‏إظهار الرسائل ذات التسميات الدين والمعرفة الدينية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الدين والمعرفة الدينية. إظهار كافة الرسائل

24/07/2004

تأملات في حدود الديني والعرفي/العلماني

ربما يكون كتاب "الاسلام واصول الحكم" للمرحوم علي عبد الرازق هو اكثر الكتب التي تذكر في الجدل حول ‏العلاقة بين الاسلام والسياسة ، رغم انه لم يكن اول من عالج المسالة. ولعل المجابهة الحادة التي ووجه بها ‏الكتاب ومؤلفه تعود الى ظهوره في ظرف ازمة ، الامر الذي جعله بالضرورة محشورا في وسط تجاذبات تلك ‏الازمة. وبالتالي فان قيمته العلمية لم يجر اختبارها ضمن اطاره الخاص كعمل علمي. ومن المؤسف ان ابرز ‏الاراء المتعلقة بدور الدين في الحياة العامة قد ظهرت - كما لاحظ رضوان السيد ايضا - في ظروف ازمة ، وكانت ‏بصورة او باخرى اقرب الى التساؤل عما اذا كان لمعرفتنا الدينية دور سببي او نسبة من نوع ما الى تلك الازمة.

الشيخ علي عبد الرازق

كون الازمات مولدة للاسئلة هو امر طبيعي تماما ، فهي تدل على وجود قدرة نفسية وثقافية لممارسة النقد ‏الذاتي ، لكني عبرت عن الاسف لان الوضع الطبيعي هو ان لا يقتصر التفكير في مكونات الثقافة وادوات توليد ‏المفاهيم والنطاقات المرجعية لقيم العمل ، على اوقات محددة سواء كانت اوقات رخاء او اوقات شدة. الثقافة ‏مثل الخبز ، اذا توقف انتاجه فلا بد ان يصاب المجتمع بالهزال الذهني كما يضعف الجسد اذا حرم الغذاء.‏

قبل عبد الرازق عالج الموضوع الفيلسوف الاندلسي ابن رشد في كتابه المعروف "فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال". ويتشابه العملان ‏في تحديد الاشكالية ، فكلاهما حاول تشخيص المساحة التي تخضع لتكييف الاحكام الدينية بالضرورة ، وتلك التي ‏تخضع لتكييف العرف بالضرورة

كلا العالمين اذن كان يهتم بتحديد المعايير ، أي الاجابة على سؤال : ماذا يصح وماذا لا يصح. ومن هذه الزاوية ‏فهما يختلفان جوهريا عن معالجة العلامة ابن خلدون الذي حاول في كتابه ''المقدمة'' وضع توصيف سلوكي ‏لكل من البعد الديني والبعد العرفي في الظاهرة الاجتماعية الواحدة ، لا سيما في صعود وسقوط القوى السياسية.‏

لم يهتم ابن خلدون كثيرا بتقييم صحة او سقم المقولات التي تجادل حول دور الدين او العرف. بل حاول من ‏خلال وصف الحراك الاجتماعي والسياسي ان يقدم تفسيرا عقليا لحدود فاعلية الدين من ناحية والعرف من ‏ناحية اخرى في تكوين الظاهرة وتطورها. وقد التفت بصورة خاصة الى الفارق الدقيق بين الحراك الذي طبيعته ‏دينية وذلك الذي طبيعته عرفية تلبس لباس الدين. واظن ان ابن خلدون قد سبق جان جاك روسو في الاشارة ‏الى تحولات الفكرة الدينية لدى ارتدائها ثياب الحركة الاجتماعية ولا سيما ظهور ما سماه الاخير بالدين المدني.‏

يبدو اذن ان المفكرين الثلاثة كانوا مهمومين بتحديد الخط المائز بين الدائرة الدينية والدائرة العرفية او - على ‏سبيل الاجمال - غير الدينية. لكن مقاربة الاولين كانت مقاربة تقييم بينما اتخذ الثالث مقاربة تحليلية وتفسيرية.‏

