‏إظهار الرسائل ذات التسميات الشيعة في السعودية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الشيعة في السعودية. إظهار كافة الرسائل

25/09/2011

الهوية السياسية للشيعة: من الانكفاء الى البراغماتية

تعالج هذه المقالة ما يعتقده الكاتب من تحول عميق في رؤية الشيعة العرب لانفسهم كفاعلين في المجال السياسي ، ولاسيما خلال العقود الثلاثة الاخيرة. وتبدا بعرض تعريفي مختصر للثقافة السياسية وموضوعها، ثم تعرض المصادر الاصلية لثقافة الشيعة السياسية وتاثيرها في تشكيل ما يسميه "الثقافة الاقلاوية". ثم تعرض ابرز التطورات السياسية التي ساهمت في تفكيك هذا النمط الثقافي ، وآذنت بالانتقال من حالة الانكفاء والسلبية الى التفاعل وسيادة السلوك البراغماتي.

المحتوى الثقافي للهوية السياسية  

مواقفنا من القضايا السياسية تتشكل غالبا على ضوء رؤيتنا العامة لانفسنا كفاعلين في السياسة وفهمنا لطبيعة العلاقة بيننا وبين المحيط الذي تجري فيه تلك المسألة. ثقافة الفرد في تعريفها الموسع هي الخلفية الذهنية التي تشكل رؤيته للعالم ، وافعاله او ردود فعله ، وتصوراته عن الاشخاص والاشياء. ويظهر تاثير الثقافة – او الذهنية كما يصفها بعض الباحثين – في كل جانب من جوانب حياة الفرد ، سيما تلك التي تنطوي على علاقة بينه وبين الاخرين . الجانب السياسي من الثقافة يؤثر خصوصا في موقف الفرد تجاه المجال العام الذي يظهر فيه تاثير للدولة او بعض اجهزتها ، وكذلك القوى الاهلية التي تمارس نوعا من السلطة او تسعى اليها. ذهنية الفرد او ثقافته ليست صندوقا مغلقا ، فهي تغير بمرور الزمن ، واختلاف ظروف الحياة التي يعيشها. ربما يعي الفرد تحولاته الذهنية ، اي يستوعب حقيقة انه يمر بتحولات في تفكيره وشخصيته ، وقد تحدث من دون ان يعيها ، او على الاقل ، من دون ان يلاحظ تاثيرها في وقت حدوثه. نقول عادة ان شخصية فلان قد تغيرت ، ونقصد في حقيقة الامر ان صفاته الشخصية او سلوكه اصبح متفاوتا عما كان عليه قبل زمن محدد. كما نصف تغير سلوكيات شرائح اجتماعية او مواقف مجتمع باكمله بنفس  الطريقة. فنقول انه اصبح اكثر براغماتية او اكثر تشددا في مواقفه او تعاطيه مع قضايا معينة.
ثقافتنا السياسية هي التي تقرر اذن سلوكنا ازاء النظام السياسي وفهمنا لانفسنا ودورنا ضمن الحياة العامة[1]. تتشكل الثقافة السياسية لمجتمع معين بتاثير عوامل عديدة من بينها التقاليد والقيم ، الذاكرة التاريخية ، الهموم والتطلعات والدوافع ، واخيرا الاحاسيس اي مصادر الفرح والالم ، والتصويرات الرمزية لمجموع هذه العوامل. يتجسد تاثير هذه العوامل في ثلاثة جوانب[2] :
أ‌-        ذهني : معرفة الافراد ووعيهم بالنظام السياسي ،
ب‌-     شعوري : الموقف العاطفي تجاه النظام ،
ت‌-    قيمي : كيف يحكم الافراد على النظام.
تؤثر الثقافة السياسية في علاقة اعضاء المجتمع بحكومتهم. صورة الدولة في اذهانهم هي التي تحدد كيفية فهمهم لها (حكومة تمثلنا او حكومة تسيطر علينا) ، مشاعرهم تجاهها (حب او كره ، تعاطف او ارتياب) ، وتقييمهم لادائها (دون المتوقع او مطابق له او افضل منه ، مساعد لمصالح الجماعة او معيق الخ).
في دراستهما الهامة The Civic Culture ، قسم الموند وفيربا الثقافة السياسية الى ثلاثة انماط: ثقافة مشاركة ، ثقافة منفعلة ، وثقافة انعزالية. بعبارة اخرى فان مواقف المجتمعات وسلوكها السياسي يتسم بواحد من هذه السمات:
** ثمة مجتمعات تتفاعل مع فعل الدولة والقوى السياسية الاخرى: تستقبل تاثيراتها وتسعى ايضا للتاثير عليها. لانها تنظر الى نفسها كجزء من العملية السياسية القائمة ، كفاعل قادرعلى المشاركة والتاثير .
** وثمة مجتمعات تعي وجود الدولة او القوى السياسية الاخرى وتتلقى تاثيراتها لكن رد فعلها فاتر ، او ربما معدوم. فهي لا ترى نفسها قادرة على الفعل والتأثير ، او انها لا تعتبر الدولة قابلة للتاثر بنشاط الجماعة.
** واخيرا فهناك المجتمعات التي لا تشكل الدولة او قوى التاثير الاخرى جزءا نشطا من وعيها ازاء ظواهر الحياة الاخرى. انها بعبارة اخرى لا تعي وجودها كفاعل سياسي ، ولا تعي الطبيعة السياسية للدولة او القوى الشبيهة.
بكلام اجمالي يمكن القول ان الثقافة السياسية في مجتمعات الشرق الاوسط كانت – حتى وقت قريب - تتراوح بين النمطين الاول والثاني: المشاركة والانفعال ، مع غلبة ظاهرة للنمط الثاني. لكن المنطقة تشهد في السنوات الاخيرة تحولا عاما نحو ثقافة المشاركة. وتعزز هذا الميل مع انتشار وسائل الاعلام والاتصال ولا سيما قنوات التلفزيون الفضائية والانترنت خلال السنوات الاخيرة من القرن المنصرم. انعكس هذا التحول على صورة اهتمام متزايد بالسياسة بين الاجيال الجديدة ، خلافا للمفهوم القديم الذي يعتبر السياسة شأنا خاصا بالنخبة الحاكمة ، وهو المفهوم الذي يلخصه التعبير الشعبي السائد في الجزيرة العربية "الشيوخ ابخص=الزعماء اعرف". الثورات الشعبية التي اندلعت في العالم العربي منذ نهاية 2010 تشير الى تصاعد في ايمان عامة الناس بانهم قادرون على تغيير واقعهم من خلال فعلهم الفردي او الجمعي الذي يتجلى بشكل محدد في الضغط على الدولة القائمة لتغيير اشخاصها او سياساتها.
رغم ان الثقافة السياسية ليست – اجمالا- من الحقول الجذابة للباحثين في العلوم السياسية ، الا ان السنوات الاخيرة شهدت اهتماما متزايدا بهذا الحقل ، ولا سيما في دراسة التحولات السياسية والاجتماعية في الشرق الاوسط[3]. ما يهمنا في هذا المجال هو عملية توليد وتحول الثقافة السياسية في مجتمع الاقلية: كيف تؤثر في مواقفها تجاه المحيط ، وكيف تتغير بفعل التحولات السياسية والاقتصادية التي تحدث خارج اطارها. دراسة هذا الجانب ضرورية لفهم دوافع ومعاني الحراك الداخلي لمجتمع الاقلية.  وبالنسبة للاقليات التي تميزها عن الاكثرية عوامل ثقافية بحتة ، كما هو الحال عند الشيعة السعوديين ، فان التغير في هذه العوامل يلعب دورا محوريا في واقعها وموقفها السياسي.

الثقافة السياسية للشيعة

ناقشنا في مقالة سابقة عملية تشكل الهوية السياسية ، واشرنا عند ذاك الى ان هوية الجماعة هي احد تمظهرات تجربتها الثقافية. كما اشرنا الى ان الهوية تتشكل في سياق تفاعل الجماعة مع الظروف التي تحيط بها سلبيا او ايجابيا. الموقف الايجابي للدولة والقوى المهيمنة تجاه الجماعة يؤدي الى تبلور ميول براغماتية تصالحية. كما ان الموقف السلبي او العدواني يحرك ردود فعل سلبية ، نشطة على شكل تمرد، او فاترة على شكل انكفاء واعتزال. بديهي ان الجماعة التي تتعرض للامتهان، سوف يتراوح رد فعلها بين الميل للاستسلام والتخلي عن العوامل التي تميزها عن الاخرين ، وصولا الى الذوبان في الجماعة الاكبر ، وبين تحويل تلك العوامل الى رموز للمقاومة ، بالاصرار عليها واحيانا المبالغة في تضخيم قيمتها ، حتى تتحول الى محاور رئيسية للحياة اليومية ، او مضمونا لشريحة واسعة من النشاطات الحيوية للجماعة. بخلاف المجموعات التي تعامل بصورة منصفة وايجابية ، فانها تميل لتنحية عوامل التمايز والتفارق ، وتحرص على ابراز عوامل التشابه ، كما تتعزز بين افرادها الرغبة في الاندماج في المحيط.
تعالج هذه المقالة  ما حدث خلال الثلاثين عاما الاخيرة من تغيير جوهري في الثقافة السياسية للمجتمع الشيعي. وهو يظهر انه قد تحول من حالة الانكفاء واعتزال السياسة (قبل 1979) الى التمرد والفاعلية الشديدة (بين 1979-1990) ثم الميل الى البراغماتية (بعد 1990) واخيرا البراغماتية السياسية (بعد 2003). نعرف ان هذا التغيير قد حصل من مقارنة الفعل او رد الفعل السياسي للتيار العام في المجتمع الشيعي بين الفترات المذكورة. ونعرف من تحليل هذا التغيير واستقراء ما رافقه من تعبيرات فكرية ان عوامل التغيير كانت خارجية بالدرجة الاولى. لكنها ترافقت مع ، واثمرت عن ، تغييرات في ذهنية الجماعة الشيعية وفي تفكيرها.
في الصفحات التالية سوف نقدم خلفية عن الظروف التاريخية التي تشكلت في اطارها الثقافة السياسية للشيعة ، بدءا من المرحلة التاسيسية ، كما نمر على بعض ابرز التطورات التي جرت خلال العقود الثلاثة الاخيرة . ويكشف هذا العرض عن الترابط بين اتجاهات الثقافة – وبالتالي معرفة الذات او الهوية – وبين التحولات الجارية في المحيط ، ولا سيما دخول المجتمعات الشيعية في مسارات العملية السياسية على المستوى الوطني لكل بلد من البلدان التي ينتمون اليها.

