‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحداثة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحداثة. إظهار كافة الرسائل

14/04/2011

الحداثة تجديد الحياة


د. توفيق السيف: الحداثة مرتبطة باستمرار الحياة وليست حجرا
الاحساء 10 مارس 2009
منال الحليفة - التوافق
لم تمنع العاصفة الرملية وظروف المناخ السيئة نخبة المثقفين من حضور واثراء محاضرة الدكتور توفيق السيف (الحداثة وتجديد الحياة) ، مما اثرى النادي بوجودهم كانت هذه الكلمات للدكتور يوسف الجبر رئيس النادي الادبي بالاحساء  قالها شاكرا للمحاضر في ختام محاضرته التي اقيمت في النادي يوم الثلاثاء 10 مارس 2009 الموافق 13/ 3 /1430هـ 
ولم يكن تواجد نخبة المثقفين في المنطقة بالمستغرب في محاضرة للدكتور توفيق السيف اذ تميز بالاسلوب السلسل المشوق المترابط العميق المبسط في ذات الوقت او كما وصفه مقدم المحاضرة الاستاذ محمد الحرز بقوله (السهل الممتنع الذي يذهب الى فكرته مثلما يذهب الطفل الى لعبته) و( يعطي الكثير حول جدية الحياة )
ابتدأ الدكتور توفيق السيف الحاصل على دكتوراه في العلوم السياسية والعضو في مركز الدراسات العربية محاضرة الحداثة بمقدمة بين فيها ان ( التفكير في الاشياء هو الذي يأتي بالعلم ) مستحثا عقول الحضور ذكورا او اناثا في تقبل ما يريد التحدث به مضيفا ( ان العلم هو نتاج عصره وليس نتاج الاشخاص ) ليدخل في تعريف الحداثة والتي اختصرها في جملة ( تجديد الحياة) او كلمة ( المعاصرة ) والتي وجدها السيف قريبة من الاجتهاد الذي يفتح ابواب تعديل الاحكام وفقا للعصر الذي نعيش فيه.
واعتبر السيف أن الزمن عامل مهم في الحداثة التي (تعني بالحاضر والاتي وتتخذ  الماضي مصدرا للقيمة )حيث الزمن مهم في تحديث وتجديد وتطوير فكرة ما وفق احتياجات معينة
ووجد السيف ان اصل الجدل حول الحداثة هي قناعة توصل اليها مفكرون اعتقدوا ان الحداثة تهدف الى تغير التقاليد باتجاه جديد اكثر انسجام متوافق مع قدرات والحاجة الراهنة وهذا خلاف اصل الحداثة التي (تعتبر تجديد الحياة على ايدي الاحياء وفق مصالحهم) وضرب السيف امثلة على حداثة رفضت ثم تبين اهميتها او فاعليتها مثل تعليم البنت سابقا او العمل في ارامكو او غيرها
وشبه السيف رفض فكرة الحداثة بمن يتحدث عن لوحة بلون واحد فقط التي  تمثل  طبيعة الحجر لا الحياة فالحداثة مرتبطة بالحياة مع استمرارها.
عن شبكة التوافق الاخبارية
http://www.altwafoq.net/index.php?/article/172425