ويظهر لي ان التفكير في هذا الموضوع لا زال ابتدائيا ، فعلى خلاف ما يظن كثيرون فان الاعمال العلمية التي كتبها ‏مسلمون في هذه المسالة لا زالت قليلة ، وهي مهمومة الى حد كبير بالتوصل الى احكام اكثر من اهتمامها بوصف ‏حركة التفارق والتلاقي بين الديني والعرفي في داخل الظاهرة الاجتماعية الواحدة ، كما فعل ابن خلدون في الماضي. ‏بطبيعة الحال فالادوات الجديدة التي توفرت في نطاق العلوم الانسانية تقدم امكانات مراقبة وتفسير للظواهر ‏ادق مما توفر لابن خلدون في عصره.‏

يمكن فهم حركة التلاقي او التفارق بين الديني والعرفي ضمن سياقين : الاول هو التمايز بين الديني - او العرفي - ‏كايديولوجيا وفلسفة من جهة. أو كمسار تحول من المطلق الى المحدد. نحن نفهم مثلا ان تحويل الاحكام ‏الشرعية الى قانون رسمي يؤدي بالضرورة الى نقلها - فلسفيا ومفهوميا - من دائرة الدين الى دائرة العرف

‏اما السياق الثاني فهو سياق التفارق الناتج عن ظهور استقلالية كل واحد من النطاقات التي جرت العادة على ‏اعتبارها مختلطة او مشتركة ، مثل نطاق الدين ، نطاق الفلسفة ، نطاق الفن والادب ، نطاق السياسة ، نطاق العلم. ‏الخ. كل من هذه النطاقات مستقلة موضوعيا ، لكنها - ضمن بعض الظروف على الاقل - تبدو متشابكة مع ‏الدين. ان اكتشاف استقلالها لا بد ان ينعكس على تصنيفها ضمن الدائرة الدينية او تحويلها نحو الدائرة العرفية. ‏

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/7/24/Art_128685.XML

عكاظ  24/7/2004 م العـدد : 1133          

مقالات  ذات علاقة

-------------------

 تأملات في حدود الديني والعرفي


 

            

20/12/1994

التراث الاسلامي بين البحث العلمي والخطاب

 يتفق معظم المتحدثين في الثقافة العربية على ان الارث الثقافي الذي انتقل الينا من الاسلاف ، عظيم الفائدة اذا ما  اتخذ دعامة للجهد الهادف الى تجديد الحياة الاجتماعية في العالم العربي ، ذلك ان التراث ومعطياته الثقافية تشكل جانبا مهما من ذهنية الانسان العربي ، التي تتضمن تصوراته عن نفسه والاخرين ، وطريقة تفكيره وتطلعاته والقيم التي تنتظم حياته ، فهو من هذه الناحية  يمثل الوعاء الذي يحتضن مقومات هويته .

ويبدو لي ان العرب يتاثرون بموروثهم التاريخي بدرجة اعظم من اي شعب آخر، ربما لان تكون وتراكم هذا التراث ، قد تقارن زمنيا وموضوعيا مع قيام الامة العربية ، التي تكونت كحقيقة وكيان محدد الملامح ، في  ظل سيرورة تاريخية كان محركها وناظمها الاسلام ، بكل مافيه من عقائد وافكار وقيم ونظام حياة .

لهذا فمن الصعب بل من المستحيل التعامل مع التراث ، باعتباره قابلا للالغاء او التهميش ، فهو متموضع في مكان القلب من كل ماله علاقة بالثقافة في حياة الانسان العربي ، وعليه فان الخيار المنطقي هو التعامل ايجابيا مع التراث في اي عملية ثقافية تتعلق بالمجتمع العربي.

البحث عن منهج
 معظم الراغبين في التعامل مع التراث ، مثل الذين يشككون في مكانته ضمن المنظومة الثقافية العربية ، لايزالون ـ مع افتراض امثل الاحتمالات ـ يبحثون عن المنهج الاسلم في التعامل مع هذه التجربة التاريخية العظيمة ، بكلمة اخرى فاننا لانزال نفتقر الى منهج متفق عليه ، للبحث في التراث بل وفي المكانة التي ينبغي له ان يحتلها كمرجع او كمقياس .
وفي هذا المستوى فان الجدل الاساسي ينصب على مايفترض انه قراءة انتقائية للتراث ، لاتاخذ بعين الاعتبار مجموع العوامل التي تتشكل منها التجربة التاريخية للامة ، بل تنتقي مايرى الباحث فيه تدعيما لرأي يتبناه او يدعو اليه ، ولذلك تجد تكرارا ان باحثين يدعون الى اراء متناقضة ، بامكانهم العثور على مايكفي من الادلة من تلك التجربة لكي يدعم كل منهم رايه ، مما يثير الشك في صحة المرجعية التي توفر الدعم للراي ونقيضه في آن واحد .