المرحلة التاسيسية : بيت الاحزان

اختار المفكر الالماني هاينز هالم هذا العنوان (بيت الاحزان) للفصل الثاني من كتابه "التشيع من الدين الى الثورة". لم اكن قد رايت هذا التعبير في اي كتاب غربي قبل ذلك. ولهذا شدني بقوة حين رأيته للمرة الاولى في احدى مكتبات جامعة لندن خلال عملي في الابحاث التمهيدية لكتابي الذي صدر لاحقا بعنوان "نظرية السلطة في الفقه الشيعي". ربما لا يبتعد ذلك التعبير كثيرا عن المعنى الذي يشير اليه كتاب ابي الفرج الاصفهاني "مقاتل الطالبيين" ، الذي يلخص هو الاخر تاريخا طويلا من العذاب والالم ، اختصت به ذرية علي بن ابي طالب ومن تبعها من المسلمين. ذاك العنوان ، مثل هذا ، يلخص جانبا هاما من الثقافة الشيعية التاريخية ، الثقافة المليئة بالالم والتعبير عن الالم.
ولد التشيع في رحم المعاناة، وبقي كذلك حتى وقت قريب. ظهر كتيار سياسي يتمحور حول معارضة النظام السياسي الاموي. لكنه تخلى عن هذا النشاط بحثا عن الخلاص من الاضطهاد المزمن ، حين تحول على يد الامام السادس جعفر الصادق (702-765م) الى مدرسة عقيدية وفقهية تركز على البناء الثقافي الداخلي للجماعة بعيدا عن السياسة وتقلباتها . لم يعترف الصادق ولا اتباعه بشرعية الحكم القائم ، لكنهم ايضا لم يهتموا بمعارضته . بدلا من ذلك طوروا مفهوما للشرعية السياسية ، أدى – وظيفيا – الى تفريغ فكرة الزعامة من المحتوى السياسي وحصرها في البعد الروحي . القائد الشرعي حسب الرؤية الجديدة هو الامام او الزعيم الديني الذي ينحصر دوره في توفير التعليمات الدينية ورعاية الاتباع في هذا الاطار . من ينتمي الى المدرسة الجديدة فعليه الابتعاد عن السياسة: لا يجوز له العمل مع الحكومة القائمة على نحو يعزز سلطانها او يرسخ شرعيتها ، كما لا يجوز له الخروج عليها[4]. لم يكن من السهل على معظم الشيعة قبول هذه المعادلة في تلك الحقبة المشحونة بالصراع. لكن الذين تقبلوها وجدوها مبررة بعدما رأوا ان الوصول الى السلطة او المشاركة فيها لا يمثل فرصة قائمة او احتمالا جديا[5].
ثمة ما يشبه الاتفاق على أن المذاهب الفقهية والعقيدية والطوائف الدينية، بأشكالها التي نعرفها اليوم لم تكن موجودة في عصور الإسلام الأولى. وقد شهد التاريخ الطويل للأمة الإسلامية ظهور العديد من المدارس في الفقه والعقيدة والفلسفة. اندثر كثير منها خلال فترات الصراع ، وحافظ البعض الاخر على وجوده ضمن الاطار المدرسي ، اما الاكثر حظا فقد نجح في التمدد خارج هذا الاطار ، وتحول إلى جماعة متمايزة. وأرجع عدد من المؤرخين ظهور الفرق الدينية في الإسلام إلى القمع السياسي. التيارات التي بدأت كموقف سياسي تحولت بالتدريج إلى فرق دينية فراراً من بطش الدولة .[6]
تعدد المذاهب والمدارس الفكرية والكلامية كان – في جانب منه - انعكاساً لانفتاح المسلمين على العلوم الانسانية بعدما توسعوا خارج حدود الجزيرة العربية واتصلوا بالأقوام الأخرى. وكان في الجانب الاخر انعكاساً لارتقاء البنية الاجتماعية من الصورة البدوية القديمة إلى الصورة الحضرية أو شبه الحضرية، وما جاء في سياقه من تطور في العلم والثقافة ونظم المصالح. بعض الاتجاهات حظي برعاية الدولة وبعضها الاخر تعرض للقمع. لكن معظمها واصل العمل ، نشطا في بعض الاحيان وفاترا في احيان اخرى . وربما اضطر الى الانتقال من المراكز الى الاطراف بحثا عن الامان.
في منتصف القرن الثامن الميلادي ، وهي الحقبة التي شهدت انهيار الدولة الاموية وقيام الدولة العباسية ، تحول عدد من التيارات السياسية إلى مذاهب في الفقه أو العقيدة. وتبلور هذا الاتجاه بصورة أوضح في العصر العباسي. رغم أن السمات السياسية بقيت أكثر وضوحاً من الدينية، وبالتالي فإن تصنيف المذاهب والفرق كان أقرب إلى السياسي منه إلى الديني. واستمر هذا الحال حتى القرن العاشر الميلادي، حين حسم زعماء الفرق أمرهم باتجاه التخلي عن الربط بين المذهب والموقف السياسي لمعتنقيه. وعندئذ ظهر النموذج الأكثر اكتمالاً للمذهب الديني الخالص، الذي يضم بالإضافة إلى المدرسة الفقهية، منظومة آراء خاصة في الاعتقاد، وقدراً من التشكل الاجتماعي متمايزاً من الآخرين. وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من المراجع الرئيسة في الفقه والعقيدة لمختلف المذاهب الدينية، ترجع إلى تلك الحقبة وما بعدها، وتحديداً بين القرن العاشر والثاني عشر الميلادي.
تبلور المذهب الشيعي الامامي على يد الامام جعفر الصادق ، وتحولت مدرسته الفقهية والعقيدية إلى قاعدة لنظام اجتماعي جديد ، له نظام قيمي وعلائقي، متمايز عما سواه. و قامت في ظله فلسفة حياة خاصة وفولكلور - ثقافة شعبية- ونظام مصالح مستقل على النمط الريفي الذي يقرن بين الرابطة المذهبية والانتماء العائلي/ القبلي ، أو على النمط المدني الذي يعتبر المذهب محور الرابطة الاجتماعية.
ادى قيام هذه المدرسة الى تكريس الانقسام داخل الجماعة الشيعية بين تيار اكثرية  يركز على السياسة ، وتيار اقلية قرر اعتزالها. البديل السياسي الذي اتخذه التيار الاخير هو فكرة المهدوية التي تقول بان العالم سيشهد في اخر الزمان ظهور المهدي المنتظر ، الذي "سيملأ الارض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا". وحتى ذلك الوقت فان التمرد على الحكومات القائمة ليس محبذا او مبررا من الناحية الدينية. طالما كان قيام الحكومة العـادلة مستحيلا ، فان السعي اليها عبث ورمي للنفس في التهلكة[7]. ولو كان الأمر غير هذا لظهر الامام الغائب وقام بالأمر بنفسه[8].  فما دام غائبا ، فان التفكير أو النقاش في السياسة يبقى بلا طائل.
لعل اعتزال السياسة هو الذي مكن المدرسة الشيعية الجديدة من الاستمرار والتوسع . فبينما تعرضت بقية الاتجاهات ، لا سيما الزيدية والاسماعيلية وعشرات المجموعات الاخرى ، للقمع والتفكيك بفعل انخراطها المزمن في الصراعات السياسية ، ركز قادة المدرسة الجديدة على البناء العلمي والتربوي للجماعة ، التي تحولت بالتدريج الى التيار الرئيسي في التشيع ، وهي تعرف اليوم بالشيعة الامامية الاثني عشرية.

انعكاسات التجربة التاريخية على الثقافة السياسية

الثقافة السياسية للاقلية ، او "الثقافة الاقلاوية" كما سنسميها لاحقا ، هي مفهوم سيكولوجي يشير الى نظام ثقافي فرعي وظيفته الاساسية هي حماية الرابطة الداخلية التي تجمع اعضاء الاقلية. قد يبدو هذا النظام مستغربا وغير ذي معنى عند الاخرين ، لا سيما الاكثرية او الجماعات المناوئة ، لكنه - عند اصحابه - ضروري لبقاء الجماعة واحتفاظها بخصوصياتها الثقافية.  لا يمكن التوصل الى تقييم منصف للثقافة الاقلاوية دون الاخذ بعين الاعتبار العوامل التي جعلتها حاجة او ضرورة لتلك الجماعة. توفرت في السنوات الاخيرة فرصة لعرض التقاليد الثقافية الشيعية على قنوات التلفزيون ، وقد اثارت  في اول الامر استغراب ، وربما استهجان المشاهدين الذين يتعرفون عليها للمرة الاولى. مشاهد مسيرات العزاء الضخمة ، ولطم الصدور وادماء الرؤوس ، والمشي عشرات الاميال لزيارة مشاهد الائمة في مناسبات مثل عاشوراء واربعين الامام الحسين ، وكذلك مجالس الدعاء والذكر التي يؤمها عشرات الالاف ، والمكانة الاستثنائية التي يحظى بها رجال الدين والخطباء بين الجمهور ، وغيرها من الاعراف التي تعد ضمن الخصوصيات الثقافية والدينية للشيعة ، كانت بالنسبة للاخرين مدهشة لغرابتها وصعوبة تفسيرها كممارسة مفردة. ومال بعض رجال الدين لاسيما غير الشيعة الى وصم هذه الممارسات بالبدعة ، وحاول بعضهم البحث عن تفسير من نوع ان الشيعة يقومون بها كتكفير عن عدم نصرتهم للامام الحسين وأهل البيت حين قاتلهم الامويون ، الى غير ذلك من التفسيرات. لكن كما اشرت سلفا ، فان النظر اليها من هذه الزوايا لن يقود الى فهم صحيح ولا تقييم منصف. وعلى اي حال فان "الثقافة الاقلاوية" تتمتع بمخزون سجالي فعال ، ولذا فهي قادرة دوما على مجادلة النقد الخارجي ، فضلا عن انها لا تعبأ كثيرا بتفسيرات الاخرين او تقييماتهم.
من المفهوم أن الجماعات المتمايزة، ولا سيما تلك التي تقوم في سياق هروبي (خوفاً من القمع مثلاً) تطور خطاباً داخليا يمارس وظيفة حمائية. فهو يعظم من القيمة المعنوية للداخل ، ويبالغ في تحقير القيمة المعنوية لكل ما هو خارج النظام. كما يتضمن منظومة متكاملة من الإشكالات الفرضية والرد عليها، هي أشبه بدليل عملي للسجال مع الغير. ومن البديهي أن يعمل النظام على استثمار عناصر التراث والتجربة التاريخية المشتركة مع الغير أداة في السجال، وذلك بإعادة تفسيرها على نحو يخدم النظام ويدعم موقفه في الصراع. وبحسب الاستاذ ولي نصر، فإن الجماعات الدينية التي قامت في العالم الإسلامي في القرون الاخيرة ، لم تنكر التراث الذي يجمعها مع البيئة التي انشقت عليها، بل أعادت تفسيره على نحو يجعله مصدر تسويغ لخطابها. يمكن تطبيق هذا التفسير من دون تحفظ على قيام وتبلور الاتجاهات السياسية/ المذهبية، أو المذهبية البحتة، في القرون الماضية . فالمذاهب التي تشكلت في القرون المختلفة لم تنكر التراث الاسلامي المشترك ، بل وضعه كل منها في اطار ايديولوجي/تفسيري محدد ، بحيث يخدم دعاواها الخاصة ضد دعاوى المنافسين. ومن هنا فان التراث المشترك الذي  يمكن ان يتخذ - ضمن قراءة توحيدية - ارضية للتقارب ، تحول فعليا – بسبب القراءة الطائفية - إلى مبرر للتمايز وعامل للافتراق.
بعبارة موجزة فإن سياق تبلور الجماعة السياسية/ المذهبية أو المذهبية البحتة - سواء كانت أقلية أم أكثرية - يقود عادة إلى إنشاء إطار ثقافي - حياتي جديد متمايز بالضرورة، بل ومعارض في بعض الاحيان ، لكل ما هو خارجها. وتتحول المكونات الثقافية لهذا الإطار ، إلى وسيلة لبناء خلفية ذهنية خاصة ، تجمع بين أعضاء الجماعة ، وتقيم - في الوقت ذاته - جداراً بينهم وبين من هم خارجها.
في ظل التمايز المشار إليه، فإن النقاش بين المنتمين للجماعات/ المذاهب المختلفة لا يعود مثمراً أو مفيداً ولا يؤدي إلى زيادة العلم أو التقارب. لأن الذين يدخلون السجال لا يستهدفون اكتشاف الحقيقة أو التعارف أو التفاهم، بل يستهدفون فقط وفقط إفحام المنافسين أو على أقل التقادير الدفاع عن الذات.  
يتجلى هذا الموقف بصورة أكبر حين يبدأ كل طرف في الإعلان عن حدوده باعتبارها أيضاً حدود الحقيقة وحدود الحق الذي يعني بالضرورة تصنيف خارج الجماعة باعتباره موطناً للزيف أو الباطل. تجد هذا التصنيف في كثير من الادبيات الاسلامية القديمة والمعاصرة ، ويندر ان يخلو مذهب اسلامي من تصنيف من هذا النوع .

