمييز بين المجال الشخصي والعام ، الخ . . من الانصاف ايضا القول بانه لا يمكن البرهنة باي طريقة فلسفية او تاريخية او غيرها على ان المجتمعات التي لم تتوصل الى تلك التوافقات والقيم ، كانت على خطأ او كانت سيئة او غير متحضرة او غير طبيعية ، او ان حياة الناس فيها كانت خالية من المعاني الانسانية . واقع الامر ان التحولات الاجتماعية والعلمية قد وضعت امام الناس حقائق جديدة على مستوى المعرفة او على مستوى السياسة والاقتصاد ، اي حقائق ذهنية وحقائق مادية . ونتيجة لتعرف الناس على تلك الحقائق ، توصلوا الى قناعة ضمنية او صريحة بان الاخذ بالقيم والمفاهيم الديمقراطية المذكورة اعلاه سوف يجعل حياتهم اكثر انسانية .
خلافا لهذا المعنى فان القيم الدينية ليست توافقية ، اي ان اعتبارها الديني والاخلاقي ليس منبعثا من اتفاق الجماعة على دينيتها او معياريتها . الدين ليس من ذلك النوع من سبل الحياة الذي يتوافق اعضاء المجتمع على صناعة مضمونه او منحه القيمة المعيارية . ربما يقول بعضنا بان القيم الدينية يمكن ان تتولد بصورة من الصور من تجربة روحية . ونقصد بالتجربة هنا معناها العرفاني وليس المادي . التجربة بالمعنى المادي قد تنحصر في ممارسة الشعائر ومظاهر السلوك اليومي التي يقوم بها كل المتدينين . اما المعنى العرفاني الذي يتحدث عنه الفلاسفة والعارفون ، فهو يشير الى نوع خاص من التفاعل بين الانسان والكون ينبعث من وحدة الاصل الذي يرجع اليه الطرفان . هذا التفاعل ينتج معرفة وعلاقة بين داخل الانسان وخارجه ، بينه وبين النظام الكوني الذي يعيش فيه ، وهو قريب من معنى الفطرة الى حد ما . وعليه فاذا كان منشأ الدين هو هذا النوع من التجربة الروحية ، فانه يمكن ان يكون ايضا منشأ للقيم الدينية . لكن حتى لو قلنا بهذا المنشأ للدين او القيم الدينية ، فانه لا يمكن ان يكون من نوع المفاهيم التوافقية ، فالتجربة الروحية بهذا المعنى هي – بالضرورة - تجربة فردية لا يمكن للانسان ان يشرك فيها غيره بل ولا يمكن ان تكون مشتركة مع الغير .
يتميز الدين عن سائر الممارسات الحياتية الاخرى بانطوائه على جانب قدسي هو مصدر فعال للالزام ، بمعنى ان الايمان بذاته يولد في داخل النفس معنى خاصا للافعال ، ويترتب عليه شعور عند المؤمن بان عملا ما هو واجب يلزمه القيام به ، وان عملا اخر ينبغي اجتنابه . القبول بالايمان ومقتضياته وممارستها من جانب الفرد ، تشكل ما يمكن وصفه بتجربة دينية بالمعنى العام للكلمة ، فهي تولد قيما او تسبغ قيمة على اشياء ، وتسلبها من اخرى ، فهي مثلا تلقي رداء القداسة على اماكن او اعمال او اشخاص او كلام ، فتجعلها ذات قيمة استثنائية . توليد هذه القيم لا يجري نتيجة لتوافق اجتماعي كما هو واضح ، بل من خلال علاقة مباشرة بين الفرد وبين المصدر الاعلى الذي ينتسب اليه دينه ، اي من خلال تجربة روحية فردية .
زبدة القول اذن ان الديمقراطية هي منظومة قيمية تقوم على ارضية التوافق الاجتماعي ، فالارادة العامة للمجتمع هي مصدر شرعيتها ومعياريتها . خلافا لهذا فان القيم الدينية مستمدة من الايمان الديني ، وهو ليس قائما على توافق بين الناس ، بل ثمرة للاتصال بين الفرد وربه . حتى لو قلنا بان الدين هو تجربة روحية ، فانها ايضا لا تخرج عن ذلك الوصف ، ذلك ان التجربة الروحية هي في نهاية المطاف تجربة فردية وليست موضوعا للتوافق .