ابرز عناصر المحاضرة

ايهما افضل سيارة حديثة ام سيارة قديمة
ايهما افضل طب حديث ام طب قديم ، فكرة قديمة ام فكرة حديثة ، اسلوب عيش حديث ام قديم ؟ .
 لو سأل اي منا نفسه هذا السؤال لاجاب بالتاكيد : الحديث افضل .. لماذا يكون الطب الحديث افضل من القديم؟
- لان الطبيب الحديث يجمع معارف القدماء ويضيف اليها ما جاء بعدها .
الحداثة ببساطة شديدة هي المعاصرة ، الزمن يصبح عنصرا في تشكيل المعرفة والتقييم.
-         هل تبدو هذه قريبة الى فكرة الاجتهاد في الدين؟ الاجتهاد الذي يعيد تشكيل المسالة على ضوء عامل الزمان والمكان والجماعة؟.
ثمة جدل واسع حول الحداثة ، وفي معظم هذا الجدل ثمة خلط غير مقبول بين تعريفها الاولي وبين تشريح مراحلها التاريخية وتطبيقاتها . ولهذا فمن المهم العودة الى اصل المسالة بدل الانشغال في تداعياتها .
اصل الحداثة هو قناعة توصل اليها مفكرون بالحاجة الى تغيير نمط الحياة والثقافة والتقاليد السائدة نحو نمط جديد اكثر انسجاما مع قدرات الجمهور وحاجاته وظروف حياته الراهنة .
التغيير ليس مهمة يسيرة ، لان الناس بطبعهم اميل الى قبول ما اعتادوا عليه. كثير من الناس ترتبط مصالحهم بالوضع القائم ، ولذا فهم يعارضون اي تغيير ربما يضعهم امام مجهول ، او يضعف من قدرتهم على ضمان تلك المصالح.
الحداثة – ببساطة – هي تجديد الحياة على ايدي الاحياء ووفقا لمراداتهم ومصالحهم . ليس شريحة معينة ولا طبقة خاصة ، بل جميع الاحياء ، جميع الناس .
وفقا للقاعدة المعروفة ، فانه اذا انتفع اكثر الناس من التغيير فان الجميع سيحصل على فرصة لمنافع جديدة ، حتى اولئك الذين كانوا يخشون من التغيير .
امثلة من واقع بلادنا ..
في اوائل القرن عارض بعض وجهاء البلاد وعلمائها تحديث التعليم خوفا من التغريب ، فما هو رأيهم الان ؟..
هل يرون وهل ترون جميعا في ما حدث منفعة ام تتمنون لو بقي الحال على ماكان في بداية القرن.
في ذلك الوقت عارض بعضهم الاذاعة والتلفزيون واخيرا البث الفضائي .. لكنهم وجدوا بعد ذلك انه يوفر  فرصا جديدة للتواصل مع جمهورهم .
على مستوى الدولة عارضوا تخصيص الخدمات العامة ، لكننا ندرك اليوم ان تخصيص الهاتف قد انهى مشكلة عويصة . عارضوا السفر الى البلدان الاجنبية ، لكننا نعرف اليوم ان هذا كان سبيلا الى تحسين حياة الناس وثقافتهم .
ما المشكلة اذن ، ولماذا اصبحت الحداثة محل جدل في مجتمعنا ؟
- هذه بعض الاسباب المحتملة :
1-    كونها جاءت في سياق الانفتاح الحضاري على الغرب
2-    لان الحراك الثقافي في مجتمعنا قائم على التلقي لا النقد
3-    لاننا مجتمع قلق ، ينظر للامور بقلبه وعقله معا ، ولهذا فهو يخلط – بصورة لا ارادية بين المعرفة والقيمة .
معالجة هذه الاسباب هي جزء من الانتقال الى الحداثة ولهذا سوف نركز عليها .
العلاقة الملتبسة مع الغرب:
هل المشكلة في الغرب ام في غرابة الحداثة.
هناك كلام كثير عن الاطار المعرفي الذي تطورت فيه فكرة الحداثة . لكني ساقترح عليكم تحليلا مختلفا للموضوع . المشكلة في ظني ليست في كون الفكرة غربية ، بل في كونها غريبة . كل الذين جربوا الحداثة مقتنعون اليوم بانها خيار افضل . ولنتذكر نفس الامثلة السابقة ونظرتنا اليوم اليها .
نعم .. فكرة الحداثة جاءت من الغرب .. لكن لماذا نناقشها من الخارج ، فنقول اننا نرفضها او نقبلها ؟.. بدل الرفض المبدئي ، دعنا نفككها ، نحذف المزعج منها ونعيد انتاج المريح والمقبول ضمن نسيجنا الثقافي الخاص. مباديء الحداثة هي القطار الذي حمل الغربيين الى الح
ضارة المعاصرة .. فهل نستطيع تكرار التجربة؟
تكرار التجربة مشروط بتبيئة الحداثة ،اي جعلها منتجا محليا متناغما مع هويتنا وحاجاتنا .
ترى هل نستطيع تبيئة الحداثة ؟
- نعم ولكننا نحتاج الى بعض التمهيدات واولها تعديل السياق الثقافي من التلقي الى النقد
الحراك الثقافي في مجتمعنا قائم على التلقي لا النقد.
ما هو الفرق بين الاستماع الى محاضرة يلقيها عالم وبين مناقشة العالم ؟
- لقد اكتشفتم جميعا هذا الفارق ، على الاقل من خلال المقارنة بين المحاضرات التي تلقى في التلفزيون وبين الحوارات التي تجريها ذات القنوات ..
الفارق بين الاثنين هو في الموقف النقدي للمحاور والمناقش .. في المناقشة يستمع الانسان الى ما يقوله المتحدث بينما يبحث عقله عن نواقص الحديث ، وحين يرد بسؤال اخر فانه سينبه المتحدث الى ذلك النقص ، ومن هنا فسوف يشترك الطرفان في التفكير وفي صناعة الفكرة . الجدل يخلق افكارا جديدة ويسمح بدخول الطرفين الى عمق الفكرة بدل الوقوف عند اطرافها .
هناك بشكل عام نوعان من الثقافة : ثقافة الاجوبة وثقافة الاسئلة . ثقافة الاجوبة هي نهايات للعلم ويميل الناس اليها لانهم يرغبون في جواب يريحهم ، اما ثقافة الاسئلة فانها طرق العلم ولا يرغب فيها اكثر الناس لانها متعبة ، فهم يعملون فيها اذهانهم ولا يصلون الى جواب اخير. بطبيعة الحال كلا النوعين ضروري ، لكن الاول ينتهي الى ما يسمى بالتقنيات ومكانه دليل استعمال الاجهزة . اما الثاني فهو العلم الحقيقي الذي يقود الانسان خطوة خطوة الى كشف الغيب.
العقل النقدي هو ابرز اعمدة الحداثة. التلقي والتلقين هو ابرز اعمدة التقاليد. العقل النقدي يعطيك سلاحا لفهم الاشياء واستيعابها، قبل الحكم عليها، اما عقل التلقين فهو يجردك من سلاحك، اي من عقلك. ورد في الاثر " اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل دراية لا عقل رواية فإن رواة العلم كثير و رعاته قليل".
لماذا شاعت ثقافة التلقي والتلقين بدل ثقافة الجدل والسؤال؟
السبب في رايي هو القلق على الهوية والقلق على الوحدة . والعلة الكبرى لهذا القلق هو الخلط بين المعرفة والقيمة.
الخلط بين المعرفة والقيمة
مجتمعنا قلق ، ينظر للامور بقلبه وعقله معا ، ولهذا فهو يخلط – بصورة لا ارادية - بين المعرفة والقيمة . بعبارة اخرى : حينما نسمع عن شيء مثل الحداثة ، فان سؤالنا الاول هو : هل هي جيدة ام سيئة ؟ هل تتفق مع قيمنا ام تعارضها . وهذا سؤال سابق لوقته وغير سليم ..