"الثقافة الاقلاوية" كاساس للتفكير في السياسة

رغم الحضور الكبير نسبيا للهم السياسي في التراث الشيعي، الا ان التعبير عن هذا الهم اتخذ - في معظم الاحيان -  شكل الاحتفاء الفولكلوري بما جرى في قديم الزمان ، كما يتمظهر عادة في طريقة الاحتفال بذكرى عاشوراء. اما السياسة في معناها الفعلي ، فلم تعد هما يوميا. بل ان الثقافة الشيعية العامة تحولت الى طارد للسياسة الواقعية ومنكر لممارستها. وجرى التنظير لهذا الموقف في اطار مفاهيم شبه صوفية ، تربط بين السياسة وسوءات الدنيا. فالمهتمون بالسياسة يوصمون بالاقبال على الدنيا، والمقبلون على الدنيا لن تكون قلوبهم ونفوسهم خالصة الايمان.
 يظهر هذا بشكل واضح في تحديد قيمة الزعيم. فالرجل المؤهل لقيادة المجتمع ينبغي – طبقا للتقاليد السائدة – ان يكون دارسا للشريعة متكرسا لعلوم الدين ، مقبلا على الاخرة، تاركا للدنيا. وهو يصبح مستحقا للزعامة اذا بلغ درجة من الكمال النفسي يحرره من ضغوط الدنيا والمال والسلطان، ويمكنه من كبح شهواته ورغباته وميوله المادية، حتى يخلص عقله وقلبه وعمله اليومي لمهمته الدينية . الربط بين تحرر الانسان self-mastery وبين الكمال الذاتيself-perfection  بالمعنى السابق مشهور جدا في تراث الاديان والمذاهب الروحية وبين قدامى الفلاسفة[9]. وقد تبناه علماء الشيعة واصبح عنصرا بارزا في تحديد الاهلية للقيادة وفي التوجيه الديني على حد سواء.
 كما امتد تاثيره الى الثقافة السياسية للمجتمع الشيعي على شكل انكار وتهوين لقيمة السياسة والعمل فيها ، وحث على الابتعاد عنها. بعبارة اخرى فقد وضعت القيمة السياسية في مقابل القيمة الدينية، كلما تقدمت واحدة تراجعت الاخرى. الفقيه البعيد عن السياسة ومجادلاتها وصراعاتها هو المثال الاعلى الذي يجسد صفاء الايمان وطهارة النفس واخلاص العمل. لهذا السبب فان الكتب الدينية التي طبعت قبل 1979 تخلو غالبا من اي اشارة الى الواقع السياسي او الاحكام الدينية التي تنظم علاقة المؤمن بالدولة. ولنفس السبب فان الفقهاء الذين وجدوا فائدة في نسج علاقة من نوع ما مع السلطة القائمة، او اضطرتهم الظروف الى ذلك، حاولوا جهدهم ابقاء هذه العلاقة معزولة عن مسار عملهم العام وعلاقتهم باتباعهم. غياب الهم السياسي بمعنى التعاطي مع العالم الواقعي المتغير هو الذي يفسر اهمال البحوث الفقهية بشكل كامل للتجارب السياسية حتى تلك التي كان الفقهاء جزءا منها ، موالين او معارضين.
تتسم السياسة بكونها عالما دائم التغير. لا شيء اقوى دلالة على الطبيعة المتغيرة للحياة والزمن مثل السياسة. مرت على الجماعة الشيعية منذ بداياتها ظروف ظاغطة تعرضت اثناءها للقمع والاذلال . كما مرت ظروف اخرى كشفت عن فرص لتغيير الاحوال. هذه الفرص المساعدة وفرت مبررات اضافية لاولئك الساخطين على استمرار التهميش كي يرفعوا اصواتهم ضد التصوير الايديولوجي القديم والمتحجر ، الذي يعتبر كل مسعى في الاتجاه السياسي عبثيا وانتحاريا او عونا للتسلط والطغيان. ولهذا السبب تحديدا ظهرت خلال اوقات متفرقة من تاريخ الشيعة دعوات لتجاوز المفهوم القديم للسياسة والسلطة ، والمشاركة فيها حيثما امكن.
لذا يمكن القول ان ابرز محطات التطور في المعرفة الدينية في الاطار الشيعي ، وبالخصوص محاولات الاصلاح الفكري ، كان باعثها الرئيس هو ظهور فرص للمشاركة السياسية. بعبارة اخرى فان التراث الديني كان يلعب دور التجميد وتثبيت الارث والاستمرار ، بينما كانت السياسة ، تلعب دور الضاغط من اجل الانفتاح والتحرر من الجمود الموورث. وتدل ابحاث اجراها الكاتب في هذا المجال على ان ابرز المبادرات الاصلاحية في الثقافة الشيعية ، قام بها زعماء يحملون توجهات سياسية او طموحات سياسية.
الاعتزال المزمن للسياسة جعل التشيع رجعيا وانعزاليا . بينما ساعدت المبادرات السياسية القليلة نسبيا على اطلاق توجهات اصلاحية في كل الجوانب ، بما فيها التفكير الفقهي والعقيدي ، فضلا عن الموقف من المحيط. الملاحظة الجديرة بالاهتمام هنا هي ان تاثير السياسة على ثقافة الجماعة الشيعية لم يتولد عن تحولات داخل الجماعة ، بل كانت انعكاسا لتغير الظرف السياسي المحيط بها . اي انه كان استجابة او رد فعل على الظرف السياسي. وهذا يساعد على الاستنتاج بان اتجاه الشيعة للانغلاق والتشدد الايديولوجي كان - في معظم الحالات - رد فعل على ظروف سياسية عسيرة . كما ان اتجاههم للاصلاح والانفتاح ونقد الذات كان انعكاسا لتحسن الظرف السياسي الذي يعيشونه.
شهد تاريخ الشيعة تجارب سياسية هامة ، شملت تشكيل حكومات . من بينها دولة البويهيين في العراق (1020-1055م) ، والفاطميين في شمال افريقيا (909-1171م)، والحمدانيين في سوريا (890-1004م)، والعيونيين في هجر (1076-1238م) ، فضلا عن الدولة الصفوية (1501-1785م) التي تحولت ايران في ظلها الى التشيع الامامي. كما كان للعلماء والجمهور دور محوري في صراعات سياسية رئيسية . من بينها موقفهم في مواجهة الغزو الروسي في القرن التاسع عشر . ودورهم القيادي في انتفاضة التنباك (1891)، ثم الثورة الدستورية (1905) ، وفي ثورة العشرين ضد الاحتلال الانكليزي للعراق عام 1920 . فضلا عن مشاركة بعضهم في حركة تاميم النفط في ايران عام 1953. شارك الجمهور الشيعي في جميع هذه التجارب. وشارك علماء الدين في بعضها ، رغم انهم لم ينخرطوا بشكل مباشر في العمل السياسي اليومي ، ولا استثمروا مشاركتهم كمنطلق لدور ثابت في الحياة السياسية في المراحل التالية. واظن ان اعراضهم عن هذا ، قد كرس المفهوم القديم الذي يفصل بين السياسة والدين ، ويرجع كلا منهما الى عالم اخلاقي وقيمي مختلف عن الاخر او متعارض معه. وهذا من ابرز المشكلات التي عانى منها التفكير الديني الشيعي حتى وقت قريب.
انتقال التشيع من تيار سياسي الى مدرسة فقهية وعقيدية تنكر السياسة في القرن الثامن الميلادي ، اثمر عن تصنيف السياسة كعمل دنيوي جارح لورع المؤمن وصفاء نفسه ، وفرض شروطا شبه مستحيلة لاصلاحها وتقريبها من القيم الدينية. ابرز هذه الشروط هي كون الامام المعصوم رئيسا للدولة. ولما كان هذا الامر غير متيسر في الظروف الاعتيادية ، وهو لم يتيسر فعلا خلال الحقب التاريخية التي تلت تبني هذا المنظور ، فقد انتهى الامر الى قيام ثنائية الامامة/الغصب ، التي تعني ان اي حكومة لا يرأسها الامام فهي غاصبة للحق وغير مشروعة. التطبيق العملي لهذه القاعدة هو ان جميع الحكومات القائمة او التي ستقوم مستقبلا فاقدة للشرعية. صحيح ان العلماء قد توصلوا – في الازمنة التالية - الى بعض القواعد التي تسوغ مشاركة افراد الشيعة في الحكومات المصنفة كغاصبة ، الا ان هذا التسويغ لم يجر كقاعدة عامة في قياس مشروعية الحكم ، بل صنف كتطبيق فرعي لمبدأ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر كما عند الشيخ المفيد (ت- 1022م) [10]، او كوسيلة لتلافي الضرر الاكبر كما رأى البحراني[11] ، او كعمل مستقل عن المسار العام للحكم غير المشروع كما عند الحلبي[12] وابن ادريس[13]
اقول ان التعديلات المذكورة بقيت اشبه بقواعد العمل المؤقتة. ولم تتحول الى نظرية عامة في التعامل مع السلطة او في بيان مشروعيتها. وهذا واضح من حقيقة  ان ايا من التجارب السياسية التي شارك فيها العلماء او كانوا شهودا عليها ، لم يحظ ولو باشارة في مجال التنظير العقيدي او الاستدلال الفقهي ، حتى المتعلق منه بمسألة الولاية او العمل مع السلطان. في الجانب المعمق من البحوث الفقهية الذي يدرس للمختصين في الشريعة (وهو ما يسمى بالفقه الاستدلالي) ، تبحث العلاقة مع الدولة ضمن باب خاص يسمى "عمل السلطان" او "الولاية من قبل الجائر". يقدم هذا الباب العلاقة مع الدولة باعتبارها حالة من حالات الاضطرار التي تحكمها التعليمات الخاصة بظروف الاضطرار ، لا علاقة طبيعية او ضرورية بين مواطن في بلد وبين حكومته. موقف المؤمن هنا موقف شخص منفعل ، متاثر ، خاضع لظرف غير مرغوب ، لا موقف شخص مشارك وفاعل ومريد للاصلاح والتغيير.  والطريف في الامر ان الموضوع المحوري في معظم هذه المباحث هو حكم التعاملات المالية في اطار العلاقة مع الجائر ، سيما ما يكسبه الانسان من مال مقابل هذا العمل. اما الولاية بذاتها – خصوصا ما يخرج عن عنوان الولاية العامة - فجرى بحثها كتفريع عن حرمة المكاسب او حليتها.

من الانكفاء الى المعارضة الجذرية

عصر يوم من ايام يوليو 1978 كنت اقدم القهوة لعدد من رجال الدين والوجهاء الذين قدموا لتهنئة خالي الشيخ بسلامة الوصول من النجف الاشرف. كان الحديث يدور كالعادة حول ذكريات الحضور في النجف ، فمعظمهم عاش فيها سنوات من عمره. تطفلت على الحديث واخبرتهم ان ايران تشهد تظاهرات وان عددا من الناس قد قتل في مدينة تبريز الشمالية. سكت الجميع ، ساد صمت لفترة وجيزة ، قبل ان يقطعه قاضي المنطقة بجملة في صيغة حكم: "اذا ذهب الشاه سياتي الطوفان وما بعد الشاه الا الشيطان" . لم يعلق احد على قول الشيخ عدا رجل واحد وجه سؤالا الى الجميع : لماذا لا يقوم علماء الدين بدور سياسي شبيه بالذي نسمع عنه في ايران ؟. اجاب الخال الشيخ بنبرة دفاعية : هناك من يحتذي دور الحسين ، اي المعارضة العنيفة ، وهناك من يحتذي دور الحسن ، اي المسالمة. وكان يشير بالتاكيد الى ان الثاني هو خيارهم.
لو سمعت ما سيقوله الحاضرون بعد سبعة اشهر ، فلن تصدق انهم كانوا يفكرون بتلك الطريقة . قبل انتصار الثورة الايرانية كانت النخبة الشيعية – لا سيما خارج ايران - متشككة في ان هذه الثورة ستقود الى انتصار ، او انها ستحقق اي فوائد. كانت الفكرة الثابتة عند الشيعة العرب ، ولا سيما النخبة الدينية ، تميل الى ان التمرد لا يقود لسوى تعميق التصدعات الاجتماعية والمزيد من المشاكل ، فضلا عن كونه غير مبرر او مشروع من الناحية الدينية. اما بعد انتصار الثورة فقد تحول كل رجل دين الى مشروع زعيم سياسي . حدث هذا التحول خلال اسبوعين ، هي الفترة الفاصلة بين خروج الشاه من ايران  في 16 يناير ، واعلان اية الله الخميني تشكيل حكومة الثورة في مقبرة الزهراء جنوب طهران في اول فبراير 1979.
لعل الصبغة الدينية لهذه الثورة هي التي حولتها الى نقطة اتحاد لهموم الجميع. مشاركة الزعماء الدينيين كانت على الدوام عنصر قوة في الحركات السياسية الشيعية ، رغم انها لم توفق جميعا ، او لم يكن لها ذات البريق الذي رافق ثورة 1979. في بداية القرن العشرين وفي منتصفه كانت الصبغة الدينية واضحة في حركة المعارضة ضد الحكم القاجاري ثم البهلوي في ايران. وفي 1974 اطلق الامام موسى الصدر "حركة المحرومين" كاول تنظيم سياسي يحمل هموم الشيعة اللبنانيين ويسعى الى فرضها على النظام السياسي الطائفي. قبل انتصار الثورة الايرانية ووجهت جميع الحركات الدينية بمعارضة من المجتمع الديني الذي وجد فيها خرقا لتقاليد الاعتزال الراسخة في التراث. لكن للانتصار الف اب والهزيمة تبحث عن اب كما يقولون . انتصار الثورة الايرانية حول المفاهيم التي جاء بها الخميني الى مسلمات لا يجادل فيها احد.
يميل بعض المحللين الى الاعتقاد بان الهموم الاجتماعية – الاقتصادية كانت هي العامل الثابت وراء الحراك  السياسي عند الشيعة طوال القرن العشرين بمجمله. ومنذ بدايات حركة التحرر العربية بعيد الحرب العالمية الثانية ، التحق جميع الناشطين، شيعة وسنة بالتنظيمات اليسارية ، مركزين على تطبيقات التحرر والعدالة الاجتماعية كايديولوجيا عامة مستقلة عن الارضية الدينية او المذهبية. في العقد السابع من القرن العشرين ، بدأ الجمهور الشيعي يميل الى تكوين حركته السياسية الخاصة. ظهور تنظيمات مثل منظمة مجاهدي خلق الايرانية وحزب الدعوة ومنظمة العمل الاسلامي العراقيتين ، وحركة المحرومين اللبنانية في سبعينات القرن العشرين ، قد يكون دليلا على هذا المنحى. ويستنتج  اصحاب هذه الرؤية ان الثورة الايرانية مثلت ذروة الحركية الشيعية وليس بدايتها[14].
واميل شخصيا الى الاعتقاد بان التشيع الحركي اتخذ بعد الثورة الاسلامية الايرانية نسقا جديدا يختلف تماما عن المراحل السابقة. في الخمسينات والستينات لم يكن التشيع ، كمذهب او كجماعة سياسية ، عنصرا مهما في الحراك السياسي. لان الدين والتنظيم الاجتماعي لم يكن عنصرا مؤثرا في النسق paradigm الايديولوجي والسياسي السائد  يومئذ ، ولا سيما بين التيارات غير التقليدية[15]. لكن هذا الحال تغير بعد النهوض الديني الذي برزت معالمه في اوائل السبعينات ، ودخل منعطفا هاما بعد انتصار العرب على اسرائيل في حرب رمضان (اكتوبر 1973). اشتداد الميل الى التعبير الديني عن المطالب السياسية خلال هذه الحقبة ، دفع الجميع الى استنهاض ما لديهم من تراث نهضوي – ديني خصوصا – كي يستعمل وقودا للحراك الجديد. كان هذا بداية لنسق جديد وصل الى ذروته في نهاية السبعينات ، حين تحولت الظاهرة التي عرفت بالصحوة الاسلامية الى حركة شعبية سياسية تسعى لاسلمة الحياة العامة في العالم العربي والاسلامي كله.
اهتم الحركيون الشيعة باعادة تفسير التراث الديني على نحو يخدم اغراض الصراع السياسي ويسهم في تعبئة الجمهور. وقد استند اية الله الخميني الى تفسيرات جديدة للتراث الشيعي منقطعة تماما عن المفاهيم القديمة التي بررت لحالة الانكفاء واعتزال الحياة السياسية. واجرى – في هذا السياق - سلسلة من التعديلات ، طالت جوانب اساسية من العقيدة والفقه الشيعي التقليدي. من بينها مثلا فصله بين التطبيقات السياسية التي اعتبرها مسائل عقلية وظرفية ، وبين فكرة المهدوية وانتظار الامام ، التي اعتبرها امرا غيبيا لا يفترض ان تبنى عليه مفاهيم سياسية. ومنها فصله بين فكرة الامامة وعدالة السلطة ، وبين عون الظالم الذي يحرمه الفقهاء والمشاركة السياسية التي يمكن ان تقود الى فرض العدالة ، واخيرا ربطه بين شرعية السلطة وبين مشاركة الشعب من خلال الانتخابات العامة[16]. وقد لاحظ اية الله شبستري ان دستور الجمهورية الاسلامية الذي دعمه الخميني ، قدم للفكر الديني عددا كبيرا من المفاهيم الجديدة عليه مثل : حقوق الشعب ، سيادة الامة ، الحريات العامة ، الفصل بين السلطات ، الخ . بل ان مفهوم "الشعب" هو الاخر حديث الظهور في الثقافة الاسلامية ولا توجد له سوابق في التراث. ان تاييد الفقهاء لهذه المفاهيم يمثل مبادرة غير مسبوقة في التراث الديني[17].
كثير من المفاهيم الرائجة اليوم بين الشيعة لم تكن مقبولة عندهم قبل 1979. فكرة المشاركة في السياسة في ظل حكومات مختلطة او ناقصة الشرعية مثلا ، بل حتى السلطة التي يراسها فقيه كما هو الحال في ايران ، لم تكن هي الاخرى مقبولة الا عند اقلية من الفقهاء يعدون على اصابع اليد الواحدة. اما الاكثرية فكانت تتمسك بان مقعد السلطة العليا محجوز للامام المعصوم وليس لاحد اخر ايا كان.
لم تغير الثورة الايرانية توازنات القوى في الشرق الاوسط فحسب ، بل احدثت تحولا عميقا في الهوية السياسية للشيعة ، نال بصورة خاصة رؤيتهم لذاتهم ومحيطهم السياسي وتطلعاتهم . تحول المجتمع الشيعي من مجتمع يميل الى الانفعال والسلبية الى مجتمع متفاعل وطالب للمشاركة. وبدأ يفهم السياسة والسلطة كعالم متغير ، يمكن ان تتولد فيه فرص جديرة بالاهتمام ، بعدما بقي قرونا طويلة متحجرا على ثنائية الامامة والغصب القديمة . بعد 1979 اصبح الكلام في السياسة والتفكير في السياسة انشغالا يوميا لكل شيعي في هذه المنطقة . وخلال السنوات الخمس التالية شهدنا ولادة العشرات من التنظيمات الصغيرة التي تسعى لتعبئة الجمهور وراء مطالب سياسية. القاسم المشترك بينها جميعا هو قيامها على تبريرات دينية ، او استعمالها لغة تعبوية مستمدة من التراث الديني .
اتسم عمل المنظمات السياسية الشيعية خلال الفترة المذكورة بطابع ثوري شديد التمسك بالمفاهيم الايديولوجية الخاصة: حزب الوحدة في افغانستان ، مثل منظمة العمل الاسلامي ، وحزب الدعوة في العراق ، وحزب الله في لبنان ، ومنظمة الثورة الاسلامية في السعودية ، والجبهة الاسلامية لتحرير البحرين ، وبقية المنظمات التي ولدت او عادت الى الحياة السياسية بعد 1979 ، حملت جميعا شعارات التغيير الجذري ، واعلنت تناقضها التام مع حكومات بلدانها، كما ادانت كل اتصال او مساومة مع تلك الحكومات. لكن عداءها لم يقتصر على حكومات بلدانها ، بل اعتبرت النظام الدولي بمجمله معاديا ومؤسسا على قيم نقيضة. واتخذ جميعها هدفا مركزيا وحيدا هو التغيير الجذري والشامل، اي اسقاط الانظمة القائمة واقامة بديل اسلامي على انقاضها.
يمكن تفسير هذا الاتجاه على ضوء الطابع الديني لتلك المجموعات ، او كانعكاس للانطباع العام المتولد عن انتصار الثورة الايرانية ، التي كانت هي الاخرى جذرية وتغييرية . او يمكن اعتبارها انعكاسا لحداثة التجربة السياسية ، ليس فقط لمؤسسي تلك المنظمات بل لبيئتها الاجتماعية ككل. لكني اميل الى تفسيرها كانعكاس للثقافة الاقلاوية. وهذا ينطبق حتى في البلدان التي يشكل الشيعة اكثرية سكانها. هيمنة العنصر الديني على مركب الثقافة السياسية حددت وجهة دينية للنظر في الذات والمحيط. ولهذا لم ينظر الشيعة الى انفسهم كمجموعة اثنية في اطار اوطانهم ، بل كمدرسة دينية ذات مذهب متمايز ضمن الاطار الواسع للامة الاسلامية ككل ، وفي هذا الاطار ، فانهم بالتاكيد ليسوا سوى اقلية عددية وسياسية معا.
يضاف الى ذلك ، ان تعرض الشيعة للعزل السياسي والاضطهاد في بلدانهم – بما فيها تلك التي يشكلون اكثرية سكانها - قد همش في نفوسهم مفهوم الوطن الذي يعبر عن حالة سياسية وقانونية ، ابرز تجسيداتها المساواة والحماية القانونية للحريات الشخصية والمدنية. "الثقافة الاقلاوية" هي شكل من اشكال الثقافة السياسية التي تكونت بتاثير العزل والاحباط الناتج عن عدم المساواة . وهي تتسم بكونها دفاعية تركز على حماية الذات. كما تنطوي على ارتياب في الجديد والغريب والمختلف. وتميل الى الانكماش على الذات والمحافظة على الخصوصيات الثقافية والسلوكية في مجتمعات غير مختلطة. انها اذن – من حيث الواقع اقرب الى النمط الاول من انماط الثقافة السياسية (المشاركة والتفاعل) ، لكنها من حيث الوظيفة اقرب الى الثاني (المنفعل والسلبي). ولهذا فاني اميل الى اعتبارها مرحلة انتقالية يتجلى فيها تحول تدريجي من النمط الثاني الى الاول.  