الخطاب الجماهيري
بالنسبة للباحثين المحترفين فان القضية تبدو اسهل تناولا ، اذ يبدو من السهل الاتفاق معهم على ايجاد تراتب منهجي، بين ماهو دين (نص ديني ) وماهو معارف دينية (شروح او تفاسير او استنباطات من النص ، او اجتهادات محكومة بالقواعد المنصوصة) وماهو علوم تبلورت بموازاة العلوم  الدينية ، دون ان تكتسب المرتبة الخاصة بالعلوم الدينية ، او علوم تبلورت في الاطار الاجتماعي للجماعة المسلمة ، فهي منسوبة للمجتمع وليس الدين  .

لكن الصعوبة تاتي من الاختلاط القائم بين البحث العلمي والخطاب الجماهيري ، اذ يضطر المتحدث الى عامة الناس ـ بحكم العادة ربما ـ  لعرض العديد من العناصر التاريخية او الثقافية التراثية المصدر ، من اجل اثارة حماسة المستمعين ، وقد جرى العرف على التساهل في الاستدلال بما يبدو ـ ظاهريا على الاقل ـ غير مخالف للاحكام الشرعية ، من اجل تشجيع الناس على الاهتمام باعمال الخير او توجيه افكارهم الى الحقائق التي لاينبغي لهم ان يغفلوها .

وهذا المنهج على الرغم من سلامة مقاصده ، يؤدي ـ في احيان كثيرة ـ الى اشاعة افكار او قيم لايمكن التاكد من صدقيتها ، نحن نعلم ان الناس يتاثرون بالخطاب الذي يحوي اكبر قدر من الشواهد والاشارات الحادة ، المثيرة للنشاط الذهني في بعد واحد ، وهم يستريحون الى حشد الادلة وراء الفكرة التي يُدعون اليها ، الفكرة العامة ، المطلقة والاحادية البعد ، التي لاتحتمل ـ في اذهانهم على الاقل ـ النقض او التخصيص  .

 ويمكن لنا ان نستوعب خطورة هذا المنحى ، اذا ما وضعنا الافكار المتداولة بين عامة الناس عن الدين والتاريخ على مائدة النقد ، واقمنا مقارنة بينها وبين ماهو ثابت الصحة ، عندها سنكتشف ان العديد مما يتداول باعتباره بديهيا او متعارفا على كونه صحيحا ، هو في الحقيقة غير ذلك ، وقد جمع الشيخ ناصر الدين الالباني نحو خمسة الاف من الروايات ، المنسوبة للرسول عليه الصلاة والسلام ، مما تحفل به الكتب ويتحدث عنه المتحدثـون ، وهي مشكوكة او كاذبة ، وقد وجدت بينها عددا كبيرا مما تسالم الناس على صحته ، وتعارف المتحدثون على قوله باعتباره ثابتا بل بديهيا ، ومثل ذلك يمكن القول عن القضايا التاريخية والاراء في مختلف القضايا والامور ، مما يحتاج الى تمحيص ، لكنها تقال للناس من باب التساهل او الطمع في ان تساعد على اقناعهم بالافكار الصحيحة ، لكنها ـ بعد زمن ـ تصبح جزءا من ذاكرة الناس وتتداخل في النسيج الاصلي فلايعود من الممكن ـ عند غير الباحثين المختصين على الاقل ـ  تمييزها عن العناصر الصحيحة .

زمن العجلة
ومما يزيد الطين بلة ان كثيرا من المشتغلين بالشأن الثقافي ، ممن يتحدثون للناس او يكتبون لهم في وسائل الاعلام المختلفة ، لاينفقون في البحث العلمي من وقتهم الا القليل ، وقد وجدت من متابعة لعدد من هؤلاء ان معظمهم لديه اختصاص معين لكنه يتحدث في كل قضية ، كما لو انه قد كشف له غطاء العلم ، فهم في ممارستهم للدعوة والتبشير بالافكار التي يتبنونها ، لايتوقفون عن الحديث في اي موضوع طالما كان يخدم تلك الافكار ، بغض النظر عن قدرتهم على التعامل معها او نقدها ،  وغالبا ماتجد احدهم شاغلا كل وقته في الكتابة او التبليغ والحديث الى الناس ، بحيث لايتبقى لديه سوى القليل جدا من الوقت يصرفه بالكاد في استذكار مايريد الحديث عنه في اليوم التالي ، ومثل هذا لايستطيع تخصيص الوقت الذي يحتاجه ـ في العادة ـ من يريد التمحيص ، وياخذ على نفسه التحقق من كل امر قبل اعلانه على الناس . هذه الطائفة من المشتغلين في الشان الثقافي هي الاكثر تواصلا مع الناس ، وهي في الوقت ذاته اقل محترفي العمل الثقافي بذلا للجهد في الانتخاب والاختيار .

