‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفردانية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الفردانية. إظهار كافة الرسائل

03/01/2006

ان تكون عبدا لغيرك

كلنا يريد الحرية وكلنا يخاف منها.  نريد التحرر من سيطرة الاقوياء ومن الانظمة الضيقة النظر ، ونرى ان من حقنا ان نعيش كما نريد. لكن ، حين يأتي وقت التطبيق ، ولا سيما حين يمارس غيرنا حريته على نحو يخالف ما ألفناه وما نرغب فيه ، فاننا نشعر بالقلق وقد نكتشف في الحرية التي طالبنا بها ، جوانب مرعبة  تبرر لنا التراجع عن ذلك المطلب ، وربما التنازل عن حريتنا الخاصة.
نريد مثلا التمتع بحرية التعبير عن ارائنا من دون قيود. نريد ان يسمع الاخرون ما نقول في الصحافة والمجالس العامة والتلفزيون. لكن حين يأتي شخص آخر ويوجه الينا سهام نقده ، الى اشخاصنا او معتقداتنا او مواقفنا الاجتماعية ، فاننا ننظر اليه كتهديد ونتعامل مع ارائه كما لو كانت اعلان حرب. في حقيقة الامر فان ما فعله ذلك الشخص لم يكن سوى ممارسة لحق سبق لنا ان مارسناه او طالبنا به. 
بكلمة اخرى فان مشكلتنا مع الحرية تكمن في اننا نريدها لانفسنا فقط وليس لنا ولغيرنا في الوقت نفسه. يضيق شخص عادي مثلي بآراء الاخرين ويتمنى لو كان بيده القوة لمنع تلك الاراء البغيضة. ولو حصلت لي هذه القوة في يوم من الايام ، فلعلي لا اتردد في تحقيق تلك الامنية ، اي حرمان الغير من حرية التعبير عن ارائهم المزعجة. واذا لم تحصل لي تلك القوة ، فقد ابحث عن وسيلة اخرى مثل توجيه السباب الى ذلك الشخص واتهامه في دينه او اخلاقه او امانته او وطنيته ، على طريقة العربي القديم الذي لم يجد عزاء حين سرقت جماله سوى الشتيمة : "اوسعتهم سبا وراحوا بالابل".
ثمة اسباب متعددة لهذا السلوك الملتبس ، تاريخية واجتماعية وسياسية. ولعل ابرزها هو افتقار تراثنا الثقافي الى مفهوم يشبه مفهوم الحرية الذي نتداوله اليوم. وحسب تعبير آية الله شبستري ، الفقيه الايراني المعاصر ، فان مفاهيم مثل الحقوق الفردية والحريات المدنية ، هي جديدة تماما في ثقافتنا الدينية وقد اكتشفناها فقط حين اتصلنا مع الغرب[1]. صحيح انك قد تجد في تراثنا الديني اشارات الى حقوق طبيعية للانسان ، ومن بينها مثلا حرية اختيار دينه واختيار طريقته في الحياة. لكن هذه الاشارات لم تتحول الى فلسفة عامة في حياة المجتمع وفي علاقة الافراد مع بعضهم.
قامت فلسفة الحرية في الغرب على استقلال الفرد بنفسه ، وتحرره من تدخل أي طرف خارجي في صياغة حياته ، سواء كان عائلته او مجتمعه او حكومته. وقيل بناء عليه ان علاقة الفرد مع مجتمعه علاقة تعاقدية ، ومثل ذلك علاقة المجتمع مع الدولة. وعلى هذا الاساس جرى قصر تدخل المجتمع في حياة الفرد ، وتدخل الدولة في حياة المجتمع ، على الحد الادنى الذي يوافق عليه الفرد. 
ونتيجة لهذا ، اعتبر الدين والثقافة والسلوك الشخصي ونمط المعيشة ، امورا شخصية لا يحق للمجتمع او الدولة فرضها على الافراد. وذلك لان الافراد ارادوا ان يتحرروا من تدخل غيرهم في هذه الامور. ارادوا ان يعبدوا ربهم بالطريقة التي يرونها مناسبة ، وان يفكروا ويعبروا عن افكارهم الى المدى الذي تصله عقولهم ، وان يعيشوا حياتهم من دون انشغال بما يعجب فلانا او يرضي علانا. 
في حقيقة الامر فان الحياة والدين والثقافة لم تعد عبئا ثقيلا على الانسان ، بل ممارسة حرة مريحة. ولهذا فان المسلم الذي يعيش في الغرب ، لا يجد عسرا في التعبير عن دينه او رأيه ، او اختيار لباسه او نمط معيشته او العمل الذي يلائم خبراته.
اما في بلاد المسلمين ، فلا يستطيع المسلم ان يجاهر برأي يخالف الراي السائد ، او يلبس لباسا يخالف العرف السائد ، او يعمل عملا يخالف التنميط السائد. في نهاية المطاف فان حياة الانسان تتحول الى عبء عليه ، ولا بد ان يتكلف حتى يرضي الناس ويسلم من السنتهم او ردود فعلهم. الناس يريدونك ان تكون مثلهم ، تقول ما يقولون وتفعل ما يفعلون ، لان الجميع متفق على ان الفرد غير موجود ، واذا وجد فلا قيمة له ولا اعتبار. الجماعة هي الموجود الوحيد المعتبر ، وعلى كل فرد ان يذوب فيها او يعتزل.
نعود الى مقالة شبستري ، الذي يرى ان المسلمين قد تعارفوا على القبول بمفهوم الحقوق الفردية والحريات المدنية ، لان الفقهاء – بعضهم على الاقل – قد اقر بها ، فدخلت في النطاق المعرفي الديني وان لم يكن لها اصل راسخ في ماضيه. وهذا الاقرار يمثل خطوة اولى في طريق تحويلها من فكرة عامة غائمة الى اصل من اصول حياتنا وفلسفة تقوم عليها ثقافتنا ونظرتنا الى انفسنا والى الناس والعالم المحيط بنا. 
الحقوق الفردية والحريات المدنية تعني – في جانبها الفلسفي – ان كل انسان حر:  يولد حرا ويبقى حرا ، حرية لا يستطيع احد مهما بلغ شأنه ان يسلبها منه او يستنقصها او يحددها. هذه الحرية ليست فقط حرية الانسجام مع الاراء السائدة وانماط المعيشة المتعارفة ، بل هي في الاساس حرية اختيار هذه الاراء والانماط ، فلو اراد شخص ان يخالف المجتمع ، كأن يغير معتقداته ، او اراءه ، او انتماءه ، او طريقة حياته  ، فذلك كله حق طبيعي له.
لكل انسان الحق في اختيار الحرية او اختيار العبودية ، وبطبيعة الحال فان غالبية الناس يأبوا ان يكونوا عبيدا لغيرهم ، لكنهم يستمرئون العيش كأتباع ، تبعية لا تختلف – من حيث الجوهر – عن العبودية. وقد يرون في هذا القدر من العبودية راحة نفس او سعادة او مصلحة. هم احرار في ان يفعلوا هذا لانهم احرار في اختيار نوعية حياتهم ، وغيرهم – بنفس القدر - حر في مخالفة هذا السبيل ولنفس الاسباب. تلك هي اولا واخيرا فلسفة الحرية.