السؤال الاول الصحيح هو : ماهو هذا الشيء الجديد ، ما هي مكوناته ، وهل فيه شيء يفيدنا ام لا ، وما هي خلاصة تجارب الاخرين فيه . وهل نستطيع تعديله كي يتوافق مع حاجاتنا .. 
هذه هي الاسئلة الصحيحة التي ستقود بالطبع الى فهم لماذا يكون الشيء موافقا او مخالفا لقيمنا . ونشير في هذا الصدد الى نقطتين:
الاولى :  مناقشة الجديد تحتاج الى تسامح المجتمع ازاء الافكار المختلفة والمتنوعة ، اي قبوله بالجدل في كل المسائل . نحن نكره الجدل لاننا نظن انه يؤدي الى الخلاف والنزاع ، وهذا قد يكون صحيحا ، لكننا – بسبب هذا القلق – ضحينا بالفائدة الاهم للجدل ، اي تنشيط العقول وابتكار الافكار الجديدة . ولهذا نحن نميل – بصورة لا اردية ربما – الى ايكال التفكير الى اشخاص محددين نعتبرهم نخبة القوم ، ونطالبهم بان يقولوا لنا ما ينبغي ان نأخذ به.
من ابرز اركان الحداثة هو مبدأ الفردانية ، الذي يعني ان كل فرد يجب ان يشارك في التفكير وان كل فرد يجب ان يطور معرفته من خلال المثاقفة والتامل والتجربة. الحركة الثقافية ضمن اطار الحداثة ليست نشاطا نخبويا يقوم به افراد معينون بل تجربة اجتماعية يشترك فيها الجميع.
في تجربة المجتمعات الغربية ، كانت الكنيسة تعتقد ان العلم كله موجود في مكتباتها . وبالمناسبة كانت مكتبات الكنائس الكبرى هي المكان الوحيد الذي حفظ تراث الانسان ، لكنه ايضا حدد طريقة استعماله. كان الاعتقاد السائد ان كل علم يخالف ما فهمه الرهبان من الكتاب المقدس فهو علم باطل وممنوع. فى عام 1600م تم احراق جيرانو برونو ، الذي طور فيزياء كوبرنيكوس, حيا ،  في احدى ساحات روما  ، بامر من محكمة كنسية ، لانه قال بعلم يخالف ما تاخذ به الكنيسة . بعد ذلك بثلاثة عقود من الزمن اعتمد  جاليليو على نفس الفكرة ليطور التلسكوب ، ويطرح نظرية حول كون الشمس مركز الكون . حكم على جاليليو  بالسجن المؤبد في 1633 لانه قال بما يخالف نظرية بطليموس التي تتبناها الكنيسة. لكن الكنيسة برأته في 1979. كانت فيزياء جاليليو الاساس الذي بنيت عليه فيزياء نيوتن ومن جاء بعده. ولولا نظرياته الابداعية في علم الفلك والفيزياء لما كان لدينا اليوم طيران او اتصالات فضائية.
الثانية : كي تحكم على الاشياء تحتاج الى معرفتها بدقة . وهذا يعني ان تؤخر الحكم عليها الى ما بعد المعرفة . القلق على تاثير الجديد على هويتنا وقيمنا هو الذي يجعلنا زاهدين في الاشياء الجديدة. ولهذا فاننا بحاجة الى التاكيد على الخط الفاصل بين المعرفة والقيمة كي لا نقبل بالاشياء لمجرد جمالها ولا نرفضها لمجرد غرابتها .
نقاط تكميلية :
الحداثة تقدم الجديد على القديم لكنها لا تلغي القديم بل تستثمره كمرجع .
الحداثة تقدم العلم على المعتقد والعقل على القلب ، لكنها لا تلغي المعتقد ولا القلب.
الحداثة تعتبر الناس جميعا سواء في التفكير وصناعة القيم لكنها لا تلغي دور النخبة .
الحداثة تؤمن ايمانا مطلقا بالغيب وترفض الوثنية .. ما وراء الحجاب هو فرصة تستحق البحث والتحدي.
 الحداثة تفكر في تسخير الطبيعة لا الوقوف بخوف امام صعوباتها .
كيف نفكر في الحداثة وكيف نتعامل معها :
ما الفرق بين شراء كتاب وقراءة كتاب ؟ ما الفرق بين شراء وردة او زراعة وردة ؟ بين شراء سيارة وتصميم سيارة ؟
انتم ترون ان اشخاصا كثيرين يشترون كتبا ، لكن هل يقرأونها جميعا ؟ . عشرات الناس يشترون الورود لكن كم عدد الذين يزرعونها في منازلهم ؟.
تشير هذه الاسئلة الى الفارق بين نوعين من السلوك الانساني : سلوك يدور حول امتلاك شيء وسلوك يدور حول تجربة الشيء . الذي يشترى كتابا يملك الورق ، اما الذي يقرأ فهو يخوض تجربة ثقافية ، يقوم خلالها بتعديل افكاره ، باضافة اشياء او حذف اشياء او تعديل اشياء في ذهنه . كذلك الذي يزرع الوردة ، فانه يخوض تجربة ، يقيم علاقة مع التراب والشجر والماء والالوان والزمن . يتحقق الامتلاك في لحظات ، اما التجربة فهي تحتاج الى وقت لانها تنطوي على تغيير في سلوك الانسان وفي اهتماماته وفي اولوياته ، في الاشياء التي يحبها او يكرهها. ولهذا السبب فان علاقتنا مع الغرب ملتبسة ، نحن نحب اقتناء وتملك منتجات الغرب ، لكنا لا نريد خوض تجربة العلاقة مع هذه المنتجات . الافكار والفلسفة والقوانين لا تختلف كثيرا عن السيارة والساعة والكمبيوتر .
معظم الناس يحرصون على اقتناء وامتلاك هذه الاشياء لكن قليلا منهم يرغبون في تفكيكها واعادة تركيبها او تعديلها ، اي الدخول في علاقة نقدية غرضها الفهم والاستيعاب ثم الحكم.  العلاقة النقدية هي تجربة تنطوي على محاولة للمعرفة الكاملة بالموضوع ، اي تفكيكه ثم اعادة تركيبه . وبالتالي فهم المنطق الذي يعمل وفقا له .
بدأت علاقتنا مع الغرب منذ زمن بعيد ، ولا زالت مثلما بدأت . نحن ننظر الى الصناديق التي يصدرونها الينا ، سواء كانت صناديق حديدية تحتوي اشياء اسمها سيارات ، او صناديق ورقية تحتوي اشياء اسمها افكار . ننظر اليها من الخارج ، نحاول امتلاكها ، نقبلها او نرفضها كما هي ، لكننا لا نفتحها ، لا نفككها ، لا ننظر الى ما في داخلها .
الذي يفكر في الامتلاك يريد الشيء المملوك جميلا وجذابا يتناسب مع ذوقه . ولهذا فهو يرفض كل ما لا يتناغم مع ذوقه او ميوله. والذي يفكر في التجربة قد يخوض الصعاب ويتحمل الالم حتى نهايتها. انظروا مثلا الى مفكر ينفق سنوات طويلة من عمره كي ينتج كتابا يستحق القراءة او يصمم جهازا يفيد الناس او يتوصل الى نظرية او حل لمشكلة ، مع انه شخصيا لا يستفيد منها بشيء. هذا الرجل يحركه الايمان بالتجربة لا التملك.
تذكروا راي مالك بن نبي عن الفارق بين المسلمين واليابانيين في تعاملهم مع حضارة الغرب ، اولئك ذهبوا كزبائن وهؤلاء ذهبوا كمتعلمين وتعرفون النتيجة التي توصل اليها كل من الطرفين.
خلاصة الكلام ان الحداثة ، مثل كل الافكار الجديدة الاخرى هي منتجات بشرية وليست صناديق مقدسة ، يمكن لنا ان نفتحها ونفككها ثم نعدل فيها ما نشاء ثم نعيد تركيبها على نحو ينسجم مع مراداتنا وظروفنا وتصوراتنا عن انفسنا وعالمنا. الحداثة ليست نصا منزلا ولا قطعة من الجوهر نخشى ان تنكسر اذا فككناها . نحن بحاجة الى موقف تجريبي ونقدي من الحداثة وغيرها ، كي نكتشف ما الذي يفيد وما الذي يضر فيها .