 الديمقراطية كضرورة للحياة الدينية
فيما يتعلق بالتركيب المفهومي "الديمقراطية الدينية" يمكننا تصور معنيين للوصف الديني :
المعنى الاول : ان الديمقراطية الدينية هي اطار يضم في داخله منظومة من القيم الدينية ، اي ان المحتوى القيمي والاخلاقي للديمقراطية هو امتداد للنص الديني او للتجربة الدينية . اذا كان هذا المعنى هو الصحيح فان وصف الديني هو قيد للديمقراطية وليس شرحا عليها . وبالتالي فان اهمية الديمقراطية او قيمتها تنبع من كونها تكليفا دينيا . كما ان قبول المؤمن بها راجع الى ورودها في النص الديني او ارتباطها بالتجربة الدينية .
المعنى الثاني : ان الديمقراطية التي نتحدث عنها (الدينية) هي ذات الديمقراطية المعروفة في العالم من دون ان نتدخل او نغير في مفهومها . اي انها غير مستنبطة من النص الديني وليست موضوعا للاجتهاد والاستنباط على النحو المتعارف اليوم في الحوزة العلمية وغيرها من مجامع العلم الشرعي . مفاد هذا القول انه لا يمكن الحصول على قيم الديمقراطية في الكتاب والسنة او سيرة المعصومين ولا يمكن تاسيس شرعيتها او معياريتها على هذا الاساس . وبالتالي فان الاقتناع بها او التعويل عليها لا يستند الى آية في القرآن او رواية من المأثورات او عملا مسجلا كسيرة للمعصوم .
في رأينا ان المعنى الثاني هو الصحيح . لكن يجب الانتباه الى ان عدم الاشارة الى القيم الديمقراطية في التراث الديني لا يعني ابدا انها مقولة باطلة او مضادة للدين . فورود مفهوم ما في التراث يرتبط بالظرف الزمني والموضوعي الذي شهد ولادة ذلك التراث . بديهي ان المفاهيم والافكار الجديدة ومن بينها الديمقراطية لم تكن سؤالا مطروحا في الزمن الذي نعتبره مرجعيا ، اي زمن حضور المعصوم . وقد اشرنا في السطور السابقة الى ان ظهور قيم الديمقراطية وامثالها من القيم التوافقية رهن بتحولات خاصة في حياة المجتمعات ، وما لم تتحقق هذه التحولات البنيوية فان ظهور تلك القيم ، وخصوصا تحولها الى ضرورة للحياة ، هو امر مستبعد . نعلم ايضا ان مجتمع المسلمين لم يتعرض خلال العصور السابقة التي نرجع اليها في دراسة النصوص الدينية ، لتلك التحولات التي اثرت في وعي الانسان . نحن نعيش اليوم في عالم جديد ، ولدت فيه الكثير من المفاهيم الجديدة ، كما تغيرت كثير من المفاهيم المعروفة سابقا . انظر مثلا الى مفهوم "الدولة" المعاصر وكيف انه مختلف تماما عن مفهومه المتداول في كتب التراث ، وانظر ايضا الى مفهوم القانون ، المواطنة ، حاكمية الشعب ... الخ . هذه المفاهيم وامثالها لم تكن موجودة او معروفة في نظامنا الاجتماعي وثقافتنا السائدة قبل العصور الحديثة . هذه مفاهيم جديدة للحياة الانسانية وعلينا ان نسعى لفهمها ونقدها وتنسيجها في نظامنا الثقافي . اما البحث عن نظائرها في كتب التراث او في تجربة المسلمين الاوائل فهو عمل لا طائل تحته ، لانها بذاتها لم تكن موجودة او ان موضوعاتها لم تكن مطروحة فيما سبق .