[1] محمد مجتهد شبستري: الديمقراطية كحاجة للحياة الدينية (2011) http://talsaif.blogspot.com/2011/10/blog-post_8707.html
   الايام - الاسبوع الاول من يناير 2006

مقالات ذات علاقة


 ان تكون عبدا لغيرك

08/05/2004

غلو .. ام بحث عن هوية

بعيدا عن التداول التعبوي للصحافة المحلية والتلفزيون ، الذي ينسب الحملة الارهابية التي تتعرض لها بلادنا الى "الغلو في الدين" ، فان النظر من زوايا اخرى ، قد يكشف ان الغلو ليس العلة التامة لهذه الحملة الاثيمة. نحن بحاجة الى تحليل العنف كظاهرة اجتماعية وليس الاكتفاء بتحديد المسؤولية.

التحليل هو الوسيلة الوحيدة لتحويل الواقعة من لغز الى معادلة قابلة للفحص.  الخطوة الاولى لفهم الظاهرة الاجتماعية ، هي تفكيكها ودراسة صور التفاعل بين اجزائها من جهة ، وبين كل منها والحراك الاجتماعي العام من جهة اخرى. مثل هذه الدراسة هي التي تخبرنا عن جذور الظاهرة في بنية المجتمع الثقافية والعلائقية. وهي التي تكشف ان كان الحدث مجرد دمل تفجر وانتهى امره ، او هو بداية لحراك اجتماعي اوسع. واخيرا فهي السبيل الوحيد لمعرفة اليات استمرار او افول الظاهرة المدروسة.