من الجذرية الى البراغماتية: صدمة 2003

رغم اتفاق الجماعات الشيعية على استحالة نسخ التجربة الثورية الايرانية وتطبيقها في الدول الاخرى، الا انها نسخت ما هو اكثر من التجربة: الافكار، الاستراتيجيات، معايير الصداقة والعداوة، وحتى الهموم والمواقف اليومية واحيانا المصطلحات. من ذلك مثلا موقف الجماعات الشيعية من النظام الدولي ومؤسساته . وكذلك العلاقة مع دول العالم ، لا سيما تلك المؤثرة في مناطق عملها. اتخذت الثورة الايرانية موقفا معاديا للولايات المتحدة الامريكية وغرب اوربا ، ووصمت الاولى بصفة "الشيطان الاكبر". كما ان علاقتها مع دول الجوار لم تبدأ في التحسن الا بعد نهاية الحرب مع العراق في 1988.
يمكن تفسير هذا الموقف على ضوء التاريخ المرير للايرانيين مع واشنطن وحلفائها ، او موقفها الفعلي من الثورة . لكن لا بد ايضا من الاشارة الى قلق المؤامرة الراسخ في الثقافة السياسية الايرانية، وهو قلق قديم يستند الى تاريخ طويل من العداوة بين ايران وجيرانها ، وبينها وبين الدول العظمى. منذ القرن السادس عشر تعرضت ايران لغزوات متكررة من جيرانها واحتلت عاصمتها ثلاث مرات على الاقل (1514 ، 1722 ، 1943) ، كما سلخت اقاليمها الشمالية والشرقية والجنوبية . خلال النصف الاول من القرن العشرين كانت بريطانيا والولايات المتحدة تتحكم في القرار السياسي ، وتشكل الحكومات وتعزلها ، كما لو ان ايران ولاية تابعة لها. وقد ترك هذا السلوك تاثيرا عميقا على رؤية الايرانيين لمحيطهم وعلاقتهم مع العالم، جرى تعزيزه بعد الثورة بطابع ايديولوجي ديني. وقد اظهر بحث سريع على الانترنت اجراه كاتب هذه السطور ، ان لفظ "توطئه" ، وهو المعادل الفارسي لتعبير "مؤامرة" ، قد ورد في اكثر من نصف مليون صفحة الكترونية نشر معظمها خلال عام واحد (مارس 2008- فبراير 2009). كما ان بحثا عشوائيا على الصحافة اليومية الايرانية خلال  اربعة اسابيع (اوائل 2009)، اظهر ان التعبير قد استعمل مرة واحدة على الاقل يوميا في كل صحيفة من تلك الصحف، الامر الذي يكشف عن انتشار الفكرة في الثقافة الايرانية المعاصرة، رغم ان المنشور منها على الانترنت يشكل جزءا صغيرا نسبيا من الثقافة العامة للمجتمع.
القلق من وجود مؤامرة معادية هو احد بواعث التفكير الدوغمائي في السياسة. وهو ايضا دافع من دوافع السياسات المتشددة تجاه الغير وتجاه الداخل على حد سواء. بالنسبة للمجتمعات التي ترى نفسها أقلية ، فان فكرة كهذه ستجد ارضية خصبة. ذلك ان كل اقلية تشعر – بشكل طبيعي– بالقلق ازاء الخارج. سيما اذا كانت ثقافتها السياسية تتسم في الاصل بالانفعال والسلبية.
رغم ان الولايات المتحدة قد خذلت العراقيين حين انتفضوا ضد نظام صدام حسين في مارس 1991، الا ان سياستها التالية ، ولا سيما بعد 11 سبتمبر 2001 ، مهدت الطريق امام تحول كبير في الظرف السياسي للشيعة وموقعهم ضمن المعادلات القائمة في المنطقة والعالم . وبلغ هذا التحول ذروته في ربيع 2003 حين دخلت القوات الامريكية بغداد ، واطاحت بحكم الرئيس صدام حسين. مثل ثورة ايران ، فان غزو العراق لم يغير الخريطة السياسية للمنطقة فحسب ، بل ادى ايضا الى فتح الباب امام تحول رئيسي آخر في ثقافة الشيعة ، في العراق وخارج العراق. امريكا ، الشيطان الاكبر الافتراضي ، ارسلت رجالها لتحطيم الشيطان الاصغر الفعلي الذي جرع الشيعة مرارة الذل ، والذي فشلت كل محاولة بذلوها لاسقاطه او حتى لتخفيف طغيانه. لم يتوقع الشيعة ابدا ان تتوافق مصالحهم يوما مع مصلحة عدوهم الافتراضي، لكن هذا حصل فعلا ، فوجدوا انفسهم امام مفارقة يستحيل تفسيرها في اطار الدوغما القديمة ، الامر الذي فتح الباب لصعود الفهم السياسي للسياسة ، اي فهمها كعالم متغير موضوعه الاساس هو المصالح وليس الافكار.
شكل الغزو الامريكي للعراق ذروة لتحول في التوجهات السياسية للنخبة الشيعية ، بدأ في 1988 حين وافقت ايران على وقف الحرب مع العراق "من اجل الحفاظ على الثورة" و "اعادة الاعمار" ، في اشارة الى تقديم الاولويات الوطنية الايرانية على الاهداف الدينية التي تتجاوز الجغرافيا والحدود السياسية . وقد جرى تبرير هذا التحول باشكال شتى ، مثلما فعل اية الله املي في وقت لاحق: "الدولة الاسلامية ليست مسؤولة عن اصلاح العالم الا اذا ظهر صاحب العصر [الامام المهدي المنتظر]. يجب ان تركز الحكومة اهتمامها على بناء البلاد واصلاحها ، وعلى المصالح العامة لمواطنيها" [18]. اتجاه الايرانيين الى التركيز على الداخل، دفع بالعديد من قادة المجموعات الشيعية الى مراجعة متبنياتهم السياسية السابقة. وظهرت اولى صور التحول في توجهاتهم بمغادرة كثير منهم للاراضي الايرانية الى اوربا ، بحثا عن فرص اكبر للتاثير في بلدانهم. وتصاعد هذا الاتجاه بعد الغزو العراقي للكويت اواخر 1990 ، حين شعر الشيعة الخليجيون بان مشكلتهم الكبرى لم تعد محصورة في التمييز الطائفي الذي يعانون منه ، بقدر ما تتمثل في احتمال ضياع وطنهم كله كما حصل للكويتيين . هذا الشعور عزز مصداقية تلك الشريحة من النخبة الشيعية التي كانت قد بدأت تدعو فعليا لتفكير براغماتي في السياسة ، بدل الجمود على المقولات الايديولوجية ، التي ظهر عجزها عن تفسير التحولات السريعة والعميقة في العالم المحيط بهم.
اما بعد دخول القوات الامريكية الى العراق في 2003 فقد كان نخبة الشيعة وعامتهم ، لا سيما في العراق ، مستعدين تماما لتناسي المقولات القديمة ، والدخول في تحالف سياسي مع الولايات المتحدة الامريكية، شانهم في ذلك شأن مواطنيهم الاخرين ، السنة العرب والاكراد، الذين كانوا قد تبنوا المعارضة ضد نظام صدام حسين. دخل الشيعة العراقيون في لعبة السياسة بكل طاقتهم. وتناسوا كليا ونهائيا تراثا ضخما يدعم موقف الاعتزال والقلق من الخارج . ويحرم العمل في سلطة لا يرأسها امام معصوم او حتى نائب عن الامام . اختار العراقيون طريق الحداثة السياسية فذهبوا فورا الى انتخابات عامة . وساهموا في وضع دستور جديد ينص صراحة على منع اصدار اي قانون او تبني سياسة تتعارض مع الحريات العامة او تضيق مساحتها. ورغم الموقف الايجابي الذي اتخذه الزعماء الدينيون ، لا سيما المرجع الاعلى اية الله السيستاني ، الا ان الجميع – بما فيهم هؤلاء الزعماء انفسهم – اصر على ان يتولى المدنيون السلطة وان يكون الشعب المصدر الوحيد للشرعية السياسية.
هذه التحولات ، بدءا من الاصرار الشديد على المشاركة السياسية ، والدخول في مساومات مع المنافسين ، والتاكيد على الدولة المدنية والحداثة السياسية ، مرورا بالتاكيد على المفاهيم الجديدة في الدولة ، وانتهاء باختيار التحالفات الدولية ، تشير جميعا الى ثقافة سياسية جديدة تترسخ بالتدريج بين الشيعة العراقيين . لكن الامر لا يتوقف هنا ، فالشيعة الاخرون في العالم العربي بدأوا يفكرون الان بطريقة مشابهة ، ويتحدثون عن المشاركة السياسية والتنافس الديمقراطي وصيانة حقوق الانسان باعتبارها متبنياتهم الرئيسية . لا تسمع  اليوم بين الشيعة من يتحدث عن تغيير جذري ، ولا تسمع من يفكر في "جمهورية اسلامية" ثانية على النمط الايراني . من المحتمل ان اختيار هذا الاتجاه جاء نتيجة للعجز عن تحقيق هدف التغيير الجذري. لكن مهما كان السبب ، فان الاجماع على هذا الخيار ، بين النخبة والعامة يشير ، مثل خيار الاعتزال في الماضي ، الى تحول جديد في الثقافة السياسية باتجاه المشاركة في الحياة العامة بكل اتجاهاتها ومتغيراتها، والتفاعل مع المحيط السياسي بكل ما فيه من اطياف وقوى ومستجدات.
انعكاسات هذا التحول واضحة في جميع الاقطار التي تنشط فيها جماعات شيعية سياسية ، ومن بينها السعودية ، التي شهدت تحول المجتمع الشيعي من الانكفاء الى المعارضة الجذرية واخيرا البراغماتية السياسية.