مقالات  ذات علاقة
 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)
تعقيبات على الكتاب

30/12/2010

الهجوم على الليبرالية ليس سيئا

الصحافة السعودية مشغولة هذا الاسبوع بتداعيات هجوم المفكر السعودي عبد الله الغذامي على الليبرالية والليبراليين. احاديث الغذامي هذه جاءت في سياق محاضرة عامة ثم مقابلة تلفزيونية. يرجع الاهتمام الاعلامي بهذا الموضوع الى حقيقة ان المسألة ليس مجرد جدل في الثقافة. تشهد المملكة هذه الايام صراعا شديدا بين جبهتين: تجمع الاولى شرائح وافرادا ينتمون الى التيار الديني التقليدي ، وتجمع الثانية نظراء لهم يدعون الى الاصلاح والانفتاح ، وتضم في اطارها تيارات دينية اصلاحية وليبراليين وبيروقراطيين ونشطاء سياسيين. يتهم الطرف الاول منافسه بالليبرالية وتمييع الدين والعلمانية ، بينما يتهم هؤلاء اولئك بالتعصب والانغلاق وتعطيل الاصلاح السياسي والاجتماعي.
حديث الغذامي الشديد ضد الليبرالية وانصارها تحول الى جزء من هذا الصراع الطويل والمتشعب. الغذامي كان مصنفا في الاصل ضمن التيار الحداثي وقد حاربه التقليديون في سنوات سابقة وصدرت فتاوى بتكفيره واستحلال دمه. ولهذا اعتبر هجومه الحالي على الليبراليين مكسبا سياسيا هاما احتفى به التقليديون ايما احتفاء . بينما – في المقابل – واجهه انصار الغذامي السابقون ودعاة الاصلاح بشكل عام ، بالاستنكار والرفض.

يقول الغذامي ان الليبرالية السعودية وهم ، وانه لا يوجد في هذه البلاد اتجاه ليبرالي حقيقي ولا ليبراليون مخلصون لمبادئهم. واظن ان الفكرة قد راقت لبعض الناس ، اما لانهم يضعون الليبرالية الاوربية كمعيار للمقارنة ، او لانهم ينظرون اليها كايديولوجيا منجزة ، او لانهم – ببساطة – يميلون الى جلد الذات بدلا من فهمها وتفسيرها.
اغفل حديث الغذامي محطات منهجية هامة ، مثل التمييز بين الاطار الاجتماعي/السياسي للافكار وبين حقيقتها الفلسفية او النموذجية. وقفز على شروط المرحلة الاجتماعية/الثقافية التي تحكم الموضوع محل النقاش. وفي وقت سابق جادله احدهم في هذا فرد بانه ينظرالى المسالة كناقد ومفكر يهتم بحقيقة الاشياء لا بظرفها.
خلافا لما يبدو من النظرة الاولى ، اظن ان هجوم الغذامي سيكون له مردود ايجابي. كثير من الناشطين في المجال السياسي والثقافي ، وبعضهم ينتمي الى تيارات دينية ، ينظرون الى الليبرالية كتفسير مناسب او اطار لطروحات بديلة عن تلك التي ورثناها من الاسلاف وسادت في المجتمع السعودي باعتبارها فهما وحيدا للدين وتعبيرا مفردا عن الفضيلة. يعتقد الاصلاحيون ان حقيقة الدين لا تتجلى في غياب الحرية والتعددية ، وان الفضيلة لا يمكن ان تنمو في ظرف المجتمع الشبيه بالمعسكر. تتجلى فضائل الانسان الحقيقية حين يطورها بنفسه ويختارها بين بدائل عديدة. وهذا مستحيل التحقيق في غياب الحرية وصراع الافكار وتوفر الفرص والبدائل.
الخلافات الدائرة حول الحرية وتطبيقاتها لا تنفي قيمة الحرية وضرورتها . انها – في الجوهر – شكوك في اولوية الحرية على غيرها من الخيرات الاجتماعية.  كان الماركسيون يضعونها في مرتبة متاخرة عن العدالة الاجتماعية. ويقولون بان الحرية لا معنى لها اذا كنت جائعا او فقيرا معدما. واعتبر القوميون العرب الوحدة وتحرير الارض مقدمة على الحرية الفردية. وفي وقتنا الحاضر يرتاب الاسلاميون التقليديون في عواقب الحرية ، لا سيما انفلات الزمام وتدهور المعايير والاعراف التي يرونها ضرورية لصيانة اخلاقيات المجتمع والتزاماته الدينية.
رغم قناعة الجميع بالحرية ، ورغم قناعتهم ايضا بان النموذج الليبرالي يوفر منصة مناسبة للتعبير عن تطلعاتهم السياسية والاجتماعية ، الا ان معظم هؤلاء يتردد في الاقرار بانه ليبرالي او الدعوة صراحة التي تبني الليبرالية كمنصة او اطار نظري وتفسيري لدعوة الاصلاح. سبب هذا التردد يكمن في الصورة المشوهة عن الليبرالية التي عممها التقليديون .

اقول ان هجوم الغذامي سيكون ذا مردود ايجابي ، لانه سيعجل في اخراج دعاة الاصلاح من دائرة التردد. وسنجد في الايام القادمة من يقول صراحة انه ليبرالي وان الليبرالية تمثل اطارا مناسبا لمباديء الاصلاح السياسي والاجتماعي الذي ندعو اليه. نحن ندعو الى الليبرالية ، ليس فقط لانها تتوافق - في الجوهر - مع القيم الدينية ، بل لانها ايضا تخلق الظرف الضروري لتحويل القيم الاسلامية الرفيعة من كلام نظري في الدين الى تفسير للحياة ودافع للتقدم.
شبكة مصدر 30 ديسمبر 2010

مقالات ذات علاقة 


الطريق الليبرالي http://talsaif.blogspot.com/2009/06/blog-post.html

عن الليبرالية وتوق الانسان للتحرر: اجابات http://talsaif.blogspot.com/2011/04/blog-post_28.html

الليبرالية ليست خيارا http://talsaif.blogspot.com/2004/03/blog-post_27.html

الليبرات والليبرون المكبوتون المخدوعون  http://talsaif.blogspot.com/2007/10/blog-post.html

06/07/2009

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة


الجدل الذي رافق انتخابات الرئاسة الايرانية وما بعدها ركز الاضواء على نقاش قديم حول فرص المواءمة بين الدين والحداثة في تجلياتهما المختلفة ولا سيما السياسية منها . وصف الاستاذ مظاهر اللاجامي محاولات الباحثين في هذا الصدد بانها تلفيق ، وكتب الاستاذ في علم الاجتماع السياسي د. خالد الدخيل نقدا معمقا لكتابي "حدود الديمقراطيةالدينية" ركز على التعارض الذاتي بين الدين والديمقراطية.