يلعب الدين كما هو معروف دورا ثنائيا في اضفاء القيمة على الفعل الانساني ، فهو يحتضن بعضها ويصنفها ضمن "المعروف" ويرفض الاخرى التي تصنف منكرا. تنزيل القيمة النظرية على الواقعة المحددة هو فعل الانسان. ولهذا تجد الناس يختلفون في تقييم عمل واحد ، فبعضهم يراه معروفا ويراه اخرون منكرا. وتطرح فكرة الغلو في الدين نفس الاشكالية ، فهي تقول – ضمنيا – ان ما رآه الارهابيون معروفا هو منكر في حقيقة الامر او في راي الاكثرية الغالبة.

والسؤال الذي تثيره هذه الفرضية: ما هي الاسباب التي تجعل هؤلاء او غيرهم ، يحملون القيمة النظرية على هذا المحمل دون العكس ؟. بكلمة اخرى لماذا يميل بعض الناس في بعض الأوقات ، الى الاخذ بتفسيرات ضيقة او متشددة او غريبة للنص الديني ، فينزلون القيمة المجردة على محمل خاص ، بينما يميل معظم الناس الى تفسيرات اخرى؟.

الاجابة على هذا السؤال ليست موجودة في القيمة الدينية ذاتها ، بل في عوامل اخرى دفعت الاشخاص المعنيين الى هذا السلوك دون غيره. ذهنية الانسان الفرد هي بمثابة مطبخ ترد اليه انواع من المدخلات بعضها يتلاشى حتى لا يكاد يظهر له اثر في الطبخة ، وبعضها يبقى محافظا على قوامه دون تغيير ، بينما تختلط العناصر الاخرى وتتفاعل فيما بينها لتظهر على صورة جديدة مختلفة عن كل واحد من مكوناتها الاولية. 

الاجابة موجودة في البيئة الاجتماعية التي يتعرف الانسان الفرد من خلالها على نفسه وموقعه من الغير ، اي هويته كفرد. هذه البيئة ليست صنيعة التوجيه الثقافي بل هي محصلة التفاعل الدائم بين مجموعة عوامل بعضها مرتبط بالثقافة وبعضها بعيد عنها. من بين تلك العوامل مثلا موقع البلاد ضمن خطوط الصراع السياسي الاقليمي او الدولي ، ومن بينها مخرجات الحراك الاقتصادي ، السلبية والايجابية.

لكن اهم ما ينبغي دراسته في رايي هو طبيعة الظرف الاجتماعي-الثقافي العام الذي تعيشه البلاد بعد ثلاثة عقود من بداية خطط التنمية. يولد النمو الاقتصادي الكثير من المخرجات الاجتماعية من خلال تغييره لمنظومات القيم وتوازنات القوة السائدة في المجتمع. المجتمع ليس مجموع الافراد بل نظام العلاقات السائد بين افراده والقيم الناظمة للفعل الفردي والجمعي. لقد انهار نظام المجتمع  القديم مع تقدم مشروع التنمية الاقتصادية ، فما هي طبيعة النظام الجديد الذي يفترض ان يحل محله فيلبي حاجة الفرد الى الانتماء او "الهوية"؟ هل نرى نظاما بالفعل ام حشودا من الناس تبحث عن نظام ؟.

السبت - 19/3/1425هـ ) الموافق  8 / مايو/ 2004  - العدد   1056
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/5/8/Art_103299.XML

27/03/2004

الليبرالية ليست خيارا

ثمة فوارق كثيرة بين الايديولوجيا الليبرالية ونظيرتها المحافظة او التقليدية ، في النظام السياسي الذي تدعو اليه كل منهما ، كما في الاقتصاد والفلسفة والمجتمع ..الخ . لكن الفارق الاساس – حسب ظني – هو في رؤية كل من المنهجين لموقع الفرد في الجماعة ، وعلاقته مع مكونات المجتمع الاخرى ، كالعائلة والسلطة والسوق والمدرسة وما الى ذلك.

هذا التصوير يقوم على فلسفة متعارضة تماما. في المنهج المحافظ تعتبر فكرة "الواجب" هي القاعدة الاساس التي يقوم عليها نظام القيم الاجتماعية. وترجع هذه الفكرة الى الفيلسوف اليوناني سقراط ، الذي قرر ان المدينة الفاضلة هي تلك التي "يقوم كل فرد من اعضائها بواجباته". وفي راي سقراط ان الحياة الاجتماعية هي منظومة واجبات متقابلة ، فاذا قام كل فرد بواجبه سارت حياة الجميع على اكمل وجه.