الخلاصة

ناقشنا في السطور السابقة ابرز التحولات التي تعرضت لها الثقافة السياسية للمجتمع الشيعي العربي ، ولا سيما في العقود الثلاثة الاخيرة. العسر الذي رافق بدايات التشيع اعاد انتاج الصورة الذهنية للسياسة كعالم بغيض ومتعارض مع الصفاء الديني. التركيز على حماية الجماعة فتح الباب امام تجذر "الثقافة الاقلاوية" التي تعبر عن نظام ثقافي فرعي وظيفته الاولى هي حماية الرابطة الداخلية التي تجمع اعضاء الاقلية. في ظل هذه النظام ، جرى تهميش قيمة السياسة كثقافة وكتفاعل حيوي مع المحيط . قيام الثورة الاسلامية في ايران اثمر عن تحول عميق في ثقافة الشيعة وهويتهم السياسية ، فتخلى المجتمع الشيعي عن ميله التاريخي للاعتزال والسلبية ، واتجه للمشاركة والتفاعل. لكن الثورة الاسلامية عززت الايمان بنظرية المؤامرة ، كما بررت الاتجاه للتشدد والجذرية في العمل السياسي. في العقد الاخير من القرن العشرين بدأ هذا المنحى بالتفكك لصالح اتجاه اكثر براغماتية ، وبلغ هذا الاتجاه ذروته مع الغزو الامريكي للعراق ربيع  2003 حين وجد الشيعة امكانية فعلية للقاء بين مصالحهم ومصالح الولايات المتحدة الامريكية التي كانت توصف سابقا بالشيطان الاكبر وتمثل – في اذهانهم على الاقل – رمزا للمؤامرة الدولية عليهم. الثقافة العامة للشيعة تميل اليوم الى البراغماتية والبناء على المصالح الواقعية ، بدل الجمود على الدوغما القديمة التي لا تتطابق مع حقائق العصر. البراغماتية تجعل الشيعة – كمجتمع – اقدر على التفاهم مع الحكومات الوطنية والقوى السياسية الاهلية في بلدانهم ، وتوفر اساسا قويا لاتخاذ منهج اصلاحي معتدل ، منقطع الى حد كبير عن املاءات التاريخ وذكرياته المؤلمة.



[1] Gabriel A. Almond & Sidney Verba, The Civic Culture: Political Attitudes and Democracy in Five Nations, (Sage 1989), pp 12-14
[2] Dennis Kavanagh, Political Culture, (Mackmillan, London 1972), p. 11
[3] Mehran Kamrava, Cultural Politics in the Third World, UCL Press, (London, 1999), p. 41
[4]  لتفصيلات حول هذا المنحى ومبرراته ، انظر : كاظم الحائري : ولاية الامر في عصر الغيبة ، (قم  1994) ، ص 69-85
[5] Heinz Halm, Shi’a Islam : From Religion to Revolution, (Princeton 1996), p. 88
[6]Etan Kohlberg, “The Evolution of the Shi‘a”. in Kohlberg, Belief and Law in Imami Shi‘ism,  (Hampshire, UK 1991) article I, p. 4.
[7] ابو جعفر الطوسي : كتاب الغيبة (بيروت 1412) 331
[8] محمد حسن النجفي : جواهر الكلام ، (طهران  1988)  21/397
[9] For more on the topic, see: Jane Clark, “Fulfilling our Potential: Ibn ‘Arabi's Understanding of Man in a Contemporary Context” The Journal of the Muhyiddin Ibn Arabi Society, vol. 30, (Autumn 2001). www.ibnarabisociety.org/clark.html
[10]  الشيخ المفيد محمد بن النعمان : المقنعة ، (قم 1990) ص. 810
[11]  يوسف البحراني: الحدائق الناضرة (بيروت 1993) ج 25 ص 488
[12] ابو الصلاح الحلبي : الكافي في الفقه (اصفهان 1983) ص 420-423
[13] ابن ادريس الحلي : السرائر 3/545 . لتحليل موسع عن هذا التحول ، راجع توفيق السيف: نظرية السلطة في الفقه الشيعي ، الباب الثاني
[14] Jelle Puelings, Fearing a Shiite Octopus: Sunni – Shi`a Relations and the Implications for Belgium and Europe, Egmont, The Royal Institute for International Relations, (Brussels, 2010) p. 10.  www.egmontinstitute.be.  The study offers interesting information on the shift of Shia groups to civil politics.
[15] On the case of Bahrain for example, see Uzi Rabi and Joseph Kostiner, ‘The Shi'is in Bahrain: Class and Religious Protest’, in Ofra Bengio & Gabriel Ben-Dor (eds), Minorities and the State in the Arab World, Lynne Rienner Publishers,(Boulder, CO. 1999), pp 171-188
[16] حول التعديلات التي اجراها الخميني، انظر توفيق السيف : حدود الديمقراطية الدينية (بيروت 2008)، الفصل الثاني
[17] محمد شبستري  : نقدى بر قراءت رسمى از دين ، (تهران 2000) ، ص 186
[18] اية الله جوادي املي : خطبة الجمعة ، (قم ، 14 يونيو 2002 ).  صحيفة ايران 15-6-2002
 www.iran-newspaper.com/1381/810325/html/politic.htm#s121497

01/08/2011

الهوية الوطنية الجامعة: دور الدولة في اطلاق او تثبيط التوتر الطائفي

يجادل هذا الفصل بان غياب العدالة الاجتماعية هو الذي يحول عناصر التمايز (المادية او الثقافية) الى خطوط انكسار في علاقة الاقلية بالنظام السياسي. الذي يولَّد المشكلة ليس التنوع المذهبي بل التمييز الطائفي. والتمييز سياسي في حقيقته ولو لبس رداء الدين . ولو لم يكن التبرير المذهبي فعالا لراينا واجهات اخرى تلعب الدور نفسه. تميل النخب السياسية الى تنشيط الخطاب المذهبي/ الطائفي بالنظر إلى عاملين: أولهما قدرة هذا الخطاب على التعبئة والحشد وتوفير المشروعية ، وقدرته على ترسيم الحدود الجغرافية أو الاجتماعية لموضوع المشكلة.
***
بين منتصف ديسمبر 2010 ومنتصف مارس 2011 شهد العالم العربي احداثا تفوق الخيال.. ثورة شعبية في مصر وتونس اسقطت نظامين من اكثر النظم السياسية العربية رسوخا وقوة ، وزلزلت  ثلاثة انظمة اخرى ليست باقل قوة : ليبيا واليمن وسوريا ، وهزت معظم النظم الاخرى. في كل هذه الثورات كان المطلب الجوهري هو الحريات المدنية والمشاركة الكاملة للجمهور العام في صناعة القرار السياسي. هذه الظاهرة غير المسبوقة في العالم العربي تشير الى بداية ما يمكن وصفه بعصر المشاركة الشعبية الفاعلة، وهي بالتاكيد ايذان بالانتقال من دولة النخبة الى دولة المواطن. الدافع الرئيس لهذا النهوض هو شعور عامة الناس باغفال الانظمة السياسية الحاكمة لمبدأ العدالة الاجتماعية ، وارساء منظومات قيمة وسلوكيات تخدم الفئات الحاكمة وبيئاتها الاجتماعية الخاصة دون جمهور المواطنين.  

العدالة الاجتماعية

يوصف النظام الاجتماعي/السياسي بانه عادل او ظالم. العدالة الاجتماعية ليست مجرد وصف تجميلي او اضافي. بل هي منظومة متكاملة من القيم والمباديء والسياسات والاجراءات التنفيذية، ينبغي ان تتشكل منها وعلى ضوئها استراتيجيات العمل العام، ويعتبر انجاز اغراضها معيارا لقياس نجاح الحكومة او فشلها في القيام بدورها المحوري. لسوء الحظ فان الثقافة السياسية العربية تفاخر بعدالة الاسلام وتعظم قيمة العدالة ، لكنها في الوقت نفسه تفتقر بشكل مريع الى المعايير الواقعية التي توضح كيفية تقييم افعال البشر وممارساتهم رجوعا الى قيمة العدالة. من دون هذه المعايير لا يمكن الحكم على افعال الناس والسياسات العامة. بل ان بقاء قيمة العدالة في صورتها المطلقة والمجردة قد يسمح باستعمالها لتغطية تطبيقات تنطوي على ظلم صريح او ضمني. خلال النصف الثاني من القرن العشرين كانت "العدالة الاجتماعية" عنوانا للكثير من السياسات الاقتصادية للدولة العربية التي تبنت النموذج الاشتراكي مثل جنوب اليمن والعراق وسوريا والجزائر وليبيا ومصر. لكننا نعلم اليوم ان تلك السياسات كانت ظالمة في الغالب.
ولو اتيحت لك الفرصة للتأمل في بعض ما كتبه قدامى الاسلاميين واتباعهم من المعاصرين حول النساء وحقوقهن، وحول العلاقة مع غير المسلمين، بل وحتى المسلمين من غير اهل الديار، وحول حقوق الطبقات الاجتماعية المختلفة والقيم الناظمة للعلاقة بينها، فسوف تجد الكثير من الاراء والافعال التي تنطوي على ظلم لا يمكن انكاره. لكنها مع وضوح ما فيها من ظلم لله ولعباد الله ، تطرح وتطبق باعتبارها اراء او ممارسات دينية. ويجري هذا على مرآى ومسمع من جميع اهل العلم الديني الذين يتفقون على ان العدل من المقاصد العليا للدين ، ومن المعايير الكبرى لسلامة الحكم الشرعي الفرعي او تطبيقاته.
نحن لا نتحدث هنا عن وقائع تاريخية ، بل عن حوادث تقع في ايامنا هذه، في مجتمعنا وحواليه. نعرف ان بعض القبائل العربية مازالت ترى في نسبها القبلي الخاص عنصر امتياز على الغير. ولعل بعض القراء مطلع على الاراء الفقهية والاحكام القضائية التي تسمح بالتفريق بين الازواج بناء على هذا المبرر، اي القول بامكانية التفاوت العرقي او الطبيعي بين الناس. وهناك من قومنا من يقر بتكافؤ البشر عند الولادة، لكنه يقبل ايضا بفكرة التفاوت المكتسب. اي التفاوت بين الناس بسبب انتماءاتهم. ونعرف ان بعض الاقطار (ومنها الكويت مثلا) تتبع نظام مواطنة مزدوجا، يقسم الناس الى مواطن درجة اولى وثانية. ويترتب على هذا الفارق تفاوت في بعض حقوق المواطنة. ومن الامور الرائجة في كثير من البلدان ، ومنها بلدنا ، التمييز بين المواطنين المنحدرين من اصول محلية وبين المهاجرين او المتجنسين. وثمة فقهاء مسلمون يحكمون بنجاسة غير المسلمين عامة، وهناك من يقصر الحكم على المشركين دون اهل الكتاب. وذهب بعض فقهاء العصور السالفة الى اشتراط الاصل العربي في التأهل للخلافة وإمرة المسلمين. واشترط آخرون النسب القرشي دون سائر العرب. وحصرها بعضهم في بني هاشم دون سائر قريش.
هذه الاراء جميعها تنطلق من اساس فكري واحد، خلاصته ان السلطة والموارد العامة هي امتياز تختص به الفئة المميزة، سواء كانت عرقا او قبيلة او دينا او مذهبا سياسيا او غير ذلك. وبناء عليه فانه يمكن تصور النظام الاجتماعي القائم على هذا الاساس كنظام ذي هيكلية مزدوجة يسمح لمختلف الناس ان يعيشوا في ظله، لكن من دون التمتع بالمساواة في الحقوق والامتيازات. ويستند غالب تلك التطبيقات الى اجتهادات سياسية او قانونية معاصرة او اجتهادات فقهية قديمة ، ويرجع بعض هذه الاجتهادات الى روايات او تفسير لروايات. وهذا احد الاسباب التي تحمل بعض قومنا على المنافحة عنها وتبريرها.
لكن ايا كانت المبررات والمراجع ، فانها لا تستطيع اخفاء حقيقة كونها نقيضا لمبدأ العدالة في صورته البسيطة والسابقة لاي اجتهاد او تفسير. وهي ايضا نقيض لروح الشريعة القائمة على الاقرار بالتكافؤ بين الناس والتعويل في التمايز بينهم على خياراتهم الشخصية وكفاءاتهم المكتسبة واعمالهم.
كنت قد اشرت في كتابات سابقة الى ما اعتقد من تاثر الفقهاء المسلمين ببعض مقولات الفلسفة اليونانية القديمة، ومن بينها تصورهم للعلاقة بين العدالة والمساواة. رغم احتفاء الفلاسفة اليونانيين بمبدأ العدالة، الا ان الصور التطبيقية التي وضعوها كانت مشروطة بالنظام الاجتماعي/السياسي لمدينة اثينا. وهم لهذا السبب لم يجدوا حرجا في القبول باستعباد الاجانب وحرمان النساء من الحقوق المدنية ، وحرمان غير الاثينيين (او البرابرة حسب وصفهم) من الامتيازات التي يحصل عليها المواطن الاثيني. ولعل بعضنا يرى ان التطبيق الاسلامي لمبدأ العدالة ينبغي ان يخضع ايضا للتنظيم الخاص للمجتمع المسلم. ومعنى ذلك ان العدالة ليست من القيم العقلية المستقلة، كما يدعي الفلاسفة، وليست جزءا من الجوهر الانساني للانسان، كما يدعي الاخلاقيون، وليست معيارا اعلى لصلاح النظام الاجتماعي، كما يدعي علماء الاجتماع والسياسة. بل هي قيمة اجتماعية فرعية يتحدد مفهومها ومعناها وتطبيقها تبعا لثقافة المجتمع وما توافق عليه من نظم وأعراف. بعبارة اخرى فان المضمون النهائي لهذا الفهم يقرر ان العدالة ليست قيمة مطلقة وموضوعية، بل هي قيمة نسبية، وليست مصدرا لقواعد العمل التي توافقت عليها الجماعة ، بل فرع عنها.
لحسن الحظ فان مبدأ العدالة قد استعاد في زماننا هذا مكانته السامية ، وسلم جميع الناس به كقيمة عليا مستقلة ومعيار يرجع اليه في محاكمة سائر القوانين والافكار والسياسات ، وانه حق لجميع الناس بغض النظر عن مكانهم او مكانتهم او اطارهم الاجتماعي او موقفهم الثقافي او القانوني. ولهذا فاننا لا نحتاج الى مجادلة التصور القديم.
صحيح ان ثقافتنا فقيرة نوعا ما في هذا الجوانب ، وصحيح ان مجتمعاتنا ومجتمعات اخرى في العالم قد سارت في ماضيها – او في حاضر بعضها – بعكس هذا الاتجاه. الا ان هذا لا يقلل ابدا من قيمة تلك الاركان ، ولا يدفعنا للنظر اليها كامور فرعية او نسبية . ويكفينا ما يشعر به اي عاقل من الم ودهشة حين يقرأ تاريخ الجماعات التي انكرت مبدأ المساواة مثل الحزب النازي في المانيا الذي ادعى تفوق ابناء العرق الجرماني على بقية البشر ، وخاض لاجل ذلك الحرب العالمية الثانية التي كلفت العالم ملايين من القتلى . وكذلك الامر في تاريخ التمييز العنصري الذي ساد في الولايات المتحدة الامريكية حتى منتصف القرن الماضي. ونظيره في افريقيا الجنوبية.
يقوم النظام الاجتماعي العادل على ثلاثة اركان اساسية :
 اولها التكافؤ بين الناس عند الولادة ، والذي يترتب عليه المساواة بين ابناء المجتمع في الحقوق والواجبات.
وثانيها الضمان القانوني للحقوق والحريات الطبيعية والمدنية.
وثالثها سيادة القانون.