انني من المؤمنين بامكانية تطوير نموذج للحداثة يستوعب الحاجات الثقافية والمادية الخاصة لكل مجتمع . توصلت الى هذه القناعة بعد سنوات من البحث والمراجعة والجدل الذي زادني – في الوقت نفسه- تفهما واحتراما لتحفظات المعترضين واسباب قلقهم . وقد عرضت شريحة واسعة من تلك الاسباب والجوانب الاشكالية في كتاب "الحداثة كحاجة دينية".

 يركز مفهوم الحداثة على دور الانسان كمصدر للقيم والمعايير والمعرفة. وهذا ينطبق على انسان المجتمعات التي ابدعت مفهوم الحداثة وتلك التي تلقته لاحقا . خلال قرن تقريبا شارك مفكرون من شتى انحاء العالم في نقد وتطوير العناصر التي يتشكل منها مفهوم الحداثة. محورية الانسان الفرد ، العقلانية ، معيارية العلم ، التعاقد والارادة الحرة كارضية لتفويض السلطة... وغير ذلك من مكونات المفهوم خضعت لنقاشات معمقة برهنت على ان الحداثة تابى – بطبيعتها – القولبة والحصر الايديولوجي .

على الطرف الاخر فان تقاليد البحث في الفكر الاسلامي تسمح بالتمييز بين القيم الاساسية للدين وبين اجتهادات المسلمين على اختلاف توجهاتهم وعصورهم . هذه المساحة هي التي سمحت دائما بوجود افهام متعددة للمبدأ الواحد واشكال متعددة من الممارسة الدينية . ثمة قيم اساسية في الدين لا يختلف عليها اثنان ، مثل العدل وكرامة الانسان والمساواة ، وثمة الى جانبها تجربة دينية تعبر فقط عن فهم مجتمع معين لتلك القيم.

نعرف بالبديهة ان فهم الانسان لفكرة ما ثم تطبيقها يتاثر بالضرورة بعوامل عديدة واحيانا متعارضة ، وبينها عوامل ذاتية مثل القدرات العلمية للفرد وتربيته العائلية ونفسيته ، وبينها عوامل اجتماعية كالثقافة العامة ومصادر المعيشة ونوعية الفرص والتحديات التي تواجه الجماعة ، ويضاف اليها طبعا المستخلصات الثقافية للتجربة التاريخية لهذه الجماعة .

من المفهوم ان نطاق وعمق تاثير هذه العوامل يختلف بين مجتمع واخر تبعا لاختلاف ظروفه الفعلية وتجربته التاريخية ، كما يختلف تلقي الافراد للفكرة نفسها تبعا لاوضاعهم الذهنية والنفسية والمادية. هذا هو المنطق الطبيعي للحياة والاشياء . ومن هنا نجد قراءات عديدة وتطبيقات متنوعة للفكرة الدينية ، تستلهم جميعا القيمة الاساسية ، لكنها تقدم تجارب متغايرة.  قد نطلق على هذا التنوع اسم الاجتهاد او تعدد القراءات او التمييز بين الثابت والمتحول ، او اي اسم شئت . لكن  الجوهري في الموضوع كله هو امكانية انتاج تجارب دينية متغايرة بين مجتمع واخر. لا اظنني بحاجة الى ادلة لاثبات هذا الادعاء لان تاريخنا والواقع الذي امامنا يكشف عن تنوع في الافهام والتطبيقات يستحيل حصره.

الرسالة النهائية لهذا التحليل هي ان افراد المسلمين والجماعة المسلمة يقومون فعلا – وهم على حق في ذلك – باعادة تشكيل حياتهم الدينية بين ظرف واخر كي تتناسب مع ثقافتهم ، حاجاتهم ، همومهم ، ظروفهم ، وتطلعاتهم ، وهذا ما اسماه هانس جورج غادامر بالافق التاريخي للفكرة.

لكل جيل حق ثابت في صوغ فهمه الخاص للفكرة الدينية وكذلك تجربته الدينية . وهذا يشمل بالتاكيد حقه في تقريب الفكرة او تطبيقاتها الى المباديء والقيم التي تبدو – في وقت معين – ضرورة للحياة ، او وسيلة للارتقاء بالحياة . بعبارة اخرى فلسنا مضطرين لسؤال اسلافنا الذين ماتوا عن امكانية التقريب بين الحداثة وقيم الدين . نحن مثلهم لدينا الحق ولدينا القدرة على الفحص والاختبار والنقد ثم الاخذ بالفكرة او تعديلها او اعادة انتاجها ضمن نسيجنا القيمي الخاص ، كما فعل الاسلاف مع الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية وغيرها.

الاسلام والحداثة ، كلاهما يفتح الباب امام النقد والتجريب والمعالجة الهادفة الى انتاج افكار جديدة او اعادة انتاج افكار مسبقة في صيغ جديدة . وهذا هو المنطلق في القول بامكانية المواءمة بين الاسلام والحداثة وما ينتج عنهما من معايير وادوات عمل.
عكاظ 6 يوليو 2009

15/06/2009

طريق التقاليد



معظم المجتمعات التي سعت لتحديث نظامها الاقتصادي شهدت صراعات داخلية شديدة بين المحافظين الذين يدعون للتمسك بالتقاليد الموروثة والحداثيين الذين يرونها عقبة في طريق التطور المادي والثقافي. وأظن أن إنكلترا هي البلد الذي شهد أشد هذه الصراعات دموية، فقد تحول الجدل إلى حرب أهلية دامت بضع سنين. وشهدت فرنسا في وقت متأخر نسبيا، في العام 1968، ما أطلق عليه وقتها «ثورة الطلاب» واعتبره الاجتماعيون مثالا على انتفاضة الأجيال الجديدة ضد التنظيم الاجتماعي التقليدي. وفي دول أخرى من الولايات المتحدة الأمريكية وحتى اليابان، مرورا بدول أوروبية وآسيوية وعربية، شهدت المجتمعات صراعات واسعة أو محدودة، دافعها الأساس هو تمرد الجيل الجديد على تنظيمات اجتماعية ضيقة الأفق
أصبح هذا التحدي أكثر جدية منذ أواخر القرن العشرين، وهو يزداد حدة مع مرور الوقت، لأن الأجيال الجديدة تزداد قوة وجرأة، كما إن الفوارق بينها وبين الأجيال السابقة تزداد سعة وعمقا، بسبب التقدم التكنولوجي الذي وفر للشباب عناصر قوة إضافية، أبرزها المعرفة والقدرة على المقارنة وابتكار الحلول. قلت لابني يوما إن راتبه الشهري اليوم يعادل دخلي السنوي حين كنت في مثل عمره، وأعلم جيدا أن بقية الأولاد قادرون اليوم على الوصول إلى مصادر معلومات لم نكن نتخيلها قبل ثلاثين عاما، فضلا عن أن نصل إليها. بعبارة أخرى فإن ما يطلبه شبابنا اليوم يتجاوز كثيرا جدا ما كنا نطلبه حين كنا في مثل أعمارهم، لأن قدراتهم أكبر ولأن المساحات التي يستطيعون الوصول إليها أوسع وأبعد. وسيكون للجيل الآتي تطلعات ومطالب أكثر من تلك التي عند شباب اليوم


يمكننا ببساطة أن ندير ظهرنا لهذه المطالب ونعتبرها نزقا طفوليا، وربما نجد وسيلة لإقناع الشباب بالسكوت والانتظار. لكن الأمور لا تحل بهذه البساطة. حتى لو استمع الشباب إلى نصائحنا واعتذاراتنا، فإن محرك التحدي يظل فعالا في داخلهم، وهو سيعود إلى النشاط والتعبير عن ذاته غدا أو بعد غد
إهمال التحدي لوقت طويل يشدد الميل للمنازعة في نفوس الشباب. ويتجلى هذا الميل في صورة إنكار للنظام الاجتماعي والقيم التي يقوم عليها. ويتمظهر عادة في صورة سخرية من التقاليد والأعراف السائدة. وفي مراحل متقدمة، يمكن أن يتطور هذا الميل إلى تعبيرات مادية عنيفة أو لينة تندرج إجمالا تحت عنوان الخروج على القانون