بينما يفترض المنهج الليبرالي ، ان الحياة الاجتماعية صنيعة مجموع ارادات الافراد الذين وجدوا مصلحتهم في العيش معا. وبالتالي فان منظومة القيم التي يقوم عليها السلوك الجمعي ، اي ما نصفه بالهوية الاجتماعية ، هي حصيلة اشتراك مجموع الافراد في تقرير ما هو اصلح لحياتهم.

قبل قيام النظام السياسي كان الناس يعيشون ما يصفه جون لوك بمجتمع الحالة الطبيعية ، حيث يحق للناس ان يفعلوا كل ما ارادوه ان لم يتعارض بشدة مع حقوق الغير.

النظام الاجتماعي اذن ليس بديلا عن مجتمع الحالة الطبيعية ، بل منظم للحرية الكاملة التي تسوده ، وبالتالي فان المجتمع الليبرالي ينظر الى الحريات الفردية كاصل في الحياة الاجتماعية ، كما ينظر الى الانظمة التي يسنها المجتمع كتقييدات على حرية الفرد.

يصنف المجتمع التقليدي الحقوق الفردية كاستثناء من القاعدة ، وعلى العكس من ذلك فان الحقوق والحريات في المجتمع الليبرالي هي الاصل بينما الواجبات هي الاستثناء . لكن لا ينبغي الظن بان المجتمع الاول عدو لحق الفرد ، او ان الثاني عدو للالتزام. في المجتمع التقليدي يحصل الفرد على حريته كمقابل لقيامه بالواجبات المفترضة ، اما في المجتمع الليبرالي فان اداء الواجبات يصنف في اطار المسؤولية التي تترتب على تمتع الفرد بحريته وحقوقه .

ينعكس هذا المعنى ايضا في الجدل بين الفرد والنظام الاجتماعي ، فالمجتمع الاول يميل الى فرض الزامات جديدة على الافراد ، الامر الذي يزيد تدخل السلطة في حياة الفرد ، ويتبع هذا تعدد الاجهزة الخاصة بالتوجية والرقابة والضبط وتضخم حجمها. بينما في المجتمع الثاني ينصب الجهد على تحجيم السلطة وكبح تدخلها في حياة الافراد. ومن هنا يزداد الميل الى تقليص الجهاز البيروقراطي وايكال امر التوجيه والرقابة للهيئات الاهلية التي لا تتمتع بسلطة الردع ، بينما تتخصص اجهزة الردع الرسمية في مكافحة الجريمة والعدوان.

ويبدو ان عالم اليوم يميل بمجمله الى الاخذ بالمنهج الليبرالي ، الذي اظهر – رغم المؤاخذات عليه – انه اقدر على توفير السلام الاجتماعي في المجتمعات المعقدة والكبيرة . يتباين هذا الميل العالمي من المستوى الاولي اي التخلي عن هيمنة الدولة على قطاعات الانتاج الصغيرة الى مستوى اوسع يتمثل في تخليها عن قطاع الخدمات العامة الكبير نسبيا – مثل التعليم والصحة والكهرباء والمواصلات- حتى يصل الى المستوى الاعلى ، اي التحول من فلسفة المجتمع العضوي الى المجتمع التعاقدي . والواضح ان اقطار الخليج العربية تتحرك بين المستويين المتوسط والاعلى ، والمؤمل ان تواصل تطورها في هذا الاتجاه .

يبدو ان التطور المشار اليه يتحقق بصورة طبيعية – وبطيئة الى حد ما - ، لكننا بحاجة في كل الاحوال الى وعي بحقيقة هذا التحول ومعرفة كافية بما يحتاجه وما يترتب عليه ، كي لا نفاجأ بانعكاسات التغيير قبل توقعها او الاستعداد لها. وفي ظني اننا بحاجة الى الكثير من المناقشات العامة لاستيضاح كيفية انعكاس التحول الجاري على ثقافتنا ونظامنا الاجتماعي ، ولا سيما على منظومات القيم والمؤسسات التي نريد الحفاظ عليها او تطويرها كي تناسب حياتنا الجديدة.