 المساواة: من دولة الاكثرية الى دولة المواطن

قلنا ان الثقافة السياسية العربية فقيرة ، وان هذا الفقر ملحوظ في وسط الجمهور والنخبة على السواء. ابرز شواهد فقر الثقافة السياسية للنخب الحاكمة هو غياب القيم الاساسية التي تحكم العلاقة بين المجتمع والدولة. بين القيم الغائبة مثلا مبدا سيادة الشعب المتاتي من ملكيته للارض التي يسكنها. بديهي أن الدولة – أًيا كانت صفتها- لم تخلق البشر ولا أرضهم. وهي لم تجلب هؤلاء المواطنين من أماكن أخرى وتعمر أرضهم وتسكنهم فيها. بعبارة أخرى فإن الأرض التي تخضع لسلطان الدولة هي ملك أصلي للذين يعيشون فوقها. وبموجب هذا الملك فإنهم وحدهم أصحاب الحق في إدارة مواردها والتصرف فيها. الدولة لا حق لها في أي شيء من تلك التصرفات إلا إذا اتفق أولئك المالكون على تفويضها هذا الحق. ملكية الأرض أعلى وأسبق - من حيث قابليتها لتوليد حقوق التصرف- من الدين والقانون والتوافقات، وإنما تصبح أحكام الدين والقانون سارية إذا وافق المالك على الخضوع لها.
أشرنا إلى هذا المثال دون غيره لبيان أن حقوق الأقلية مثل حقوق الأكثرية نابعة من كونها مالكة للأرض أو شريكة في ملك الأرض ومواردها. ومن هنا نقول: إن الدعوة للمساواة والعدالة في توزيع الموارد، ليست مجرد دعوة أخلاقية أو ضرورة سياسية. بل هي أولاً وقبل كل شيء تعبير عن حق أصلي ثابت ، سابق للدولة والدين والقانون. وإنما تأتي القوانين والأحكام لتنظيم القيام بهذا الحق وتمكين كل فرد من أن يحصل على نصيبه العادل منه.
والحق ان العالم كله يأخذ اليوم بمفهوم الشراكة هذا. الدول العربية تقع ضمن شريحة صغيرة جدا ضمن 194 دولة عضو في الامم المتحدة ما زالت تعيش على النظم والقيم القديمة التي تنكر شراكة الجمهور وملكيته لارضه وما يترتب عليها من حقوق سياسية. نتحدث احيانا عن عالم ما قبل قرنين ، فنستنكر ما جرى فيه ، لكن ذلك العالم مازال قائما – ولو بتمثيلات مصغرة – في الدول العربية المعاصرة . نتذكر مثلا مقولة ملك فرنسا لويس الرابع عشر «الدولة هي أنا» التي تختصر واقع الحال في الأكثرية الساحقة من أقطار العالم يومذاك. ولعلنا نتذكر ما نقله مؤرخو العالم الإسلامي عن تحول الناس عن الدين أو المذهب الغالب في بلدهم إذا تولى الحكم ملك يتبع مذهباً مختلفاً. يمكن القول بكلام مجمل: إن الخضوع والتسليم لشخص الحاكم كان المضمون العام لعلاقة المجتمع مع حكومته.
تغيير تلك المفاهيم بدأ في اوربا خلال القرن السابع عشر ، متاثرا بالأفكار السياسية الجديدة التي أطلقها فلاسفة عصر النهضة. كما اكتسب التغيير زخماً إضافيًّا بعد الحروب الأهلية والنزاعات الدينية والحركات الثورية، لا سيما الثورتين الفرنسية (1789) والأمريكية (1783). جوهر التغيُّر المذكور هو تحول صفة الدولة من حاكم فوق الشعب إلى حكم بين أفراد الشعب وممثل للمجتمع ، تستمد سلطتها منه. وترتب عليه نزع الصفة المتعالية للدولة، وتحديد سلطتها واعتبارها مسؤولة عن أعمالها وعما يجري إجمالاً في الإقليم السياسي الخاضع لسلطانها.
وصل التغيير في الدول الصناعية إلى مرحلة متقدمة من النضج ، فرسخت مفاهيم مثل الحقوق الطبيعية والمدنية والمساواة بين المواطنين، وحاكمية القانون وكون الدولة ضامناً للحقوق الدستورية لكل مواطن. ولهذا فإن الاختلاف المذهبي أو الديني بين أبناء الوطن الواحد لم يعد مشكلة أو مولداً لمشكلة. فعدا عن الحق الأولي في المساواة بين الأفراد بغض النظر عن معتقداتهم، فإن النظام السياسي يوفر آليات قانونية محددة وموثوقة لمعالجة التمييز والعدوان فور حدوثه.
سار العالم الإسلامي في طريق مختلف. فبعد استقلال أقطاره، هيمنت على الحياة السياسية نخب اوتوقراطية تفهم الدولة والمجتمع في نفس الإطار الذي كان متعارفا في القرون الوسطى ، أي اعتبار الدولة هيئة مستقلة عن المجتمع ، تتمتع بسلطات مطلقة. لا يمكن بطبيعة الحال إفراد النخب الحاكمة باللوم على ما جرى. فالمجتمعات المسلمة وقادة الرأي من أهلها يتحملون نصيباً من اللوم على افتقارها إلى ثقافة سياسية تُعلي شأن الإنسان الفرد وحقوقه، وتسمح بالتفكير في سلطة تمثيلية منبعثة من المجتمع.  اغفلت الدولة والمجتمع العربي حقيقة كون الناس مالكين لأرضهم، بل واعتبروها -صراحة أو ضمناً- ملكاً للدولة المستقلة عن المجتمع والحاكمة فوقه. وانطلاقاً من هذا الفهم أهملت الدولة العربية مسألة العدالة في توزيع الموارد . ثم انكرت على عامة الشعب حقه في المشاركة الكاملة في صناعة السياسات التي تؤثر على حاضره ومستقبله. في بعض الحالات وجدنا طبقات أو طوائف أو قبائل بعينها تستأثر بمعظم خيرات البلد ومناصب الدولة ، حتى اصبحت هي والدولة شيئا واحدا ، بينما اكثرية الناس لا حظ لهم ولا حصة ولا صوتا.
على المستوى النظري فان جميع دساتير الدول العربية – عدا اثنين او ثلاثة ربما - يقرر ان الشعب هو مصدر السلطة. الا ان هذا لا يكشف عن حقيقة الحال. كي يتحول هذا المفهوم الى واقع ، فاننا بحاجة الى التاكيد على قاعدته الفلسفية ، اي كون الشعب مالكا للاقليم الارضي الذي هو وطنهم.
التطبيق الاولي لمبدأ العدالة في الاطار الوطني هو تنظيم العلاقة بين ابناء البلد الواحد على قاعدة "الشراكة في تراب الوطن". طبقا لهذا المفهوم فان جميع اعضاء المجتمع، سواء ولدوا فيه او انتموا اليه لاحقا، شركاء في ملكية الارض التي يقوم عليها هذا المجتمع وتخضع لنظامه. ويقترب هذا المفهوم الى حد كبير من فكرة "الخراج" المعروفة في الفقه الاسلامي القديم، التي تؤكد على ملكية عامة المسلمين للموارد الطبيعية ملكا مشاعا[1].
بناء على مفهوم الشراكة فان المواطنين يولدون متساوين متكافئين ويبقون كذلك طيلة حياتهم. ليس فقط لان القانون اقر لهم بهذه الصفة، بل لكونهم شركاء في ملكية النظام الاجتماعي بمجمله. ومن هنا فان اي عضو في هذا النظام لا يستطيع الغاء عضوية الاخر، لأنها ليست منحة بل حق مترتب على ملكية مشروعة. التمتع بحقوق المواطنة يعني ان يتمتع الجميع بنفس القدر من الفرص المتاحة على المستوى الوطني. الوطن في هذا المفهوم لا يتكون من اقلية واكثرية بل من مواطنين متكافئين بغض النظر عن اصولهم العرقية وجنسهم وانتماءاتهم الثقافية والاجتماعية.
واجه هذا المفهوم الأولي الكثير من المجادلات في بداية ظهوره. لكنه تطور في اطار الفلسفة الليبرالية. وتحول من ثم الى قاعدة للعمل السياسي في الدول الحديثة. اول التمثيلات السياسية لمفهوم الشراكة في التراب، هو نظرية العقد الاجتماعي ، وهي الارضية الفلسفية لفكرة المجتمع المدني التي تعد ابرز اطارات المشاركة السياسية في عالم اليوم. وثمة بين الفلاسفة المعاصرين، من يدعو الى نظرية مماثلة على المستوى الكوني. واخص بالذكر استاذنا البروفسور جون كين الذي يدعو الى نظام عالمي يشترك فيه جميع البشر او من يمثلهم، من اجل تطوير الموارد الكونية ومكافحة التدمير الذي تتعرض له بيئة الارض، لانها ملك للجميع. مالم يكن النظام السياسي عادلا فانه سيبقى فاقدا للشرعية . فقدان الشرعية يعني اعتبار رجال الدولة غاصبين ومعتدين على حقوق الناس. ولا يمكن اعتبار النظام الاجتماعي-السياسي عادلا ما لم يقم فلسفته على ارضية الشراكة ، اي شراكة جميع المواطنين في التراب الوطني ، ويترتب عليهم تساويهم جميعا في الحقوق والواجبات ، وضمان القانون والدولة لتطبيقات هذا المبدأ.