وجود مثل هذه الحالة ، وهي امر واقع لايسع احد الغاءه ، هو مما يؤكد الحاجة الى بحث واسع يستهدف تقييم العناصر المختلفة التي يتشكل منها موروثنا الثقافي ، لابراز ماهو صحيح وتسليط الضوء على ماهو مصطنع او فاقد الصلاحية ، وهذا بدوره يدعو الى ايجاد منهج نقدي متوافق عليه لتقييم تلك العناصر ، اضافة الى اشاعة مناخ من التسامح ، يوفر الفرصة لنقد الافكار التي يعرضها هذا او ذاك من المتحدثين في الشأن الثقافي ، حينها سيكون كل متحدث مطمئنا الى ان مايعرضه يتمتع بالموثوقية او مواجهة النقد ، حتى لاتقال الافكار للناس ، فيترك الغث منها والسمين يدور في الانفس فيبني من جهة ويهدم من جهة اخرى .

نشر في (اليوم) 17 رجب 1415 - (20 ديسمبر 1994)



مقالات ذات علاقة :

مقالات  ذات علاقة
-------------------


27/09/1994

في تعريف الإسلامية



؛؛جدل الفاظ اثاره قيام تفريعات في الامة الاسلامية تستقطب بعض مرجعية الامة ومحوريتها ؛؛


(الطابع الاسلامي هو ميزتنا) تستوقفك هذه العبارة التي اختارتها احدى الشركات التجارية عنوانا لبرامجها الدعائية ، وتتساءل هل ثمة تجارة اسلامية وأخرى غير اسلامية ؟ وعند متابعة اوسع ستجد ان وصف الاسلامية يستعمل في موارد اخرى تزيد كثيرا عن هذا المورد ، فثمة جمعية للادب الاسلامي ، وأخرى للطب الاسلامي ، وثمة شريط اسلامي ، وبنوك اسلامية ، وشركات تامين اسلامية ، وكتاب اسلاميون وو .. وهلم جرا..

اذا شئت اختيار الراحة من عبء التامل في معاني الوصف واسبابه ، فسيكون بوسعك اعتباره وسيلة للتمييز بين شركة تلتزم المعايير الاسلامية في معاملاتها وبين سواها ممن لايلتزم ، وربما وجدت سببا مثل استقطاب الزبائن الراغبين في التعامل مع شركات او بنوك موثوقة ، وثمة موصوفين لايرجع وصفهم الى اي من هذه الاسباب بل لكونه مسلما وحسب ، مثلما كان العربي يسمى تركيا في امريكا اللاتينية حتى العقد السادس من هذا القرن ، بالنظر الى تبعية بلادهم السابقة للدولة العثمانية .

لم يكن وصف الاسلامية شديد الاثارة في الماضي ، لكنه منذ نحو عقدين من الزمن   اتخذ معنى مميزا ، يشير عادة الى التزام شخصي معبر عنه بمتبنيات ايديولوجية وتمحور اجتماعي خاص ، لا كما كان في السابق مجرد انتماء عائم ، وزاد من اسباب الاثارة ، قيام محاولات في بعض الاحيان لصرف الوصف عمن هم خارج هذا الاطار المميز ، أو اشتراط ان يكون الموصوف معروفا بالصفاء في الظاهر والباطن ، حتى يصبح مستحقا لهذا الوصف ، ولانريد عرض امثلة سياسية نظرا لكثرة المختلف فيه منها ، لكن حتى في قضايا الحياة العامة فهناك من ينكر اسلامية العديد من الطروحات او الثقافات او التيارات ، وحتى انتماء الاشخاص الى الجماعة المسلمة ، بناء على خلافهم له في طروحات او اتجاهات فكرية أو اجتماعية .