الإهمال هو خيار الخسارة، رغم أنه يبدو سهلا وغير مكلف ــ في بدايته على الأقل ــ، الحل السليم ــ مهما كان مكلفا ــ هو استيعاب الجيل الجديد بمطالبه وتطلعاته. طريق الاستيعاب يبدأ بتقبل فكرة التخلي عن بعض الأعراف والتقاليد الموروثة، ثم إعادة إنتاج تقاليد جديدة تتناسب مع حاجات المجتمع الجديد وظروفه المادية والثقافية. في هذا السياق نتحدث عادة عن مثال اليابان التي نجحت في الجمع بين التقاليد الموروثة وبين الحداثة. لكن ينبغي أن لا نخدع أنفسنا، فالذي فعله اليابانيون هو إعادة إنتاج تقاليدهم بما يحافظ على الشكل القديم لكن مع تحديث المضمون. يمكن تطبيق المقولة نفسها على إنكلترا والهند والولايات المتحدة وكثير من الدول الأخرى التي أعادت إنتاج تقاليدها بمضمون جديد. المحافظة على الشكل الخارجي للتقاليد ليس أمرا سيئا، بل ربما يكون ضروريا لتأمين قدر من الاطمئنان والتواصل الثقافي مع التاريخ. لكن الحياة تتطلب ــ بنفس المقدار ــ تقاليد تتناسب مع ظرف الحياة الراهن


نحن بحاجة إلى التحرر من التقاليد المعيقة، لا سيما تلك التي تفرض علينا منظورات وتصورات قديمة عن الحياة والعالم، كما تفرض علينا قيما وأحكاما تعيق طموحنا إلى مكان يتناسب مع واقعنا وقدراتنا وحاجات عصرنا. قد يكون أمرنا سهلا لأن جيلنا استسلم لأقداره وقبل بما وجد أمامه، لكني أخشى حقا أن الجيل الذي بعدنا ليس بنفس السهولة أو القابلية للاستسلام

عكاظ 15 يونيو 2009

05/06/2008

في مبررات العودة الى التاريخ

انتماء الفرد الى تاريخه ليس خيارا ، بل هو منطق الامور. هذا التاريخ ليس سيرة حياة شخصية ، بل مجموع ما استخلصه المجتمع من تجارب حياتية ، تواصلت لزمن طويل . وتتمظهر تلك المستخلصات في الحياة الاجتماعية ، على شكل قيم واعراف ومسلمات وطرق في ادارة الحياة ، اي ثقافة عامة او خلفية للتفكير في الذات والاشياء ، تحكم السلوك العفوي لافراد الجماعة .

يبدأ المجتمع في نقل ثقافته الى اعضائه الجدد منذ ولادتهم ، من خلال المعايشة واللغة والترميز وتعريف الاشياء والثواب والعقاب ، وتتواصل تلك العملية حتى يشب الفرد ويصبح عنصرا متفاعلا ، اي مستهلكا ومنتجا للعرف والثقافة الاجتماعية.

تختلف المجتمعات في المساحة التي تتركها للفرد ، كي يعيد تشكيل ثقافته – وبالتالي هويته الخاصة – بعد ان يشب عن الطوق. فالمجتمعات الاشد ترابطا هي الاقل تسامحا في هذا الجانب ، وهي تتوقع من الفرد ان يقبل بالثقافة الموروثة ، ويعيد انتاجها من دون تعديل جوهري. وفي المقابل فان المجتمعات المفككة ، تفتقر الى وسائل فعالة لالزام الافراد بموروثها الثقافي.

لكن لا ينبغي الظن بان هذه المجتمعات متحررة ، او قليلة الاهتمام بأدلجة ابنائها. فهي تقوم بذلك من خلال قنوات كثيرة ، مثل التربية العائلية والمدرسة والعمل ووسائل الاعلام ، اضافة الى نظام العلاقات الاجتماعية ، القائم اساسا على منظومة قيم واعراف مثبتة سلفا. وتلعب اللغة دورا محوريا في هذا السياق. فاللغة ليست مجرد اداة للتواصل ، بل هي ايضا اداة لتعريف الاشياء وتحديد قيمتها. وهي اضافة الى ذلك اداة لحفظ واعادة انتاج مصفوفات الرموز والقيم الاساسية ، التي يرجع اليها العقل عندما يفكر في الاشياء وعندما يتخد موقفا. وهي اخيرا اداة لتعريف الاولويات والمسلمات والمشكوكات والاشياء المألوفة والمستغربة. ولهذه الاسباب جميعا يختلف الشاب الذي ولد لعائلة امريكية ، عن ذلك الذي تعلم اللغة الانكليزية كلغة ثانية ، والامر نفسه بالنسبة للفرد المولود لعائلة عربية ، حتى لو تحدث اللغة الاجنبية مثل اهلها.

ثقافة الفرد – وتبعا لها هويته – هي تكثيف لتاريخ مجتمعه ، وما تشكل في طياته من ثقافة.  ومن هذه الزاوية لا تختلف المجتمعات الناهضة ، عن نظيرتها الساكنة او المتخلفة. انما تختلف هذه عن تلك في وعيها بهذه الحقيقة او غفلتها عنها. من يعي تاثير التاريخ على ثقافته وتفكيره ، يستطيع التخلص من قيوده او الموازنة  بين ضرورات الثقافة وضرورات العصر. ومن يجهل ذلك يعيش بجسده في الحاضر ، وعقله سجين في تاريخ مضى ومات اهله.

المجتمعات الناهضة قليلة الاهتمام بالماضي واحداثه ، لانها منشغلة باستثمار الحاضر وامكاناته. وهي اكثر واقعية واعتدالا في التعامل مع الغير ، اذ ان محورية الحاضر تكرس قيمة العناصر التي يشملها ، بما فيها الشراكة مع الاخرين. وفي المقابل ترى المجتمعات الهامشية والضعيفة مأخوذة بالماضي . فهي تهرب اليه من صعوبات الحاضر ، وتلجأ اليه كي تتقي مشقة الاعتراف بالعجز عن تغيير احوالها. وفي مثل هذا الحال تتحول حوادث التاريخ الى اقاصيص منتقاة ، يجري تعديلها بين حين واخر ، كي تخدم غرضا محددا مثل تبرير الفشل او تسويغ التفلت من المسؤوليات. ونجد بين المتحدثين من يغرق في اضفاء صور اسطورية على شخصيات تاريخية معينة  ، والباسها رداء القوة الخارقة ، كي تنتج رسالة محددة فحواها ان الوضع البائس غير ممكن التغيير ، الا اذا وجدت معجزة او ظهر رجل خارق .

المجتمعات المقهورة ، تطور ميلا اشد الى الاحتماء بتاريخها ، وتكرسه على صورة حد يميز بينها وبين الغير ، وفي هذه الحالة فان أهل الحاضر يعيدون تصوير التاريخ ، باهمال بعض جوانبه ، والتركيز على جوانب أخرى ، بما يخدم فكرة تميز هذا المجتمع بثقافته وهويته ، بكلمة أخرى فان التاريخ هنا لا يعامل باعتباره ميدانا لتجربة سابقة ، ينبغي دراستها والاعتبار بنتائجها ، بل باعتباره مصدرا لتبرير الحاجات الراهنة ، واهمها حاجة الحفاظ على الهوية .

وثمة في الحاضر امثلة عديدة على اتجاه المجتمعات الى التاريخ ، كوسيلة لتجذير شخصيتها الخاصة ، كرد على محاولات الغاء الهوية من جانب المحيط الاقوى. في المجادلات التي نشهدها اليوم حول التطرف الديني والمذهبي وتفاقم النزعات القبلية والقومية امثلة  كثيرة على هذا التوجه.  التاكيد على الاصل ، حتى لو كان اقل شأنا من الحاضر ، يعتبر وسيلة فعالة في استعادة الثقة بالذات ، ومقاومة اشكال الاغتراب النفسي والاجتماعي ، التي يعانيها الانسان المقهور ، وسط مجتمع يعامله باستعلاء وتفاخر.

