‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفقه. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفقه. إظهار كافة الرسائل

14/05/2008

في أصالة التيسير ومشكلاته



ذكرت في مقالين سابقين ان التيسير اصل في سلامة الحكم الشرعي. بمعنى ان الحكم المؤدي للعسر او الحرج قابل للطعن من جانب المكلف. وهذه قاعدة جارية في الفقه وفي القانون كما في الاخلاق. هناك بطبيعة الحال اناس يرغبون في التشديد على انفسهم تطوعا او رياضة.
 وتنقل كتب السير عن رجال روضوا انفسهم بخشونة العيش وترك اللذائد ، حتى تعتاد الانس بطريق الذاكرين. نعرف ان هذه الممارسة تجربة ذاتية ، يأخذ بها القليل من الناس ويستصعبها الكثير. وقد يوصي بها الفقيه حوارييه او خلص اصحابه، لكنه لا يأمر بها عامة الناس. فالاصل في الدعوة وتبليغ الرسالة هو الامر بالعرف، اي الحد المتعارف والمقبول من عامة الناس، وهو فحوى الرواية التي تنقل عن الامام علي بن ابي طالب.
التيسير في الفتوى واجتناب ما يؤدي الى العسر والحرج من القواعد الراسخة في الشريعة وهي مؤيدة بنصوص صريحة في القرآن والسنة النبوية الشريفة، اضافة الى الادلة العقلية. ولهذا تبدو الفكرة واضحة بما يغني عن مزيد البيان. لكن الامر الذي يبدو غامضا هو طبيعة العسر والحرج الذي نتحدث عنه ومن هو المرجع في تشخيص ما اذا كان حكم معين سببا في عسر ام لا. فهل نتكلم عن الحرج النفسي، او المادي، او الاجتماعي ؟. وهل يا ترى نرجع الى الفقيه في تشخيص الحالة، ام نرجع الى العرف الاجتماعي، ام نترك للمكلف ان يشخص حالته؟.

بعض الناس قد يرى الخيار الثالث اقرب الى روح الدين فالشخص اعرف بظروفه واوضاعه الخاصة. كما ان تطبيق الحكم الشرعي منظور فيه نية التقرب الى الله، والنية مكانها القلب فلا يعرفها غير المكلف نفسه. لكن الخيار الاول هو الخيار السائد بين الدعاة والفقهاء. وهو امر متوقع، فهم يرون انفسهم اعرف بالحكم وموضوعاته وانهم الامناء على سلامة تطبيق الشرع. وذهب كثير من اهل العلم الى ان العرف هو المرجع في تشخيص موضوعات الاحكام. وامتدادا له يمكن القول ان تشخيص موارد العسر والحرج راجع ايضا الى العرف العام.

لا يخلو اي من الخيارات الثلاثة من اشكالات نظرية وعملية. فالتعويل على تشخيص الفرد معقول اذا كانت حدود انطباق الحكم محصورة في شخصه. لكنه غير معقول اذا ترتبت عليه الزامات او تصرفات تمس الغير. والتعويل على تشخيص الفقيه فيه احتمال الانحياز، خاصة مع اختلاف نمط المعيشة ومصادرها واختلاف الثقافة بينهم وبين عامة الناس. وقد رأينا امثلة لذلك في موقف اكثرية الدعاة من تحريم اقتناء اجهزة استقبال القنوات الفضائية رغم ميل الاكثرية الساحقة من الناس اليها، ونسمع اليوم عن الجدل حول تجويز او منع اقتناء اسهم شركات معينة لانها تتعامل مع بنوك تتهم بالربوية.

 وثمة حوادث نشرتها الصحف في الايام الماضية تشير الى ميل كثير من الدعاة الى التشدد في امور ليس فيها نص وليست من مواضع الاجماع، وهو خلاف التيسير. فهذه وتلك تشير الى ان العرف السائد بين الدعاة مختلف عن عرف عامة الناس، بغض النظر عن الرأي في سلامة هذا العرف او ذاك.

وعلى نفس الخط فان الرجوع الى العرف العام، اي رأي عامة الناس، يثير اشكالات غير قليلة، خاصة مع قلة الادوات العلمية المعتبرة لكشف الرأي العام. لعل ابرز تلك الاشكالات هو تحديد نطاق العرف المقصود. فلو كنا نتحدث عن قرية معزولة لامكننا اكتشاف العرف الخاص بها. لكن ماذا نفعل في دولة او مدينة كبيرة يهاجر اليها الناس من شتى بقاع الارض، وتجد فيها اعرافا عديدة بعدد المجتمعات التي ينتمي اليها سكانها.

ثم ان العرف ليس قيمة ساكنة، فهو يتغير مع تغير الثقافة والظروف المعيشية ونظام المجتمع. فبعض الاعراف التي كانت راسخة قبل عقدين او ثلاثة لم تعد اليوم سوى ذكرى قديمة. بعض ما كان مرغوبا اصبح اليوم متروكا وبعض ما كان مستغربا اصبح اليوم اعتياديا مألوفا. خذ مثلا الحرف اليدوية التي كان ابناء القبائل يعتبرون الانشغال بها عيباً، لكنها اليوم حرف محترمة ومرغوبة. وخذ مثلا إعراض رجال الامس عن الزواج من المرأة العاملة، فاذا بها اليوم مقدمة على تلك القاعدة في البيت. فهذه وتلك اعراف متحركة ومتغيرة بتأثير الثقافة والمعيشة فضلا عن السياسة.
عكاظ 14 مايو 2008    https://www.okaz.com.sa/article/184679