وربما راى البعض في هذا النزاع مجرد جدل لفظي لاقيمة له من الناحية الواقعية ، لكنه في تقديري احد اهم الموضوعات التي ينبغي مقاربتها بحثا وتحليلا ، بالنظر الى التاثيرات المهمة التي تنطوي عليها نتائج الجدل ، ان وصف موضوع ما بالاسلامية يعطيه قيمة اضافية ، تتأتى من ارتباطه الشديد برغبة المسلم في تأكيد ذاته ، ووجود الشوق العام لرؤية التطبيقات الحياتية للدين الحنيف ، مما يجعله مادة للاستثمار على مختلف الاصعدة ، فهو فرصة من جهة ، ولكنه سبب للقلق من الجهة الاخرى .

هو فرصة اذ يساعد على اكتشاف فوائد الالتزام الديني ، وفي الكويت ـ مثلا ـ نجح احدث بنوكها (بيت التمويل الكويتي) في استقطاب اكبر عدد من المودعين بين البنوك الكويتية نظرا لتركيزه الاعلاني على الالتزام بالمعاملات الشرعية .

وهو من الناحية الاخرى سبب مشروع للقلق ، حين يصبح الوصف سبيلا لعزل الاخرين أو اعتزالهم ، لفاعلية مايثيره من شعور بالاكتفاء والاستغناء ، يقول لي احد الاساتذة ساخرا (نحن مثال للاكتفاء الذاتي ، نؤلف الكتب ونطبعها ثم نقرأها ، لان خطابنا لايقنع الا من كان مقتنعا بنا اصلا) ، وفي هذه الحالة فان الذات تتضخم وتختفي عيوبها تحت ركام من شعور التفوق المبالغ فيه ، كما يجري تغطية حالات العجز بالبلاغة اللفظية او استعارة عناصر من هنا وهناك وتلفيقها ضمن اطار منمق ، للخلاص من الاحساس الداخلي بالقصور.

ومنه يتضح ان وصف الاسلامية قد يستعمل في التاكيد على الحاجة الى اعادة المضمون الديني في الحياة العامة ، كما قد يستعمل كقشرة انيقة لموضوعات لاتختلف ـ في الحقيقة ـ عن اي من نظائرها الاخرى غير المميزة بالوصف .

 الفكرة والجماعة
يطلق وصف (الاسلامية) على الموضوعات المختلفة في احدى حالتين : اما لكونها مؤسسة ومتشكلة وفق المعايير الشرعية ، او لكونها قد تشكلت ضمن الاطار الاجتماعي للجماعة المسلمة ، ونجد امثلة على الحالة الاولى في المحاولات الهادفة لتاسيس نظام مصرفي متحرر من الصور الربوية في انتقال راس المال ، وفي تأسيس نمط أدبي ملتزم بالدعوة الى الدين الحنيف ، كما في المساعي التي يبذلها مفكرون لاستنباط نظام للمعرفة متوافق مع الشريعة وقادر على استيعاب متغيرات العصر ، فهذه توصف بالاسلامية نظرا لمضمونها .

وعند الحالة الثانية نجد أمثلة في وصف العلوم ، سواء التجريبية او الانسانية فضلا عن الكثير من التطبيقات ، فثمة من يتحدث اليوم عن الطب الاسلامي وفن العمارة الاسلامية وغيرها ، ويدافع عن اسسها وتطبيقاتها كما يدافع عن الدين ، ان مرجع هذا الوصف هو الانتماء الاجتماعي وليس الايديولوجي ، فالطب الاسلامي الذي اصبحت له جمعية خاصة يرعاها الوزير د. عبد الرحمن العوضي ، يعني ـ في الغالب ـ انواع التشخيصات والاساليب العلاجية التي ابتكرت او تم تطويرها في عصر الدولة الاسلامية القديمة ، ولم يكن سوى ابتكارات للبشر الذين وجدوا في ذلك الزمن ، ولعل بعضها تطور على يد علماء غير مسلمين ، كما ان بينها ما يرجع باصوله الى حضارات اخرى سابقة  ، وقد انتقل الى العالم الاسلامي في اطار التفاعل الذي كان نشطا ، من خلال الترجمة ، لاسيما في العصر العباسي ، او من خلال العلماء والاطباء الذين وفدوا الى المدن الاسلامية الرئيسية ، فنسبته الى الاسلام لايعدو في الحقيقة النسبة الى المسلمين ، ومثل هذا يقال في العمارة الاسلامية التي اصبحت عند المهندسين المعاصرين مجرد فن للتشكيل الخارجي ، يعبر عنه بالاقواس وانواع الزخرفة التقليدية والكتابة المنقوشة ، بينما كان في الاصل يعبر عن اساليب البناء المعتمدة على المواد الاولية المتوفرة في البيئة ، والمناسبة للظروف المناخية ، اضافة الى محددات الاستعمال الاجتماعي للمكان ، فهي نتاج لحاجات المجتمع ومتطلباته المعيشية .