الايام 5-6-2008

http://www.alayam.com/Category.asp?CategoryId=5   

مقالات ذات علاقة 

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

سياسة الامس وتاريخ اليوم

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

 فضائل القـرية وحقائق المدينة

 في مبررات العودة الى التاريخ

 الكراهية

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد

الهجوم على الثوابت .. اين هي الثوابت ؟


01/05/2008

د. السيف: فقد الدِين وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة خاصة




 حاورته امل زاهد لمجلة الاطام  (النادي الادبي بالمدينة المنورة - العدد 31 -- ابريل 2008م

تحدثه فيجيبك بتواضع جم وتسأله وتحاوره فيفتح لك فضاءات أوسع وأحيازا بلا مدى أو حدود، تتفجر الأسئلة من رحم الأسئلة.. وتتناسل من عمق إشكالات كانت ولازالت تتردد حائرة في مشهدنا الثقافي. ولابد أن تؤجج إجاباته عقلك وتستفزه للمزيد من التساؤلات، فهذا الرجل يهجس بالنهضة وتسكن داخله تلك الرغبة الصادقة في التغيير، وفي إعادة روحية النهضة وقلبها للنابض لهذه الأمة الساكنة النائمة في رحم عادات وأعراف التبست بالدين وتسلقت على أصوله، فتتوارى الأصول وراء الحواشي والجوهر خلف القشور كما يرى ضيفنا.. حاورته الآطام فكان هذا اللقاء
امل زاهد
- من سالف الأزمان كانت علاقة المثقف بالسلطة علاقة شائكة، فهو إما متمرد عليها رافض لها.. وعليه يحكم عليه بالنفي الذي يصل لتكميم الأفواه أو الاعتقال، وإما مثقف مدجن طوعا أو قسرا.. هل دجن توفيق السيف؟
• أجاب على هذا السؤال شاعر قديم: وكل يدعي وصلا بليلى، وليلى لا تقر لهم بذاكا. الناس ترغب في السلطة وترغب في الاقتراب من أهل السلطة، ويتهم الناس بعضهم بالتملق للسلطان. جدلية الاقتراب والابتعاد تدور أساسا حول إمكانية المحافظة على استقلال الرأي وحرية التفكير والتعبير. إذا قدرت على حفظ حريتك واستقلال رأيك، فالبعد والقرب سواء. أما الحكم بان فلانا دجن أو لم يدجن فهو انطباع شخصي متروك للقراء وعامة الناس، وعلينا أن نحترم رأيهم.
- هل يستطيع توفيق السيف أن يقول عن نفسه أنه متحرر تماما من الايديولوجيا؟
• لست متحررا من الايديولوجيا، ولا أظن أن شخصا في العالم كله متحرر من الايديولوجيا. الايديولوجيا هي الوسيلة التي نبني بها علاقتنا مع العالم المحيط بنا، ونعطي للأشياء معاني، ونربطها مع بعضها حتى تتحول من عناصر منفردة هائمة في الفضاء إلى أجزاء في مركب، هو رؤيتنا للعالم. وما لم يكن لدينا منظومة مفاهيم ومسلمات أولية فلن نحب شيئا ولن نقيم علاقة مع شيء مما يحيط بنا، لا إنسانا ولا فكرة ولا شجرة ولا ساعة.
لا يحتاج الإنسان إلى التحرر من الايديولوجيا، بل يحتاج إلى:
أ-الوعي بأنه يحمل ايديولوجيا تؤثر على أرائه وأحكامه، ونتيجة لذلك فان آراءه ليست معيارية او موضوعية في كل الأحوال
ب- الوعي بان الايديولوجيا - حتى لو اعتقد بصحتها – تلعب أحيانا دور حجاب الحقيقة، أي أنها تظهر الأشياء للعين والعقل بخلاف ما هي عليه في الواقع الخارجي
ج- الوعي بالفارق بين وظيفتي الايديولوجيا والعلم. وظيفة العلم هي وصف الأشياء وتفسير أحوالها، أما وظيفة الايديولوجيا فهي الحكم على تلك الأشياء والأحوال وتحديد قيمتها، أي إيجاد علاقة بينها وبين الشخص.
من هنا فاني من القائلين بإمكانية الجمع بين عقلين، عقل علمي يصف الأشياء ويفسرها مهما كانت متنافرة مع رغبات الشخص وقناعاته ومعتقداته، وعقل ميتافيزيقي دوره صناعة المعنى، وتسكين الروح، ومنح الأشياء الخارجية لونا إنسانيا، وإيجاد علاقة جمالية بين الشخص والعالم. من المهم على اي حال الوعي بوجود هذه الثنائية وعدم الخلط بين العلم بالأشياء والحكم عليها.
- فكر توفيق السيف فكر صادم للعقل الجمعي التقليدي شيعيا كان أو سنيا، هل ترى التصادم وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية ضرورة اليوم لإيقاظ أمتنا من سباتها؟
• الفكر الشيعي والسني هو اقرب ما يكون إلى ثقافة اجتماعية، فيها شيء من العلم والفكر، لكن معظمها هو نتاج للتجربة التاريخية للمجتمعات، فهي تبرير للمصالح أو التحولات أو الحاجات أو الهموم أو دفاع عن الذات. كثير من عناصر هذه الثقافة تشكل في رحم المعاناة، ولهذا فهي صورة عن البشر الذين يحملونها في كل حقبة زمنية. كلا الثقافتين تعاني في الحقبة الراهنة من تخلف عن العصر وحاجاته وتحدياته وما يموج فيه من تيارات وتحولات. ونحن بحاجة الى وضع النقاط على الحروف، كي يلتفت الناس الى جوهر مشكلتهم، أي العجز عن التفاعل مع العصر الذي يعيشونه. وظيفة المثقف ليس تبرير الواقع بل نقده، وتحريض الجمهور على البحث عن الغيب الذي تخبيه الأيام. يبدأ التخلف في اللحظة التي يقرر الناس انه ليس في الإمكان أبدع مما كان. ومهمة المثقف هي دحض هذه الرؤية السكونية.
|| التراث الجيد هو التراث الذي نسخره ونستخدمه ونتحكم فيه وليس الذي يسخرنا ويستخدمنا ويتحكم في عقولنا ||
- يشغلك سؤال النهضة إلى حد كبير وترى أننا متخلفون اقتصاديا وثقافيا وعلميا واجتماعيا، هل تلمح في عالمنا العربي بداية إرهاصات قد يتوالد من رحمها ما أسميته في كتابك الجميل «الحداثة ضرورة دينية»: روحية النهضة؟
• منذ اواخر القرن التاسع عشر كانت هناك ارهاصات نهضة ومحاولات نهوض. المحاولات الاولى ركزت على تحديث الثقافة، وفي منتصف القرن العشرين تركزت المحاولات على تحديث السياسة، وفي الربع الاخير من القرن العشرين تحول التركيز الى الاقتصاد. وقد جنينا من جميع تلك المحاولات خيرا كثيرا، ولولاها لكنا اليوم نعيش في ظرف يشبه ظرف افغانستان مثلا. من المتفق عليه في بحوث التنمية ان كل مسار تنموي يؤدي الى تحريك المسارات الاخرى، فالنهوض الثقافي يؤدي الى نهوض اقتصادي وسياسي، وهذا يقود الى ذاك. المشكلة الكبرى في حياة المجتمع العربي هي عدم الاستمرار. كنا دائما نتوقف في منتصف الطريق. فلو واصلنا تحديث الثقافة لاصبحنا اليوم منتجين للعلم والتقنية ننافس بقية العالم. ولو واصلنا تحديث السياسة لاسترحنا من كثير من الازمات الاجتماعية التي نعرفها اليوم. واذا واصلنا تحديث الاقتصاد فسوف نتخلص من معضلة الفقر التي تهدد السلام الاجتماعي في كل اقطارنا. من المهم ايضا ان نفكر في التحديث الشامل والمخطط، بدل ان نفاجأ بالتحولات التي هي انعكاس للنهوض في مجالات اخرى، كما هو الحال في تفاقم ظاهرة العنف التي هي – جزئيا على الاقل – انعكاس لتحديث الاقتصاد في سياق منفرد.
- أين المرأة من سؤال النهضة؟ وما هي نظرتك الاستشرافية لوضع المرأة الاجتماعي في المملكة؟ وألا تحتاج المرأة إلى إعادة صياغة للوعي كونها من أشد حراس النسق قسوة وضراوة؟
• في كل مجتمع هناك مراكز توتر رئيسية واخرى ثانوية. مراكز التوتر تحرك الازمات احيانا وتصنع الحلول احيانا اخرى. الوضع الاجتماعي للمرأة هو احد مراكز التوتر الرئيسية في المجتمع السعودي. هي ليست حارسة للنسق التقليدي بل ضحية له «مع ملاحظة ان الضحية قد ينساق احيانا في مشروع عدوه بسبب انعدام الخيارات البديلة، مثل العامل الفلسطيني الذي يشارك في بناء مستعمرة اسرائيلية لانه بحاجة الى خبز اليوم». الاغلبية الساحقة من النساء السعوديات يتطلعن الى الحداثة باعتبارها السبيل الوحيد لحياة لائقة. حتى اللاتي يدافعن عن التقاليد على المستوى النظري، متمسكات بالحداثة في حياتهن اليومية، ولذلك ترين الفتيات جميعا يذهبن الى المدارس ويسعين وراء وظائف خارج البيت، ويرغبن في استعمال المنتجات التقنية للحداثة.
|| الأغلبية الساحقة من النساء السعوديات يتطلعن الى الحداثة باعتبارها السبيل الوحيد لحياة لائقة ||
الوعي ليس مشكلة المرأة فقط، نحن امام مشكلة مجتمع بأكمله، رجاله ونساؤه، مجتمع يريد الحداثة ويخشى منها في الوقت نفسه، يتطلع الى التقدم لكنه غير مستعد لدفع ثمنه الثقافي والاخلاقي. واظن ان الجدل الواسع الذي يشهده المجتمع السعودي حول حقوق المراة ودورها وموقعها في النظام الاجتماعي هو دليل على تحولها فعليا الى مركز توتر رئيسي. وجدنا خلال السنوات الاخيرة تغييرات ملموسة مثل اقرار المجتمع بحقها في العلم ثم في العمل واخيرا مشاركتها في بعض اطراف الحياة العامة «التجارة والاعلام كمثال». واظن ان التغيير في هذا الاتجاه سوف يتواصل وسوف يتعلم المجتمع كيف يتكيف مع هذا التحول. لكن لا بد من الاشارة الى ان التحولات الكبرى كانت ثمرة لقيام حركة نسائية واسعة، منظمة، ومتنوعة التعبيرات، ونحن نفتقر الى حركة من هذا النوع.
- أنت تقول أن فكرة الأصالة لم تؤد إلى توضيح مكانتها من سؤال النهضة بقدر ما ساهمت فعليا في إعادة إنتاج فكرة الأصالة في معنى المحافظة على التقاليد والبحث عن حلول لمشكلات العصر من عمق التراث، وفي ذات الوقت ترى أن التخلص من إرثنا الثقافي أشبه ما يكون بأن نطلب من الأمة أن تمحو ذاكرتها، هل من سبيل للخروج من هذا المأزق؟
• أود الاستشهاد بمقولة هيجل، الفيلسوف الالماني، حول الوعي بالتاريخ، وخلاصتها ان الفرد الواعي هو الذي يعي تاثير تجربته التاريخية على تفكيره الحاضر، اي القادر في لحظة من اللحظات على النظر الى تراثه التاريخي كشيء قابل للانفصال عن عقله، اي تحرير عقله من ضغط الاحكام المسبقة. في ظني ان كل فرد قادر على ان ينفصل عن تراثه حين يفكر في موضوع معاصر، لكنه يحتاج الى وعي بكيفية تاثير التراث التاريخي على العقل، ويحتاج الى ارادة قوية للانفصال عنه. نحن اذن لا نحتاج الى مسح ذاكرتنا، بل الى الوعي بتاثير هذه الذاكرة على تفكيرنا في قضايا اليوم، والانفصال عنها حيثما كان الانفصال ضروريا للتوصل الى فهم موضوعي ومحايد للاسئلة التي تواجهنا.
|| المشكلة هي الخلط بين الدين وعلم الدين فالدين هو ما انزله رب العالمين، أما علم الدين فهو آراء البشر ||
فكرة الاصالة الشائعة في بلدنا هي تعبير عن رؤية كسيحة ترتاب في قدرة الجماعة الانسانية على صياغة ذاتها وزمنها. وترتاب في قدرتها على اكتشاف مصالحها وصياغة القيم والمفاهيم المناسبة لتبرير تلك المصالح. ولهذا فهي تشدد على العودة الى مبررات ومفاهيم صاغها الماضون. فكأن هؤلاء الذين يتحدثون عن الاصالة يربطون بين قيمة الفكرة وزوال موضوعها. حين يتحدثون في السياسة او الاخلاق او السلوك اليومي مثلا يستذكرون عصر الخلافة الاسلامية باعتباره الزمن المعياري للصحة والخطأ، وحين يتحدثون عن الادب يستذكرون العصر الجاهلي، وحين يتحدثون عن العلوم النظرية والتجريبية يستذكرون العصر العباسي. لقد استفدنا من التجربة السياسية والاخلاقية والادبية والعلمية في تلك العصور. لكن لا اجد اي مبرر لاعتبار تلك التجارب معيارية تقاس عليها كل تجربة اخرى.
لا اشك ان انسان هذا العصر اقدر من اسلافه الذين عاشوا في العصور الماضية على ابداع حلول اكمل، لانه يعرف تجربة اولئك وتجارب من جاء بعدهم، اضافة الى ما يستخلصه من تجربته الخاصة. مجموع هذه المعارف تفوق كثيرا ما توفر للاسلاف. نحن نرجع الى تجربة الاسلاف للحصول على علم، لا باعتبار تلك التجربة حدودا نهائية للقيمة. القيم الاساسية مثل العدل والحرية والنظام ثابتة وموضوعية، ولا تختلف في عصر عن عصر آخر، اما معايير التطبيق والعمل فيجب ان تتناسب مع الزمن ومع حاجات الانسان الذي يعيش في ذلك الزمن، ولا فضل لاهل زمن على غيرهم في هذه الناحية، ولهذ فمن الخطل ان نحول الماضين الى مرجع قسري او حصري، او حتى مقدم على المعاصرين.