مقالات ذات علاقة

30/04/2008

رأي الفقيه ليس حكم الله

؛؛ تفكير الفقيه في الموضوعات والحوادث ومحاولاته لاستنباط احكام شرعية، يتاثر- مثل سائر الناس – بما حوله وما يعيشه من ظروف وضغوط وسبل حياة ؛؛

لعلك ترغب أيضا في معرفة "متى يصبح رأي الفقيه حكم الله"

الأصل في الفتوى أنها رأي شخصي للفقيه، وهو رأي قد يوافق آراء الفقهاء الآخرين وقد يخالفهم. واتفق الأصوليون والدعاة معاً على أن اختلاف الفتوى سبب للتيسير على المكلفين، والتيسير أصل في سلامة الحكم الشرعي. وذهب كثيرون إلى أن اختلاف الفتوى من أسباب استيعاب الشريعة المقدسة للتحديات المتولدة عن اختلاف الأزمنة وتغير ظروف المعيشة والثقافة وحاجات المجتمع. وكان من سمات عصور التخلف توقف الفقهاء عن نقد فتاوى أساتذتهم وذوي الشهرة من معاصريهم وقدمائهم.
 وشهدنا في السنوات الأخيرة عدول عدد ملحوظ من الفقهاء عن آراء مشهورة لأسلافهم، بل وعدولهم عن آراء خاصة سبق لهم أن استدلوا عليها وتبنوها وأفتوا بها ودافعوا عنها. وبين أبرز ما يذكر هنا رأيهم في عمل النساء وشروط الزواج، ورأيهم في أشكال الممارسة السياسية الحديثة، وفي التعاملات المصرفية والتأمين، وفي السفر إلى غير بلاد الإسلام.. الخ.
واختلاف الفتوى هو السياق الطبيعي؛ لنأخذ مثلا القروض البنكية التي دار حولها خلاف كبير، فقد ركز أكثر الفقهاء على الفائدة المشروطة كسبب لتصنيف القروض ضمن المعاملات الربوية المحرمة. بينما ميز كل من شيخ الأزهر السابق ، وكذلك اية الله صانعي بين القرض الاستهلاكي والاستثماري، ورأوا أن الثاني لا تعيبه الفائدة لأن المقرض شريك في فائض القيمة التي يولدها رأس المال فله حق في الربح، كما ركز الرجلان على ناتج الاستثمار وهو العمران في الأرض وتحسن المعيشة للمقترض وغيره. ونظر المرحوم شمس الدين إلى اختلاف النظام الاقتصادي ودورة رأس المال في زمن النص عنه في الزمن الحاضر، ولاسيما اختلاف مفهوم العمل والتباين بين حصة كل من رأس المال والعمل في تكوين الناتج.
ويقال مثل ذلك عن تحريم السفر الى بلاد الكفار، فقد استدل المانعون بنصوص صريحة من السنة، بينما ركز المجيزون على اختلاف الظرف الذي وردت فيه تلك النصوص عن ظرف العالم الراهن، كما استدلوا بالتجربة التي تثبت بوضوح أن المسلمين الذين سافروا الى بلاد الكفر قد حافظوا على دينهم ولم يتحولوا كفارا. فالواضح أن هؤلاء نظروا الى الرسالة الداخلية للنص أو غرض الحكم وليس ظاهره أو منطوقه ولو كان صريحا بينا في التحريم.
والفقيه - مثل سائر خلق الله - يتفاعل مع محيطه، يتأثر بظروفه المادية والثقافية، وبما يجيش في صدور الناس حوله من هموم وتوجهات وانفعالات ومصالح ومصادر قلق ورغبات وتطلعات، وما في نظامهم الاجتماعي من أعراف وتقاليد وأنماط معيشة. وهو - مثل غيره - يتعرض لعوامل الجذب والطرد في داخل البيئة الاجتماعية، كما يتعرض لمصادر الضغط وردود الفعل، سواء تلك التي تتولد في داخلها أو تنعكس عليها من الخارج. يضاف إلى هذه ايضا العوامل الشخصية التي تشمل الانتماء الطبقي أو الاثني، المستوى المعيشي، مصادر التعلم والثقافة، ومقدار المعلومات والمعارف المتوفرة له، والتجربة الحياتية الشخصية. فمجموع هذه العوامل يؤثر تاثيرا قويا على رؤية الفقيه للموضوعات وظروفها، وبالتالي على اختياره للقواعد الشرعية التي يطبقها على الموضوع. ولهذا السبب تأتي آراء الفقهاء متباينة في الموضوع الواحد.
هذا التمهيد يثير سؤالين ضروريين:
الأول: اذا كان رأي الفقيه - كبيرا كان او صغيرا - على النحو المذكور، فهل يعتبر مطابقا لحكم الله، أو هل يصح أن نطلق عليه صفة (حكم الله) أو (حكم الدين)، أم يبقى مجرد رأي شخصي محترم مثل سائر النظريات والآراء العلمية التي يلتزم بها المتلقي أو يعرض عنها بحسب اختياره؟.
الثاني: هناك على الدوام حاجة لأحكام ملزمة، مثل الأحكام التي تصدر عن جهات سيادية في الدولة، او الأحكام التي يصدرها القاضي في النزاعات. وهي أحكام تؤثر في الناس وفي مصالحهم، وقد تقيم حقوقا وتبطل أخرى. فهل يصح الرجوع الى رأي شخصي معرض للعيب والقصور في مثل هذه الاحكام، أم نختار طريقة مختلفة للحكم في مثل هذه المسائل، تعين على تقليص احتمالات الخطأ الشخصي؟.

عكاظ العدد 2509 - 30 أبريل/2008   https://www.okaz.com.sa/article/181336
مقالات ذات علاقة
·          


رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...