السؤال الذي يواجهنا عند هذه النقطة هو : اذا لم يكن ممكنا العثور على دليل يدعم الديمقراطية في النصوص الدينية ، فهل ثمة مرجعية بديلة يمكن الاستناد اليها في الاخذ بالنظام الديمقراطي؟ . بعبارة اخرى كيف نتصور ديمقراطية دينية دون ان يكون لها مرجعية في النص الديني ؟ .
 للجواب على هذا السؤال نحن بحاجة الى التفسير العقلاني للدين الذي سبق الحديث عنه . صحيح انه لا يمكن التوصل الى مرجعية دينية للديمقراطية بالاعتماد على منهج الاجتهاد والاستنباط الموروث ، لكن يمكن العودة الى القيم الدينية والى روح الدين بشكل عام للبرهنة على انه لا يوجد تعارض بين الدين والديمقراطية ، بمعنى انه يمكن لنا ان ناخذ بالنظام الديمقراطي دون ان نخسر ايماننا ، بل يمكن البرهنة على ان الاخذ بالديمقراطية سوف يجعل تطبيق مقتضيات الايمان اكثر يسرا واقرب منالا . المشكلة اذن لا تتعلق بقابلية الدين او الديمقراطية للتلاؤم مع بعضهما ، بل بالمنهج المتبع في فهم وتفسير الدين .
نحن بحاجة الى رصد راسمال كبير في مناقشة هذه المقولات ، فمن دون الانخراط في بحث عميق ومتعدد الابعاد فان مشكلات مثل ما نحن بصدده (اي ما هي الديمقراطية الدينية) لن تكون قابلة للحل . اذا تحدثنا عن الاصلاح في امثال مجتمعنا ، فلا شك ان الافكار الاصلاحية لا يمكن ان تصل الى نتيجة من دون بحوث عقلانية معمقة ومتواصلة في النص الديني وتفسيره .
يجدر الاشارة هنا الى ان مجتمعنا ليس الوحيد الذي تثار فيه هذه الاسئلة او تظهر في صفوفه الحاجة الى مثل هذا البحث . فهي مطروحة حتى في المجتمعات الغربية التي قطعت شوطا بعيدا في الاصلاح السياسي . بالنسبة للمؤسسات الدينية المسيحية مثلا ، نشير الى ان الفاتيكان كان حتى منتصف الستينات من القرن العشرين يتخذ موقفا مرتابا واحيانا معاديا لمواثيق حقوق الانسان الدولية باعتبارها نقيضا للمسيحية . لكنه اقتنع منذ العام 1964 بان اعتماد هذه المواثيق يوفر فرصة افضل للتدين والايمان . الاستدلال الذي جرى الاخذ به يومئذ هو ان هذه المواثيق تعين لكل انسان حريما لا يمكن تجاوزه من جانب اي سلطة ، ويضم هذا الحريم منظومة من الحريات الطبيعية التي ترتبط بانسانية الانسان ، وابرزها حرية الاعتقاد والعبادة وحرية التفكير والعمل الخ . اذا تمتع كل انسان بهذا الحريم فانه – كمتدين ، سواء كان مسيحيا او غيره - يمكن ان يعيش حياته الدينية ويمارس مقتضيات ايمانه بحرية وأمان . ومن هنا فان اي نظام سياسي يحترم حقوق الانسان هو بالضرورة اكثر انسانية واقرب الى جوهر الدين من اي نظام قاهر او شمولي لا يقيم حرمة لحياة الافراد الشخصية ولا يحترم حقوقهم .
حسنا ، لو اتبعنا هذه الطريقة التجريبية في الاستدلال ، فهل ستوصلنا الى توليف مناسب بين الدين والديمقراطية ؟ .
دعنا نفترض ان المسلمين وجهوا هذا السؤال لانفسهم : ما هو ظرف الحياة الاكثر تناسبا مع هويتنا كمسلمين ، العيش في ظل حكومة ديمقراطية ام العيش في ظل حكومة استبدادية او شمولية؟ .
 يمكن صياغة هذا السؤال على نحو آخر : ما هو نوع النظام السياسي – الاجتماعي الذي يوفر فرصة اكبر لنا كي نعيش في انسجام مع ايماننا ومعتقداتنا وقيمنا الدينية ، هل هو النظام الديمقراطي ام الاستبداد ؟ .