 

Okaz ( Saturday 27 March 2004 ) - ISSUE NO 1014 http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/3/27/Art_88261.XML



مقالات ذات علاقة 

22/01/1998

الانصاف ، لا شيء اكثر من الانصاف


قد يمكن الادعاء بأن تطور البشرية ، هو في حقيقته المحصلة المكثفة لمحاولات الافراد وابداعاتهم ، حيث لا يذكر التاريخ سوى مناسبات تعد على اصابع اليد ، قامت خلالها أمة من الامم او مجتمع من المجتمعات ، بصورة جماعية ، باستنباط نمط حياة جديدة ، أو انتخاب طريق جديدة للعمل خلاف ما اعتادت عليه .Standing Out From The Crowd
وفي جميع المناسبات الاخرى ، كانت مبادرات الافراد وكشوفاتهم هي الخطوة الاولى التي كشفت لمجتمعهم عن صورة مستقبل اجمل من حاضره ، وهي القاطرة التي عبروا على متنها حاجز الزمن ، فانتقلوا من عصورهم الى عصر اكثر تقدما واشراقا .
لكن هذاكان في نهاية المعاناة ، اما في البداية فقد غامر الافراد بنقد نظام ثقافي واجتماعي قائم ومتفق عليه ، واعتبر المجتمع هذا النقد تجسيدا لنوع من التمرد ، أو ـ في أحسن الحالات ـ ارادة للتمايز عن نظام الحياة الصحيح ، ولهذا فان المجتمع قد رمى اولئك الافراد ـ الا القليل منهم ـ بشتى التهم التي يختص بها المجتمع من يعارضه أو يتمرد على قيمه وانماط حياته ، ولهذا السبب فقد بقي الجدل محتدما ، حول مسألة العلاقة بين الفرد والمجتمع ، والتوازن الصحيح بين الطرفين ، التوازن الذي يكفل للمجتمع حقوقه كما يكفل حقوق الفرد ، ويبدو ان هذا الجدل سيستمر لأمد طويل قبل ان يجد نهايته الصحيحة ، وقد لا يجدها اطلاقا .
على ان القرن العشرين الذي نعيش أيامه الاخيرة ، قد شهد اعادة تعريف لهذه العلاقة ، بحيث يمكن القول ان الميزان قد اعتدل الى حد كبير ، وجرى الاعتراف بالفرد كذات مستقلة عن المجتمع ، له حقوق تتعلق به بذاته ، وبغض النظر عن انتمائه الى جماعة محددة او وراثته لهوية محددة ، ويبدو واضحا ان هذا التطور قد ترافق مع تقدم المجتمعات ، بحيث يمكن القول ان اكثر المجتمعات تقدما ، هي ـ في الوقت ذاته ـ اكثرها تقديرا لدور الفرد وذاته المستقلة ، فكأن هذا وذاك صنوان لا يفترق أحدهما عن الآخر ، أو ان كلا منهما مشروط بالآخر.
ويواجه مجتمعنا ـ مثل كل مجتمع آخر ـ ذات المسألة ، مما يفرض عليه البحث عن حل صحيح لها ، حل تفرضه حاجة المجتمع الماسة الى تجاوز نقاط التوقف والاعاقة ، التي نراها في كل مناسبة مانعا للانطلاق في طريق النهضة المنشودة .
ويظهر لي ان معظم الناس في مجتمعنا ، ان لم نقل كلهم ، يذهبون الى ترجيح كفة المجتمع ، واعتبار الجدل بين حقوقه وحقوق الفرد محسوما من الاساس لصالح المجتمع ، ولهم في هذا مبررات ، بينها ان المجتمع هو مجموع الافراد وان حسمها لصالح الجميع يعني اقرار حق كل فرد بمفرده ، لكن هذا تصور باطل ، فالمجموع له صورة خاصة ، كما لكل فرد صورة خاصة مختلفة ، ولا ينتج من الصورة المركبة من مجموع الافراد المستقلين صورة المجتمع ، كما ان صورة المجتمع لا يمكن تقسيمها الى صور متعددة ، لكي تناسب كل فرد ، ان صورة الجماعة ليست تركيبا لمجموع صور الافراد .
يريد الفرد ان يعبّر عن ذاته ، وان يقول رأيه في العلن ، يريد ان يختار نظام حياته الذي يتوصل اليه بعقله ، والذي يجد فيه مصلحته ، يريد ان يجد نفسه قادرا على تلمس قدراته وامكانياته ، واستثمارها في ابداع ما لم يكن معتادا أو معروفا في وسطه الاجتماعي ، ويريد المجتمع من كل عضو فيه ان يتماثل مع البقية وان يخضع للنظام الثقافي وهيكل العلاقات والتراتبية السائدة ، وهو يضع الزامات محمية بقوة (العيب) وأحيانا بقوة (القانون) توجب على كل فرد الانصياع والا واجه العقاب .