قد يقال ان تطبيقات هذه العلوم تعبر بصورة او بأخرى عن المضمون الديني لحياة الجماعة ، فهي من هذه الزاوية تعبير عن الفكرة ، والحقيقة ان هذا المضمون المزعوم ، ليس الا التشكيل الانساني للفكرة بعد اخراجها من تجريدها الاولي ، فهي ليست امتدادا مباشرا لها ، بل للمجتمع الذي استخدمها .

  واذا كان التبادر علامة الوصف الحقيقي للمعنى ـ كما يقول اللغويون ـ فان مايتبادر الى الذهن عند اطلاق وصف (الاسلامية) هو كلا المعنيين ، معنى انتماء الموصوف الى الجماعة المسلمة ، ومعنى انتمائه الى الفكرة الاسلامية ،  فكلا الاطلاقين صحيح تماما ، ولاينبغي ان يتخذ احدهما كوسيلة للتعامل السلبي مع الغير.

 انه في حقيقة الامر جدل الفاظ ، لكنه لاينطلق من اسباب لفظية او قليلة الاهمية ، كما انه لاينتهي عند الحكم بعدم قيمته ، فهو يتداخل بصورة كثيفة مع نظام القيم الخاص بالجماعة المسلمة ، لاسيما في الوقت الراهن الذي يشهد تغيرا ملحوظا ومستمرا في القيم والاعتبارات ، ان اهميته ايضا لاتتعلق بتقييم من يعتبرون أنفسهم مؤكدي الاسلامية لموضوعات او اعمال تجري خارج اطاراتهم الخاصة ، فهو أيضا وثيق الصلة بالكثير مما يفعلونه هم انفسهم ، بل وما يطرحونه من افكار ومن لغة خطاب .

وفي تقديرنا ان الخلاف حول تحديد الاسلامية ، او صحة اطلاق وصف الاسلامية على الموضوعات الجديدة ـ خصوصا ـ ناشىء عن تراخي أهمية الجماعة المسلمة الكبرى (الامة) بوصفها مرجع انتماء ومحور التقاء ، في مقابل ارتفاع اسهم الجماعات الجانبية التي تشكلت في وسط الامة ، واستقطبت ـ بالتدريج ـ المرجعية والمحورية ، فاصبحت مرجعية الامة عائمة وضبابية بينما ازداد وضوح وتحديد مرجعية الجماعة الصغرى ، لتصبح هي الاصل ، وهذا يعني انه صار في وسع الجماعة الصغرى وضع الامة على مائدة التقييم ليجري نقدها اعتمادا على ادوات الجماعة الصغرى ، الثقافية والسياسية وغيرها ، بعكس المفترض ، حيث يعتبر استمرار الامة ووحدتها وتقدمها ، ثابتا شرعيا وتاريخيا بالنسبة لابنائها ، مقدما على كل تفريع اجتماعي او فكري جديد .

ولحسن الحظ فان مرجعية الجماعات الصغرى ، لم تصل الى درجة النظر في اسلامية عامة الامة ، مع ان بعضها قد حكم بالفعل بخروج جماعات اخرى من الامة عن الدين ، او انحرافها عن خطه المستقيم ، لكن في مثل هذه الاطارات الانعزالية ، ستجد غالبا ان الفرص مهيأة لولادة دعوات التكفير وامتهان قيمة الوحدة .
نشر في اليوم 27-9-94

مقالات  ذات علاقة
-------------------


الانتقال الى الحداثة

بعد جدالات الاسبوعين الماضيين ، قد يسألني القاريء العزيز: لنفترض اننا اردنا التحرر من أسر التقاليد المعيقة للتقدم والتكيف مع روح العصر ومتط...