نفترض ان كل عاقل سيفضل – بصورة مبدئية على الاقل - الديمقراطية على الاستبداد . اذا اخذنا بهذه الرؤية فلن يكون ثمة حاجة الى تغيير في محتوى مفهوم الديمقراطية او استبدال القيم التي يقوم على اساسها او يسعى الى ترسيخها . من ناحية اخرى فان هذه الرؤية لا تأخذ بالديمقراطية من منطلق الانفلات من حدود الدين واحكامه . على العكس من ذلك فاننا نطرح ذلك السؤال ، وناخذ بهذه الرؤية انطلاقا من كوننا مسلمين مؤمنين ، نريد ان نعيش حياتنا من دون ان نتخلى عن ايماننا . ولهذا فان سؤالنا يدور في جوهره حول البيئة التي توفر فرصة اكبر وافضل للعيش كمؤمنين . رؤيتنا تقول ان القبول التوافقي بقيم الديمقراطية واقامة الحكومة التي تجسدها ، سوف يوفر ظرفا افضل للاعتقاد الحر والممارسة الحرة لمقتضيات الايمان ، ومن هنا فان هذا النظام اكثر انسانية كما انه اكثر دينية من اي نظام استبدادي .
الاخذ بالديمقراطية وتفضيلها على ما سواها ينطلق اذن من مبررات دينية بحتة . لكن هذا ليس نهاية القصة . فالنظام الديمقراطي يوفر - اضافة الى ما سبق - فرصا لتحقيق اغراض الدين واهدافه . من الامور البديهية عندنا ان الدين يسعى الى محو الظلم والقهر وترسيخ العدالة الاجتماعية باعتبارها اهدافا اولية لاي مجتمع ديني . وينظر الى هذه الاغراض كمسؤولية مشتركة يساهم في انجازها جميع الناس . يريد الدين ايضا ان يؤمن به الناس مختارين لا مضطرين او مجبرين ، وان يعيشوا احرارا في دنياهم غير مرتهنين او مقموعين ، لان الحرية هي البيئة التي يزدهر فيها الايمان وتتبلور فيها الطاقات الانسانية ، وتتقدم الحياة . هذه الاغراض هي بعض الثمرات النسبية لنظام ديمقراطي ، ولهذا فان قبولنا بمثل هذا النظام ينطلق من ايماننا الديني ، وهو مبرر على ارضيته . نقبل بالديمقراطية لانها تمكننا من تحقيق الاغراض التي يسعى اليها الدين ونريد تحقيقها كمؤمنين .
ليس ثمة تناقض بين ان نكون مسلمين وان نستعير نظاما حياتيا تبلور خارج اطار الاسلام . في الماضي فعل المسلمون الشيء نفسه واستعاروا انظمة حياة تبلورت خارج اطارهم لانهم وجدوها اكثر تناسبا مع اسلامهم ومع نوعية الحياة التي يريدون ان يحيوها كمسلمين .
من الواضح ان قبول الديمقراطية بالاستناد الى قيم دينية توافقية وتنسيجها ضمن ثقافة المسلمين يستوجب مراجعة وتعديل نظام القيم الخاص بالثقافة الاسلامية لتمكينها من استيعاب القيم الجديدة وهضمها وادراجها ضمن منظوماتها القيمية الخاصة . من ذلك مثلا موقفنا من القهر والعنف ، اذ ليس من المعقول ان تندرج قيم الديمقراطية في نظامنا الثقافي بينما لا نزال نروج للعنف وفرض الاراء والقناعات بالقوة والقهر ونلقي عليها اوصافا قيمية او دينية من نوع اعتبارها امرا بالمعروف ونهيا عن المنكر او جهادا في سبيل الله ، لايمكن ان نقدس الجبر والقهر ونستوعب الديمقراطية في الوقت نفسه . هذا لا يعني بطبيعة الحال التخلي عن المباديء الاسلامية مثل الجهاد او الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بل التخلي عن استخدام مثل هذه المباديء في القهر والتجبر او ممارستهما بطريقة تحتوي على قهر او عنف ، مثل قمع حرية التعبير او منع الافراد من ممارسة شعائر او انماط حياة تخالف السياسات الرسمية . اول شروط الديمقراطية هو الاعتراف بالمجال الخاص للانسان الذي هو حريم شخصي لا سلطة للدولة فيه ، ولا يجوز خرقه من جانب اي طرف .