من أجل هذا امتنع كثير من المبدعين عن قول رأيهم ، او التعبير عن اراداتهم ، ومن أجل هذا نام الكثيرون على وجع الحرمان من اقتـناص فرصهم بعدما وجدوها قاب قوسين أو ادنى من اطراف ايديهم ، ومن أجل هذا حرم المجتمع نفسه من ابداع المبدعين ، والكشوف الجديدة التي ربما توصل اليها أهل الكشف ، وهم لا يوجدون في المجتمع الواحد الا كنوادر ، يعدون على اصابع اليد .
يحترم المجتمع المتقدم نفسه ، كما يحترم كل عضو فيه بمفرده ، فاذا جاء زيد بجديد فانه لا يسأل عن نسبه ، ولا يسأل عن لقبه ، ولا يسأل عن الاطار الذي ينتمي اليه ، أما المجتمع المتخلف فانه لا ينظر في الجديد ، بل ينظر الى صاحبه ، فهو ابن فلان ، وليس فلانا ، وقد ينشغل بهوية الرجل وانتمائه الاجتماعي وأصله وفصله ، عن الجديد الذي جاء به ، فيضيع بهاء هذا في ظلمة ذاك ، بدل ان يبدد البهاء حلكة الظلمة ، وعلى أي حال فان الظلمة قد لا تكون سوى اعتبارات لا أساس لها ، غير ما قرره المجتمع أو اراده اولو الحول والطول من ابناء المجتمع ، واني لأرى رجالا ونساء حرموا من ان يخدموا وطنهم ، لا لشيء غير هويتهم التي رأى بعض من يقرر ، انها مريبة او انها غير محبوبة ، واني لأرى رجالا ونساء انكمشوا على انفسهم واستعاضوا بالحلم عن الحقيقة ، بعد ان وجدوا ما يبدعون غير ذي قيمة في عيون مجتمعهم ، وأرى اناسا اختاروا لشجيرات ابداعهم ان تزهروتثمر في الحقول البعيدة ، بعد ان ضاق عليهم بستان الأهل ، على ان هذا البستان ما يزال في معظمه بائرا أو قليل الشجر يحتاج لكل نبتة ولو صغيرة .
ما يريده الانسان الفرد هو الانصاف ، ولا شيء أكثر من الانصاف ، والانصاف هو ان ينظر الى عمل الفرد لا الى هويته ونسبه ومكان عيشه واطاره الاجتماعي ، والانصاف هو ان لا يؤاخذ الفرد بجريرة أبيه او ابناء قبيلته او أهله ، والانصاف أخيرا ان لا يوضع فرد او مجموعة من الافراد في دائرة الشك والاتهام لانهم يحملون فكرة لا نرضاها ، أو يسعون الى طريقة حياة لا نرتاح لها .
اين هي المشكلة يا ترى ؟
أهي في الافراد الذين يجبنون عن التعبير عن ذاتهم خشية غضب من يخاف غضبهم ، أم هي في الذين يعرفون الحقيقة لكنهم يجبنون عن الوقوف الى جانبها وتحمل مراراتها ، أم هي في المجتمع الذي يستريح الى كل ما هو قائم وينفر من كل جديد ؟ .
لا ندري ، ما ندريه هو ان اعطاء الفرد حقه في التعبير عما يشاء ، ولو كان مخالفا للسائد والمتفق عليه ، هو السبيل الى كشف المستقبل ، وهو الخط الواصل بينه وبين الحاضر ، فاذا قطعناه لأي سبب من الاسباب ، فقد انقطعنا عن المستقبل ، وحصرنا انفسنا بين جدران الحاضر ، الذي يشي بصورة الماضي بقدر ما يمهد لذلك المستقبل .
المجتمع المتوازن ، مثل الشخص المتوازن ، هو الذي لا يسجن نفسه في دائرة الخوف من الجديد ، الجديد في الافكار والجديد في التصورات وفي انماط وسبل الحياة ، كما لا ينساق ـ دون تأمل ـ وراء دواعي الرجاء ، فهو في حياته يخاف بقدر ما يرجو ، ويرجو بقدر ما يخاف ، فاذا اختل الميزان لصالح الخوف ، اصبح عصيا على كل تجديد ، واذا اختل لصالح الرجاء اصبح مقودا بالنزق منساقا وراء كل ناعق .
عكاظ 22 يناير 1998
مقالات ذات علاقة