 توازن القوى داخل النظام الاجتماعي كضرورة للعدالة: مقاربة جون رولز

لعل ابرز المقاربات النظرية لموضوع العدالة الاجتماعية في الوقت الراهن هي المقاربة التي طورها الفيلسوف الامريكي جون رولز في اطار ما يعرف بالاتجاه المساواتي=Egalitarian (يوصف احيانا بالمجتمعي =Communitarian) ، وهو يمثل نوعا من التمرد على الليبرالية الكلاسيكية ولا سيما تصورها عن الفرد وعلاقته بالجماعة. يفسر رولز "العدالة الاجتماعية" في معنى تعدد الخيارات المتاحة للافراد والقابلة للتحويل الى اعمال او مكاسب تجعلهم اكثر قدرة على السيطرة على مصائرهم وادارة حياتهم على النحو الذي يحقق ذاتهم ويجعلهم اكثر سعادة. ويركز رولز على الربط بين المباديء النظرية الاساسية وبين الجهد القانوني والمؤسسي والسياسي الذي يبذله المجتمع لتمكين الافراد من الاختيار بين انماط حياة مختلفة وطرق مختلفة للنمو الشخصي. وحسب رايه فان النظام الاجتماعي العادل هو ذلك الذي يتيح لافراده شريحة اكبر من الخيارات وينظم سياساته ومؤسساته على نحو يكفل للاكثرية الساحقة امكانية الاستفادة القصوى من تلك الفرص.
يعتقد رولز ان مجرد الاقرار القانوني بحقوق الافراد لا يكفي لجعل الناس متساوين او متمتعين بحقوقهم القانونية. التوزيع العادل للمنافع والخيرات العامة في اي مجتمع ، ونسبة ما يحصل عليه كل فرد من حقوق ، ليس مسألة قانونية بحتة ، بل هو محصلة لعوامل عديدة ابرزها توازن القوى داخل النظام الاجتماعي[2].
نظريا، يعترف القانون للطبقات الفقيرة ونظيرتها الميسورة بنفس المستوى من الحقوق والمنافع. لكن هذا الاقرار عديم الفائدة على المستوى العملي، لان الفقراء لا يمتلكون الادوات اللازمة للاستفادة من الحقوق التي اقرها القانون. في معظم دول العالم الثالث ، ثمة على حواشي المدن الكبرى مئات الالاف من سكان ما يسمى بمدن الصفيح او احزمة الفقر. في العاصمة البنغالية داكا يتمتع الالاف ممن ينامون في الشوارع بالحق في الترشح لعضوية البرلمان ، والوصول الى المناصب الكبرى ، مثل نظرائهم من سكان الاحياء الثرية – نظريا على الاقل - . لكن واقع حالهم يقول ان هذا الحق ليس اكثر من فرضية مستحيلة. بل انه بالنسبة اليهم مجرد حكاية خيالية ، يسمعونها في اخبار التلفزيون حين يتحدث الرؤساء والسياسيون. ذلك ان الحياة اليومية لهؤلاء الفقراء مكرسة لتدبير لقمة العيش . من لا يعمل اليوم فقد يجوع غدا . يعرف هؤلاء وغيرهم ان الوصول الى البرلمان والمشاركة الفعلية يتوقف على توفر ملاءة مالية واستعداد ذهني ومستوى ثقافي وقدرة على توفير ادوات عمل مكلفة لا تتوفر لغير النخبة. لا بد اذن من ملاحظة الفارق الواضح بين تمتع الفرد بالحق وقدرته على ممارسته. وفي الحالة الثانية ثمة شريحة كبيرة من المجتمع ستبقى محرومة – فعليا – من التمتع بحقوقها بسبب التفاوت الفاحش في مصادر القوة بينها وبين الطبقات الاخرى، او بسبب تخلف البنية الاساسية في البلد ككل، الامر الذي ينعكس على مصادر المعيشة والامن والتعليم الخ.
من هنا فقد ركز الاتجاه المساواتي على ان تمتع الجميع بشكل فعلي بالقدرة على ممارسة  حقوقهم المقررة في القانون هو جزء من مفهوم العدالة، ومعيار لتوفر العدالة في نظام اجتماعي معين.
والحق ان توظيف مصطلح "عادل" او "ظالم" في وصف مجموع النظام الاجتماعي وبنيته القانونية والاقتصادية والمؤسسية هو واحد من ابرز تجليات الفهم الجديد، خلافا للمفهوم السابق الذي كان يطلق الوصف على افعال الافراد او الدولة فقط. راى رولز ان جميع عناصر واجزاء النظام يجب ان تقيّم وفقا لمعيار مشترك كي نستطيع وصفها – كمجموع - بالعدالة او الظلم. نظرا للتاثير الديناميكي لكل مسار من مسارات النظام الاجتماعي على حياة اعضائه، فان تعيين حقوق المواطنين وواجباتهم في جانب معين، الاقتصاد مثلا، يجب ان يسبقه تعريف لانعكاس النظام الاقتصادي وتطبيقاته على حياة الافراد الذين يعملون في اطاره او تتاثر حياتهم بمفاعيله، ولا سيما في تمكينهم او اعاقتهم من ممارسة حقوقهم الاولية وحرياتهم[3].
خلاصة القول ، ان مبدأ "العدالة الاجتماعية يتضمن :
1-      بعدا فلسفيا تاسيسيا يتمثل في قيام النظام السياسي على ارضية الاقرار بتكافؤ المواطنين قيميا ، ونبذ المقولات التي تدعي امكانية التفاوت بين الافراد عند الولادة.
2-      بعدا دستوريا يتمثل في اقرار النظام الاساسي للبلاد بحقوق ثابتة لجميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الاجتماعية او الاثنية . ونبذ السياسات والاعراف والاجراءات التنفيذية التي تنافي هذا الاصل. واعتماد مبدأ الانصاف في تحديد السبل القانونية لحل النزاعات المحتملة على المصالح.
3-      بعدا قانونيا يتمثل في اقرار القوانين التي تعين حقوق الافراد . وابرزها حقهم في الاستفادة المتساوية من المنافع والخيرات والموارد العامة ، المادية والمعنوية ، وسبل حمايتها ، والجهات الحكومية او الاجتماعية المكلفة بهذه المهمة.
4-      بعدا مؤسسيا يتمثل في ايجاد المؤسسات الرسمية والاهلية التي تكفل للمواطنين امكانية الاستفادة الفعالة من الحقوق التي اقرها الدستور والقانون والحيلولة دون خرقها او تهميشها.
5-      بعدا اقتصاديا – سياسيا يتمثل في التوزيع المتكافيء للموارد العامة ، بما يمكن كل مواطن من استثمار الفرص المتاحة في المجال العام وتحقيق المنافسة العادلة بينه وبين سائر المواطنين.

الشروط الاجتماعية للانشقاق

حيثما غابت العدالة الاجتماعية، حضر النزاع الداخلي والانشقاق. المجتمعات التي يسودها الظلم وتضيق فيها خيارات الافراد هي الاكثر عرضة للانشقاق والتنازع. لكن يجب الحذر من المبالغة في الربط بين السبب والنتيجة. ثمة مجتمعات تفتقر إلى العدالة ، لكن أعضاءها لا يشعرون بالحاجة إلى التمرد أو الانشقاق او لا يستطيعون. ربما يكون حالهم بائسا، لكنهم – مع ذلك - لا يعتبرون الانشقاق سائغاً أو مفيداً. إما لأن ثقافتهم تبرر هذا الوضع وتعتبره محتملا أو قدراً لا مفر منه. أو لأنهم يجدون وسائل بديلة لمعالجة المشكلة غير الانشقاق والتمرد . او ربما لانهم يحصلون على تعويض من نوعا ما ، مادي او معنوي ، يجعل غياب العدالة امرا محتملا عندهم. في معظم الاحيان يؤدي غياب العدالة الى انهيار ثقة الجمهور في النظام السياسي ، وتفاقم حالة الشك والارتياب في رجال الحكم ومؤسساته . وهذا يؤدي بطبيعة الحال الى انكماش شرعية الحكومة . لكنه لا يقود بالضرورة الى تمرد فعلي. الكثير من الناس يرتاب في الحكومة ويشتمها ، لكنه لا يجد نفسه معنيا بالتمرد عليها او قادرا على التمرد[4]
ولهذا فلابد من القول بان ظهور النزعة الانشقاقية، يحتاج إضافة للمبرر الأول، أي انعدام العدالة، إلى عوامل أخرى مساعدة، هي:
العامل الاول:  فهم الأفراد أو الجماعة لهذا الظرف المحدد باعتباره جزءا من بنية النظام الاجتماعي أو السياسي المهيمن، وليس ظرفاً عارضاً. هذا الفهم هو - بعبارة أخرى - تفسير للحالة في الإطار السياسي، يترتب عليه تحولها إلى مبرر لفعل سياسي مضاد للتنظيم الاجتماعي أو السياسي القائم. هذا الفهم يحتاج إلى قدر من الكفاءة الفكرية والتنظيمية. المجتمعات التي لها تقاليد في العمل السياسي أكثر قدرة على اعادة تصوير الظرف الاقتصادي او المعيشي كظرف سياسي او مضمون للمعارضة السياسية. وتفسر العلاقة بين الظرف المعيشي وبنية النظام السياسي على ضوء مفهوم العدالة التوزيعية distributive justice  الذي يعنى بالتنمية المتوازنة وتوزيع الموارد والفرص والخيرات العامة على نحو منصف  ، ويعتبر انعدامها مؤشرا على كون النظام السياسي ظالما.
العامل الثاني:  توافر أرضية ثقافية تتقبل الانشقاق وتعتبره خياراً مشروعاً في حال انعدام وسائل أخرى أقل كلفة. المجتمعات التي تملك ثقافة عقلانية أكثر استعداداً لتقبل الانشقاق. بخلاف تلك التي تسودها ثقافة أسطورية أو غير عقلانية. فهذه تميل إلى اختلاق مبررات وراء طبيعية لتفسير الظروف المختلفة. وهي أميل إلى المحافظة على الوضع السائد. بقدر ما يرتفع المستوى الثقافي وتنتشر المعرفة بين أعضاء المجتمع، فإنهم يصبحون أكثر قابلية للانشقاق. في الحالة الاولى (عدم توفر الارضية الثقافية المساعدة) يبقى المنشقون اقلية غير مؤثرة ، او يميلون الى الانكفاء والاعتزال. هذا يشير الى اهمية فهم العدالة كحق عام يتوجب على الدولة الوفاء بمقتضياته وتطبيقاته. المجتمعات الاكثر وعيا لمبدا الحق ومفهومه ، اي تلك التي تربط التزاماتها تجاه الدولة بالحقوق التي تحصل عليها ، هذه المجتمعات اكثر قدرة على ربط مفهوم الحق بالعدالة التوزيعية ، التي تتجلى في كمية الخيرات العامة التي ينالها مجموع المواطنين. بخلاف المجتمعات التقليدية التي يبدأ تصورها للعلاقة بينها وبين الدولة بفكرة الواجب او الطاعة الواجبة للدولة كمقدمة لتحصيل حقوقها على الدولة.
المجتمعات التقليدية تميل الى لوم نفسها ، وربما تبرير قصور الدولة او تقصيرها في الوفاء بالتزاماتها. وتطالب اعضاءها بتقديم الولاء للحاكم قبل ان تحصل على اي حق . وترى في كثير من الاحيان ان الاوضاع السيئة ليست دليلا على فشل الحكومة وحدها ، بل فشل الحكومة والمجتمع معا. وطالما كان المجتمع شريكا في الفشل ، فان الامر لا يستدعي الانشقاق على الحكومة. في العديد من البلدان العربية ، فشلت المجموعات التي قامت بحركات احتجاج ، لان الراي العام لم يكن مستعدا – من الناحية الثقافية – لتقبل مبررات الانشقاق . او لان المجتمع لم يجد نفسه طرفا في تشكيل المرحلة التالية للانشقاق ، ولا سيما صياغة الظرف السياسي الذي يفترض ان ينتج عنه. ولهذا اعتبرت نتائج الانشقاق غامضة او مجهولة ، وفضلت عدم الانضمام اليه ، رغم قناعتها بان الظرف الذي تعيشه سيء ويجب تغييره.
فيما يتعلق بالعالم العربي ، فقد اظهر الحراك الذي عرف بالربيع العربي ، اشارات قوية على تغير هذه القناعة لصالح قناعة جديدة فحواها ان الدولة هي الجهة الوحيدة المسؤلة عن الفشل، وانها عاجزة عن الاصلاح حتى لو اقرت بضرورته، وان افراد المجتمع جميعا شركاء في تشكيل الظرف الذي سينتج عن الثورة، ولهذا فهو – بالنسبة اليهم ليس قفزا في المجهول.
العامل الثالث: توافر الأمل بامكانية معالجة الظرف المعني عن طريق الانشقاق. مستوى الأمل يحدد حجم الانشقاق وتعبيراته وأهدافه. انعدام الأمل لا يمنع الانشقاق ، لكنه يحصره في إطار فعل فردي أميل إلى الانكماش واعتزال الجماعة أو الاغتراب. في المقابل فإن توافر قدر كبير من الأمل بامكانية نجاح الانشقاق في تحقيق جميع الاهداف او بعضها ، سوف يوسع المساحة الاجتماعية للانشقاق. لكنه يؤدي - في الوقت نفسه – الى الحد من عنفه ، ويجعله أميل إلى القبول بأنصاف الحلول. كلما اتسع الجمهور المشارك في الانشقاق او المؤيد له ، ازدادت فرص الحلول التوافقية او ربما انصاف الحلول. أخيراً فإن وجود نطاق ضيق للأمل يجعل الانشقاق أكثر عنفاً، لكنه أيضاً يحد من مساحته الاجتماعية الفاعلة. ونشير هنا إلى دور النخبة الاجتماعية في تجسير الفجوة أو تعميقها، فهي تلعب دوراً فعالاً في إقناع الجمهور بمستوى الأمل المتوافر، في تحديد حجمه وقيمة تمثيلاته وتعبيراته.  
إذا توافرت العوامل الثلاثة السابقة ، اضافة بالطبع الى العامل الجوهري ، اي فقدان العدالة الاجتماعية ، فإن التفكير في الانشقاق سوف ينتقل إلى مرحلة الفعل، وهو يبدأ بتصميم الخطاب الذي يشكل مبرراً اخلاقيا للانشقاق. وفي هذه المرحلة بالتحديد يتجه الفرد (أو مجموعة الأفراد) إلى التفكير في التصوير المذهبي/ الطائفي بوصفه إطاراً ومبرراً.