ليس من العسير على اي مجتمع ان يراجع منظوماته القيمية . في الحقيقة فان هذه العملية تجري في كل الاوقات في كل مجتمع . الناس يتفاعلون مع التحولات التي تجري في حياتهم ومن حولهم ، كما يتفاعلون مع التحديات التي تواجههم ، فيغيرون اراءهم وقناعاتهم ، اي يستبدلون قيما قائمة باخرى جديدة من اجل تحسين كفاءة نظامهم الاجتماعي وتحسين مستوى معبشتهم ، وهكذا تجري الامور على الدوام ، وبصورة عفوية في الغالب . القيم الدينية التي نتحدث عنها ولدت قبل اربعة عشر قرنا ، لكنها تعرضت طوال هذه الفترة لمراجعات عديدة حتى وصلت الينا على الصورة التي نعرفها اليوم ، وهي صورة تختلف قطعا عما كانت عليه قبل قرون . لا يوجد اي مانع شرعي او عقلي يحول دون مراجعة القيم التي نرجع اليها في تنظيم حياتنا ، بل يمكن القول ان هذا هو موطن الاجتهاد في معناه الدقيق .
لو نظرنا الى ثقافتنا السائدة وما ينطوي عليه تراثنا ، نظرة نقدية ، فسوف نجد الكثير مما يحتاج الى اصلاح في نظامنا القيمي وفي اعرافنا وتقاليدنا . هناك على سبيل المثال تمييز بين الناس وتصنيف لهم كمواطنين من الدرجة الاولى والثانية . ثمة طبقات او اصناف اجتماعية تعتبر نفسها ممتازة على غيرها ، وتحسب لنفسها حقوقا على الاخرين ، وهذا بطبيعة الحال خلاف اصل التكافؤ والتساوي بين بني الانسان . هذه القيم وامثالها تحتاج الى اصلاح يقود الى الاقرار بالتكافؤ التام بين الناس والمساواة المدنية بينهم كمواطنين اكفاء لبعضهم . لا يمكن اغفال هذه العيوب في نظامنا الثقافي لان التغافل لا يحل اي مشكلة .
زبدة القول اذن ان التوليف بين الدين والديمقراطية ليس بالامر العسير . لكنه مشروط بالنظر في الاسلام ، في روحه وفي قيمه ، وانتهاج منهج عقلاني انساني في فهمه وتفسيره . وهذا يتطلب بالضرورة عدم الاقتصار على اراء الفقهاء ، وعدم الاخذ بمنهج الاجتهاد والاستنباط الموروث . ان رؤية جديدة وانسانية للدين سوف تمكننا من بسط ارضية فكرية وقيمية دينية جديدة تستوعب التحديات الفكرية والحياتية التي تتجه الينا . نحن في امس الحاجة الى هذه الارضية كي نعيش عصرنا ونحافظ على ايماننا في الوقت ذاته .


بقية فصول الكتاب


تقــــــــــــــــــــــــــــــــديم 
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/1.html
1)  الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية                                                         محمد مجتهد شبستري
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_8707.html
2) الديمقراطية والديمقراطية الدينية : المباديء الاساسية                                 محسن كديور
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_9060.html
3) الديمقراطية الدينية: حاكمية العقل الجمعي وحقوق الانسان                           عبد الكريم سروش
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_6931.html
4) من المدينة الفاضلة الى مدينة الانسان :
 الفرضيات الاولية لبحث الديمقراطية الدينية                                             علي رضا علوي تبار
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_7868.html
5) في معنى الوصف الديني للديمقراطية                                                  علي بايا
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_24.html
6) جدل فقهي حول الدولة الحديثة                                                          توفيق السيف
http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post.html      


رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...