الحق أولا

الحداثة كمحرك للتشدد الديني

عن العالم المحبوب

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

طريق التقاليد

الطريق الليبرالي

تكون الهوية الفردية

عن الهوية والمجتمع



28/11/1994

فضائل القـرية وحقائق المدينة


في منتصف السبعينات دعا الرئيس المصري الراحل انور السادات الى ما اسماه بالعودة الى اخلاق القرية ، وعزز هذه الدعوة بوضع عدد من التنظيمات التي تحقق هذا الغرض ، من ضمنها القانون المشهور باسم (قانون العيب) الذي الغي قبل اسابيع ، وقد قيل في تبرير هذه الدعوة ، بانه ثمة حاجة الى التصدي للتراجع المتفاقم في الاخلاقيات العامة ، الناتج عن انهيار الضوابط الاجتماعية التي يتمتع بها مجتمع القرية .

وتكشف هذه الدعوة والكثير من المقالات ، التي تنشرها الصحف حول فضائل القرية وفضائل الماضي ، عن الفزع الذي ينتاب كثيرا من الناس ، ازاء شيوع النزعة المادية وثقافة الاستهلاك في المجتمع المديني ، حيث اصبحت المعنويات والفضائل المتفق عليها ، مجرد حكايات للتفاخر او الذكرى ، تكافح ببسالة للحفاظ على ما تبقى لها من مواقع  في ميدان الحياة العملية .

لكن ـ مع هذا ـ لم يتوقع احد ان تحظى هذه الدعوة بنصيب من النجاح ، بل وصمت بانها مجرد تغطية لموقف غير عادل تجاه القوى الاجتماعية المدينية المعارضة لسياسات الرئيس .

اتجاه الهجرة
 والحق ان قليلا جدا من الناس في العالم العربي ـ ممن عاشوا حياة المدينة ـ يرغب في العودة الى القرية ـ كمكان او كأسلوب حياة ـ على الرغم من توافق الاكثرية على ان اخلاقياتها ، ماتزال اكثر استقامة من اخلاقيات المدينة ، وعلاقاتها الاجتماعية ماتزال اكثر دفئا .

ويمكن الاستدلال على هذا الاتجاه بالتضخم المضطرد ، في عدد المهاجرين القرويين الى المدن في معظم الاقطار العربية ، مما ادى الى تضخم مواز في حجم معظم المدن الرئيسية ، يقابله انكماش للريف ، وصل في بعض الحالات الى تفريغ قرى بأكملها من السكان ، وفي مثال ملفت للنظر نشرت صحيفة محلية في الاسبوع المنصرم ، اعلانا اصدرته بلدية احدى القرى ، يطلب من بعض الاشخاص ازالة بيوت لهم مهددة بالانهيار ، بعد تركها خالية لسنين طويلة ، الملفت في هذا الاعلان هو قول البلدية بان مناشدتها لهؤلاء الاشخاص على وجه التحديد ، اعتمد على شهادة اهل الخبرة بانهم يملكون تلك البيوت ، وتضمن الاعلان قائمة باسماء الملاك المشهود لهم ، اضافة الى مساكن وصفت بانها مجهولة المالك ، ويشير هذا الى التغير الكبير الذي طرأ على وضع القرية ، بسبب هجرة معظم سكانها ، بحيث اصبحوا منسيين من جانب الاخرين الذين فضلوا البقاء فيها ، الامر الذي ينطوي على مفارقة مثيرة .

وراء الدفء
ان عدم الرغبة في العودة الى القرية ، مبرر عند معظم المهاجرين ، بان المقارنة بينها وبين المدينة  ـ كموضوع اجتماعي ـ يتجاوز موضوع الاخلاقيات ، ويتجاوز العلاقات الدافئة الى فلسفة الاخلاق وارضية العلاقات الاجتماعية ، التي فيها من الفضائل بقدر مافيها من المعوقات ، بحيث يمكن القول ان النهوض الذي شهده العالم العربي في النصف الثاني من القرن العشرين ، ترافق مع نقلة في الحياة الاجتماعية لمعظم العرب ، ابرز عناوينها هو التحول من حياة القرية ـ كظرف اجتماعي وثقافة ـ الى حياة المدينة ، بكل ماتتضمنه هذه من عناصر افتراق عن سابقتها .