لماذا يتخذ الانشقاق السياسي إطاراً مذهبيًّا/ طائفيًّا؟

في كل مجتمع هناك من يعي حقيقة أن ما يثير وجع الناس هو حرمانهم من العدالة وليس اختلافهم في المذهب. وربما عبر هؤلاء عن رفضهم لاستعمال الوصف المذهبي كمبرر للنزاع السياسي . لكنك – مع ذلك - تسمع هذا الوصف في معظم الحالات. اقحام الوصف المذهبي يرجع في ظني لنوعين من العوامل ، يحتاجها الطرفان المنخرطان في النزاع : عوامل اجرائية تتعلق باطار الموضوع وليس مضمونه، وعوامل وظيفية تتعلق بفاعلية التحديد في استقطاب الدعم.
يمكن ان نضع العوامل الاجرائية تحت عنوان "مقتضيات السياق او الموضوع"، واهمها الحاجة الى تحديد موضع المشكلة وحصرها في إطار خاص كي يسهل التعامل معه. حينما تقول ان هناك تمييزا في بلد ما ، فيجب ان تحدد المعنيين بالمشكلة . لا بد من القول ان الذين يتعرضون للتمييز هم النساء مثلا ، او السعوديون من اصل افريقي ، او الشيعة ، او المنتمين الى قبائل معينة. هذا التحديد لا ينطوي على قيمة ، اي انه لا يستهدف القول ان فعل التمييز حسن او سيء ، بل تحديد مورده. هذا التحديد ضروري للجماعة التي تواجه التمييز ، مثل ضرورته للطرف الذي يمارس التمييز ، سواء كان الدولة او قوى اهلية.
مع هذا الشرح ، يبدو الامر هينا. لكنه في الواقع ليس بمثل سهولة الكلام عنه. يكمن العسر في قابلية العنوان او الاسم – حتى لو كان محايدا - لاستنفار الذاكرة التاريخية عند الطرفين ، الظالم والضحية. الذاكرة التاريخية هي ارضية الثقافة السياسية الراهنة في العالم العربي والاسلامي . وهي – بالتالي – الخلفية التي يفهم الانسان على ضوئها نفسه وموقعه وانتماءه ، ومن ثم موقفه من الاخرين وما يجري في المحيط الذي حوله. قليل من الناس يهتم بالتعمق في فهم المشكلات وجذورها. اما الاغلبية الساحقة فهي تكتفي بالوصف الاجمالي الذي يمكن اسناده الى عناصر واضحة المعالم. فاذا قيل ان الموضوع الفلاني يتعلق بطائفة محددة – الشيعة مثلا – فان ذهن المستمع يستدعي الصورة النمطية لهذه الطائفة كي يقرر موقفه ، مؤيدا او معارضا. اي انه قليلا ما يهتم بالتعمق في فهم تفاصيل "الموضوع" ، وغالبا ما يحدد رايه بناء على معطيات الصورة المستقرة في ذهنه عن الاطراف المشاركة فيه. وقد رأينا هذا في موقف العرب من اسقاط صدام حسين في 2003 ، فقد اتفق "العرب السنة" على المعارضة ، وفي المقابل اتفق الشيعة على التاييد. وراينا ذات الحال في الموقف من انتفاضة البحرين (2011) التي شهدت انفساما واضحا في الشارع الخليجي ، حيث وقف اغلبية الشيعة مع المنتفضين ، ووقف اغلبية السنة على الجانب المعاكس. تاريخ التناحر القديم والمعاصر يمثل مصدرا مؤثرا للمواقف والتصنيفات ، حتى لو كان الموضوع بعيدا جدا عن التاريخ والانتماء المذهبي او الفروقات بين المذاهب.
الباحثون ورجال النخبة قد يستطيعون الفصل بين العناوين الخارجية والعناصر العميقة التي تشير اليها تلك العناوين، وقد  يستوعبون الحدود الشكلية والاجرائية لاستعمال صفة "الشيعة" او "السنة". لكن الجمهور الواسع لا يفصل كثيرا بين الوصف والموصوف ، او بين العنوان وما يمكن ان يشير اليه من عناصر. موقف الجمهور ينعكس بالضرورة على اداء النخبة وطريقة عملها. لان النخبة تخاطب الجمهور ، فهي مضطرة لصون قدر من التراضي بينها وبينه ، وهذا ما يعرف عادة بقهر العامة ، وهو شائع في كل المجتمعات. واذكر مثالا واقعيا هو رد الشيخ سلمان العودة على فتاة ايرانية سألته عن صحة الزواج من رجل شيعي فاجابها الشيخ بانه ليس في مقام المفتي لكنه ينصح بتكافؤ الثقافة بين المقبلين على الزواج[5]. هذا الجواب فهم بانه ينصح بعدم زواج السنية من شيعي. لم يرد الشيخ الرجوع الى الفتوى القديمة عن تكافؤ النسب ، ولا الفتاوى المبنية على بطلان ولاية الادنى على الاعلى، لكنه ايضا لم يستطع التحرر من هذه المواقف لان وجود العنصر "الشيعي" في المسألة يستفز جمهوره ذي الغالبية السلفية. ونفهم هذا من ردود القراء على د. عبد الرحمن الوابلي الذي انتقد كلام الشيخ العودة. بين 100 قاريء علقوا على المقالة ، رفض الثلثان تقريبا فكرة زواج الفتاة السنية من رجل شيعي[6].
هذا يشير في الحقيقة الى فاعلية الذاكرة التاريخية او التراث الثقافي للمجتمع – الاكثرية او الاقلية - في توليف مبررات وخلفية الخطاب السياسي ، وتعيين الحدود بين داخل الجماعة وخارجها. الذاكرة التاريخية تسهم بشكل فعال في تشكيل موقف الجمهور العام ودوره في صياغة موضوعات الصراع وحدوده ، ودور عامة الناس هو بيضة القبان في هذه المسألة. فالتوافق الاجتماعي الضمني أو الصريح على مسألة هو الذي يحدد مصيرها. قبول الناس للخطاب الطائفي يخلق بيئة مساعدة أو ربما ثورية توفر المدد البشري والروحي والمادي للخطاب الطائفي. أما إذا رفضه الجمهور فإنه على الأرجح سيتحول إلى حركة نخبوية ضئيلة التاثير.
الخطاب الطائفي أقدر على استثمار التراث الثقافي للجماعة في توليف مبررات وخلفية للخطاب ووسيلة تسوير للجماعة التي تقوده. وهو الأقدر على جلب قبول الجمهور ودعمه ، ومده – من ثم – بالمصداقية الضرورية كي يكون مؤثرا في الميدان السياسي. في الحقيقة فإن عناصر القوة هذه متوافرة في الطرفين. فالدولة أيضاً استعملته لتحديد موضع المشكلة ولتعزيز البيئة الاجتماعية الموالية لها ، من خلال عرض المشكلة كما لو كانت تمرداً من تلك الجماعة على هذه الجماعة.

الخلاصة:

دار النقاش في الصفحات السابقة حول الطابع الطائفي للنزاع بين الاقلية والدولة. وهو يظهر ان غياب العدالة الاجتماعية هو المحرك الاساس لذلك النزاع. يصبح مجتمع الاقلية بيئة للتمرد على الدولة بسبب سياسات التمييز السلبي التي تحرم اعضاء الاقلية من حقوق مسلم بها لكافة الناس او حقوق يحصل عليها المواطنون الاخرون. ان غياب العدالة الاجتماعية هو الذي يحول عناصر التمايز (المادية او الثقافية) الى خطوط انكسار في علاقة الاقلية بالنظام السياسي.
ونفهم ذلك من تجارب البلدان المحيطة التي نشبت فيها نزاعات مماثلة ، مثل العراق ولبنان. حين يتوقف حل النزاع على تلبية مطلب محدد دون غيره، فهذا يعني أن ذلك المطلب هو علة النزاع ومحركه الاقوى، وإن اتخذ صوراً أو لبس عباءات أو تسلح بخطابات اخرى مختلفة. ونستطيع القول دون تحفظ ان النزاع بين الشيعة السعوديين وحكومتهم ، يدور في المقام الاول حول مسألة المساواة ، وهي ابرز القيم التطبيقية لمبدأ العدالة الاجتماعية. يطالب الشيعة بالمساواة مع سائر المواطنين وباحترام الدولة وحمايتها لحقهم في الاعتقاد والممارسة الحرة لشعائرهم الدينية ، وهذه مطالبات تندرج تحت عنوان العدالة الاجتماعية وان لبست رداء مذهبيا.
بكلمة أخرى فإن الذي يولَّد المشكلة ليس التنوع المذهبي بل التمييز الطائفي. الاختلاف المذهبي استعمل لتبرير التمييز الطائفي او لتعريف الفارق بين الجبهتين. عدم المساواة – مهما كانت مبرراته الدينية – ليس في حقيقته موضوعا دينيا ، بل هو موضوع سياسي. وحسب اندرسون فان الاحلام العنصرية تجد جذورها عند الارستقراطيين ، في الايديولوجيات الطبقية وفي دعاوى الارتباط بالسماء عند الحكام وكونهم انقى دما . الارستقراطيون هم اباء العنصرية الحديثة وليس البرجوازيين الصغار. لهذا السبب لا تجد استعمالات بارزة لدعاوى التمايز وسياسات التمييز خارج الحدود بل داخلها ، انها لا تستعمل لتبرير حروب خارجية قدر ما تستعمل لتبرير الهيمنة الداخلية[7].
ولو لم يكن التبرير المذهبي فعالا لراينا واجهات اخرى تلعب الدور نفسه. كمثال على ذلك، فإن الحكومة العراقية قبل 2003 كانت تقمع الاكراد العراقيين (السنة) تحت عنوان قومي وفي الوقت نفسه تقمع الشيعة تحت عنوان طائفي. ولذا اصبح الاكراد (السنة) حلفاء للشيعة العرب وليس للسنة العرب. كما أن الجماعات السلفية المتطرفة في الجزائر تقاتل الجزائريين السنة وليس الشيعة. وفي السودان تحالف مقاتلو دارفور المسلمين مع الجنوبيين المسيحيين أو الوثنيين ضد المسلمين الحاكمين في الخرطوم. واتخذت باكستان وكثير من الدول الإسلامية موقفاً مؤيداً أو متغاضياً عن الاجتياح الأطلسي (المسيحي) لأفغانستان ضد طالبان (المسلمة). ونعلم أيضاً أن أيًّا من الدول الإسلامية لم تعترف بجمهورية قبرص الشمالية التركية (المسلمة) حفاظاً على علاقتها مع اليونان والقبارصة اليونانيين (المسيحيين). وفي لبنان هناك على جانبي الصراع أطراف شيعية وسنية ومسيحية، وبعضها يصنف كحركات دينية. ويمكن جرد عشرات الأمثلة على هذا عن مجتمعات إسلامية كثيرة.  وهي كلها تشير الى "الجذر" السياسي للمشكلة و "الثوب" الطائفي الذي تلبسه وتقدم نفسها من خلاله.
يترجح اتخاذ الإطار والخطاب المذهبي/ الطائفي بالنظر إلى عاملين، أولهما قدرة هذا الخطاب على التعبئة والحشد وتوفير المشروعية ، اي فاعليته داخل الجماعة. اما العامل الثاني فهو قدرة الخطاب على ترسيم الحدود الجغرافية أو الاجتماعية لموضوع المشكلة. اي فاعليته خارج الجماعة . فهو من هذه الناحية يسهم في إقامة دائرة مصالح جديدة، يتحدد على ضوئها الأنصار المحتملون والأعداء المحتملون. ونعود هنا إلى الإشارة إلى أن كل مطلب اجتماعي وكل جماعة نشاط هي دائرة مصالح لها أعداء وأصدقاء محددون ومحتملون.
يلبس هذا التمايز رداء المذهب في مكان ، ورداء الدين في مكان اخر ، ورداء القومية في مكان ثالث ، لان الصراع يتطلب بالضرورة تحديد خطوط الفصل بين الجهتين المتصارعتين. وهذا هو الذي يدعو كلا الطرفين – الدولة والاقلية في الحالة موضوع البحث- الى الاشارة الى المذهب باعتباره مرجعا لخطوط الفصل بين هذه الجبهة وتلك. قد تعتبر هذه الاشارة من نوع الوصف الاجرائي الذي يستعمله الباحثون احيانا لتحديد موضع النقاش ، لكنه في الاستعمال السياسي لا يقتصر على هذه الغاية ، بل ينطوي – نتيجة لعوامل ثقافية وتاريخية – على موقف سياسي او اجتماعي. هناك بطبيعة الحال من يفكر في الدين او المذهب او القومية باعتبارها – بحد ذاتها – مرجعا للمعاملة غير العادلة ، مثل القول بفكرة التفوق القومي او الديني الخ. لكن مثل هذا المنطلق ليس شائعا.
بناء على التحليل السابق ، فان معالجة النزاع الطائفي يجب ان يركز على العوامل الجوهرية التي تقف وراءه ، اي فقدان العدالة الاجتماعية. وهذا يشير الى حقيقة ان الدولة هي المسؤول الاول عن المشكلة . فهي الجهة  الوحيدة القادرة على وضع وتنفيذ السياسات والاستراتيجيات التي ترسي العدالة الاجتماعية او العكس. التوزيع المنصف للموارد والخيرات العامة ، وتفعيل مبدأ تكافؤ الفرص والمساواة امام القانون هي امور تتعلق بشكل كامل بالدولة التي تملك وتدير تلك الموارد. ولهذا السبب فهي ايضا الجهة التي تتحمل مسؤولية وضع السياسات الكفيلة بمعالجة الاسباب التي تجعل الاقليات عاجزة عن نيل حقوقها من خلال الاليات القانونية والادارية المعتادة.



[1]  لتفصيلات حول الخراج واحكامه واستخدامه في تاسيس مبدأ الشراكة ، انظر توفيق السيف : نظرية السلطة في الفقه الشيعي ، الباب الثالث
[2] John Rawls, Theory of Justice, 6th ed. Harvard University Press, 2003, p. 194

[3] T. Nagel, “Rawls and Liberalism”, in Samuel Freeman, The Cambridge Companion to Rawls, Cambridge University Press, 2003, p. 63
[4] امارتيا سن : الهوية والعنف ، ترجمة سحر توفيق ، عالم المعرفة (الكويت 2008) ، ص 128
[5] برنامج "الحياة كلمة" (تلفزيون  MBC-1- 2 ابريل 2010).
[6] عبد الرحمن الوابلي: "سلمان العودة والعودة بنا لتكافؤات ما قبل الزواج"، (الوطن 9 ابريل 2010) http://bit.ly/n6e9db
[7] Benedict Anderson, Imagined communities, Verso (London 1991), p. 149

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...