ويبدو لي ان معظم الذين انتقلوا بين المكانين ، انما كانوا يسعون الى القبض على فرصتهم في الحياة ، فرصتهم الفردية التي تتيحها لهم كفاءتهم وطموحاتهم الى حياة ارقى واكمل ، ان سعة افق المدينة وتنوع مجتمعها ، وما يستتبعه من تعدد الفرص فيها ، هو المبرر الرئيسي لصيرورتها محلا لتحقيق الآمال .

الفرد والجماعة
ان مكانة الفرد هي ابرز الامثلة التي تجسد الفارق بين القرية والمدينة ، فالفرد في القرية منسوب ـ في اغلب الحالات ـ الى عائلته أو قبيلته ، اي الى هوية يرثها ، وعليها يتقرر مكانه الاجتماعي ، بخلاف المدينة التي تقيم الاعتبار الاكبر لانجاز الفرد ذاته ، ويعني ذلك ان الفرصة الحقيقية للتعبير عن الطموح عند عامة الناس ، انما توجد في المدينة ، حيث يتاح للفرد ـ بغض النظر عن موروثه ـ ان يعبر عن نفسه وكفاءته ، وحيث يكون هذا سبيلا لنيل المكانة التي يطمح الى تحقيقها على الصعيد الاجتماعي .
ان دفء العلاقات القروية ، وقوة النظام الاخلاقي فيها ، يعبر ـ ضمنيا ـ عن صورة من صور السلطة الاجتماعية ، التي تستثمر في احيان كثيرة للتسلط على الفرد ، ويتجسد هذا التسلط على صورة (العيب) الذي يقابل كل خروج ـ ولو جزئي ومحدود ـ على مجموعة الاعراف والتقاليد ، التي يتسالم عليها المجتمع القروي.

وتلعب الاعراف والعادات دور الاطار الذي يطبق ضمنه هذا النظام ، وفي ظروف التطور الاجتماعي ، فان هذه العادات تلعب دورا فعالا ، في اعاقة محاولات التكيف الفردي مع متطلبات التطور ، ذلك ان بعضها ، بل جلها في الحقيقة ، تبلور كاستجابة لظروف مرت على المجتمع في وقت من الاوقات ، ظروف تتعلق بمعيشته او بأمنه الداخلي ، لكن تلك الاعراف  تجردت ـ بمرور الزمن ـ عن الظروف التي نشأت في ظلها ، واصبحت مطلقة تطبق باعتبارها قيمة مستقلة ولازمة من لوازم الحياة الاجتماعية ، تقوم بدور المنظم  والضابط لسلوك الافراد واختياراتهم .

مكان الجماعة
مجتمع القرية اذن هو مكان الجماعة ، وهو تجسيد لحاكمية الجماعة على الفرد ، حيث فرصته للتعبير عن ذاته ، مرهونة بتوافقه التام مع ارادة الجماعة ، وحيث ارادته ذائبة فيها والا فهي مقموعة ، بخلاف المدينة التي لاتوجد فيها جماعة  ـ بالمعنى القروي ـ لكي تكون فيها ارادة جماعية حاكمة ، اي ان الفرد متحرر من الضوابط الاجتماعية غير المحمية بالقانون ، فالطريق مفتوح امامه للكفاح في سبيل فرصة الحياة ، التي يتمناها ويطمح الى نيلها .

على ان لهذا التباين بين قوة الجماعة وقوة الفرد ، في مجتمع القرية فضيلة ليست قليلة الاهمية ، هي التكافل والتضامن بين ابناء المجتمع الواحد او القبيلة الواحدة ، حيث يشعر الفرد بانه ـ في صراعه مع متطلبات الحياة ـ ليس نبتا صحروايا يجاهد وحيدا للبقاء منتصب القامة ، فثمة من اهله وعشيرته من يستطيع دعمه واسناده عندما يحتاج .

 وقد جرى تطوير هذه الفضيلة على يد المهاجرين الى المدن ، على صورة عرف يقضي بان كلا منهم مسئول بدرجة او بأخرى ، عن مساعدة ابناء جماعته على النجاح في حياتهم الجديدة .
على ان لهذه الممارسة الفاضلة وجهها السلبي ، اذا استعملت كوسيلة للاستئثار ، شأنها في ذلك  شأن معظم الممارسات الاجتماعية ، التي هي في الاساس فضائل ، لكنها لاتخلو ـ اذا استعملت في غير محلها ـ من الاشكالات ، لكن دعنا نوكل الحديث عن هذا الجانب الى مقالة أخرى قادمة .
نشر في (اليوم ) 28نوفمبر 1994

مقالات ذات علاقة 
المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد ؟
اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...