الحاجة للتراث

- تتساءل عن مدى حاجتنا الحقيقية للتراث، وتقول أننا أصبحنا كحراس المتاحف أو الذين يعتمدون في معيشتهم على مرافقة الأموات، وكأنك تفترض أن شروط النهضة لن تتحقق إلا بقطيعة شبه كاملة مع التراث، وتقول أن التراث الجيد هو الذي نسخره وليس الذي يسخرنا.. هل هناك تراث جيد وتراث سيء؟
لا شك اننا نحتاج الى بعض التراث كي يعيننا على فهم ديننا وكي يساعدنا في اعطاء معنى لبعض جوانب حياتنا. لكننا لا نحتاجه ابدا كقيد على عقولنا، ولا نحتاجه كحبل يشدنا الى الماضي السحيق، ويعطلنا كلما اردنا اللحاق بقطار الحياة في عصرنا. 
التراث الجيد هو التراث الذي نسخره ونستخدمه ونتحكم فيه وليس الذي يسخرنا ويستخدمنا ويتحكم في عقولنا. التراث الجيد هو المعلم الذي يساعدنا على معرفة ما عنده كي نتجاوزه الى ما هو اعلى منه. التراث الجيد جسر ثابت بين زمنين او مكانين، يحمل الناس من زمن الى زمن، او من مكان الى مكان، ثم يتركهم احرارا كي يواصلوا دربهم بينما يبقى هو ثابتا في مكانه او زمانه.
اما التراث السيء فهو راعي الماشية الذي يرسلها الى المرعى، لكنه يعيدها الى حظيرته آخر النهار. فهي مهما انطلقت فانها تتحرك ضمن دائرة محددة آخرها العودة الى الحظيرة نفسها. التراث السيء هو السقف الذي يوفر مساحة للحركة تحته لكنه لا يسمح لك بتجاوزه الى ما هو اعلى منه. التراث السيء هو الجسر الذي يحملك الى نهايته لكنه يمنعك من الانتقال الى الضفة الاخرى، فيبقيك محصورا بين حدوده، لا أنت في الماضي ولا انتقلت الى الحاضر.
- المشكلة الحقيقة في تقديرك هي قابلية نمط معين من الفهم الديني لإعاقة النهوض الحضاري، وترى في التدين السائد في العالم الإسلامي معيقا للنهضة، يبدو هذا الخطاب صادما للعقل الجمعي فكأنك تتهم التدين بأنه سبب تخلفنا؟
• ادعوك للتنبه الى الفارق الجوهري بين الدين وفهم الدين. الدين كما انزله رب العالمين لا جدال فيه. بل اعتقد بعمق في انه طريق فسيح للنهوض والتقدم. اما التدين فهو افهام الناس لذلك الدين وتطبيقهم لتلك الافهام، وهي بطبيعة الحال قاصرة عن بلوغ مراد الخالق، ومتلونة بطبائع الناس وذهنياتهم المختلفة وثقافاتهم. ولهذا ترى مفهوم التدين في المغرب غيره في مصر او اليمن او المملكة او تركيا او ايران او ماليزيا. هذه كلها مجتمعات مسلمة، لكن لكل منها مفهوم خاص وطريقة في التطبيق مختلفة. وورد في الحديث 'من بدا جفا' وهو يشير الى تاثير الظرف الجغرافي او نمط المعيشة فيه على ذهنية الفرد وسلوكه. من هنا فان حديثنا لا يتناول الدين، بل فهم الدين وتطبيقاته. وازعم ان بعض الافهام والكثير من التطبيقات معيقة للنهضة.
من بين المعيقات الواضحة نذكر الخلط بين موضوعات الدين «وهي احكام» وموضوعات العلم «وهي اوصاف وتفسيرات». ومنها التصور العدواني للعلاقة بين المسلمين وسائر البشر. ومنها غياب رؤية عقلانية عن حقوق الانسان والتعدد الثقافي والاثني.. الخ. لكن اشد العناصر اعاقة هي انكار فردانية الفرد واستقلاله وكفاءته والتركيز الكامل في قيم الجماعة الدينية على دور الجماعة وكونها محورا للقيمة والاعتبار. واظن ان غياب مفهوم الفردانية وانكار استقلال الفرد في ثقافتنا الدينية هو جذر للعشرات من اوجه القصور والضعف وتعطيل احتمالات النهضة. الفردانية تعني في المقام الاول حق الاختلاف والتمايز وحرية الفكر، واحترام المبادرة الفردية، وهذه من ابرز اركان النهضة. لو تاملت في انماط التدين السائدة في معظم المجتمعات المسلمة، فسوف ينكشف لك اتفاقها جميعا في عناصر الاعاقة السابقة الذكر.
- التدين حولنا في كل مكان، ومظاهر التدين صارت أكثر وضوحا في كافة أنحاء العالم الإسلامي، ولكنك تصر أن الدين فقد وظيفته الاجتماعية وأصبح شأنا فرديا، كيف يكون ذلك وهو يتدخل في كل صغيرة وكبيرة في الحياة في مجتمعاتنا؟
• فقد الدين وظيفته الاجتماعية لانه لم يعد ملكا لمجموع الناس، بل اصبح حكرا على طبقة خاصة تملك نوعا من السلطة. وهي تستعين بهذه السلطة في فرض مراداتها وارائها تحت عباءة الدين، وقد تكون مجرد اراء فردية او اعرافا وتقاليد لطائفة محددة من الناس. ظهور التدين في كل مكان هو تعبير عن نفوذ الطبقة التي تحتكر الشأن الديني، وهي بالطبع قادرة على ان تصل الى كل انسان حتى داخل بيته. لكن هذا مختلف تماما عن اندماج الدين في الحياة العامة وهدايته لها. لو سألنا اليوم اي مسلم: ماذا يريد الاسلام لمجتمع المسلمين، فسيجيبك فورا بانه يريدهم اعلى الناس شأنا بعلمهم وقوتهم الاقتصادية واستغنائهم عن الغير ونفوذهم في نظام العلاقات الدولية. لكن لو نظرنا الى الواقع فما الذي سنراه؟. نرى الناس جميعا مؤمنين بالدين ملتزمين بشعائره، لكن جماعة المسلمين متأخرة عن كل ما يريده الإسلام من ازدهار العلم وقوة الاقتصاد والاستغناء عن الغير والقوة السياسية. فهذا دليل بسيط على الفارق بين مراد الدين وحال جماعة المسلمين المتمسكة به. التفسير الوحيد لذلك هو ان نمط التدين السائد لا يوفر الفرصة الكافية كي تتبلور فاعلية الدين في اطار الجماعة، وتحديدا في الاتجاه الذي شرحته.
|| نعيش في حال التباس بسبب شعورنا بالحرج من البحث في موضوعات معينة خشية ان تكون مصادمة للقيم الدينية ||
سوف استخدم مصطلحا معروفا في بحوث التنمية السياسية وهو "الاجماع" وهو غير الاجماع المعروف عند الفقهاء. وخلاصته ان نمو المجتمع الوطني مشروط بوجود نوع من التوافق الطوعي بين افراده على منظومة معايير تنظم العلاقة بينهم، تحدد صورة مستقبلهم، وكيفية العمل المشترك لتحقيق اهدافهم وحل خلافاتهم. هذا الاجماع غائب للاسف بسبب غياب المساواة بين افراد الجماعة المسلمة، وغياب حرية الفكر والتعبير والاختلاف، ومنع النقاش في في ما يعتبره البعض مقدسات دينية او اعرافا ضرورية. خلاصة القول ان التدين منتشر في كل مكان، لكن الاجماع غائب. يمكن للوظيفة الاجتماعية للدين ان تظهر بوضوح في اطار حركة اجتماعية من اجل التقدم، لكن هذه متوقفة على قيام ذلك الاجماع.
- تفصل ما بين التراث والدين. ولكن واقع حال ثقافتنا اليوم يمحو ذلك الخط الفاصل ما بين التراث والدين، فما هو تراث وثقافة اجتماعية صار دينا لا يمكن مقاربة حدوده الشائكة واختلطت الأصول بالحواشي، وعملية الفصل تبدو مستحيلة في ظل المناخ الثقافي الذي نعيش فيه.. هل توافقني على ذلك؟
• يميل الناس في العادة الى البحث عن تبرير لما يريديون وما يفعلون كي يرضوا ضمائرهم، وكي يحققوا الانسجام بين ما يدّعونه وما يفعلونه. وتجري هذه العملية بصورة عفوية تماما. عملية اضفاء المعنى على الفعل تجري في غفلة. كمثال على ذلك فان غالبية الناس في بلادنا – وهم جميعا مؤمنون – ينظرون الى سائقيهم وخدمهم وعمالهم الاجانب كطبقة ادنى منهم، ويعاملونهم على هذا الاساس، مع انهم جميعا يقرأون تعليمات الدين الحنيف التي تؤكد على تساويهم معهم. المثال الاخر في مكانة النساء التي تشير اليها الاية المباركة ﴿ المؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض ﴾ وهي صريحة في أهلية النساء وحقهن في تولي المناصب السيادية في الدولة والمجتمع «ما يسمى في الفقه بالولايات»، وان لهن من حرية الاختيار ما للرجال سواء بسواء. لكننا مع ذلك اعطينا الولاية وحق الاختيار للرجل، وحصرنا دور المراة في السمع والطاعة. في كلا المثالين اتينا باعراف او تقاليد اجتماعية والبسناها رداء الدين، لاننا نريدها من جهة، ولاننا – من جهة اخرى - نريد ان يكون عملنا مبررا ومقبولا. 

||مفهوم العلمانية ليس قالبا نهائيا، وليس الغرض من الكلام فيه هو دائما ابعاد الدين عن الحياة العامة||
بالمناسبة فاني لا ارى ضيرا في هذه العملية، اي الباس الاعراف والتقاليد والمصالح عباءة الدين. بل اظن انها عملية طبيعية ستجري سواء احببناها ام كرهناها، وسواء اعترفنا بها او انكرناها، لان الانسان يميل بطبعه الى البحث عن معنى لما يفعل، هذا المعنى هو قيمة مسبقة يؤمن بها كمعيار للحسن والقبيح. من دون هذا المعنى يشعر الانسان بغربة ما يفعل، وهو لا يفعل الاشياء الغريبة اذا كان مختارا. ان كثيرا مما نصفه بالحسن او القبيح هو اشياء نرغب فيها او نبغضها، وقد لا تكون حسنة في الواقع او قبيحة في الواقع. وفي هذا النطاق بالذات نجد اشخاصا يفعلون اشياء متباينة يراها بعضهم حسنة ويراها الاخرون قبيحة، ولكل منهم تبريرات هي القيم التي تلقي على الفعل المعنى المراد. اختيار هذه القيمة او تلك عملية فردية تختلف من فرد الى اخر او من مجتمع الى آخر. كمثال على ذلك فان تعدد الزوجات يعتبر في بلادنا عملا عاديا، او مرغوبا، بل يعتبر احيانا من علامات الوجاهة والثراء، بينما يعتبر في ايران وتركيا مثلا من الاعمال القبيحة، ومن النادر جدا ان تجد وجيها او شخصا معروفا يتزوج باخرى، لانه في الغالب سيفقد احترامه بين انداده من رجال النخبة.
خلاصة القول ان تداخل الاعراف والمصالح والتقاليد مع القيم الدينية هو امر اعتيادي ولا ينبغي ان يثير القلق. لكن المشكلة تكمن في تناسي الناس للخط الفاصل بين ما هو دين وما هو تقاليد البست رداء الدين. التقاليد بطبعها مرتبطة بالزمان والمكان ونظام المصالح الذي تولدت في اطاره، ولهذا لا يصح تجريدها من تلك القيود وتعميمها كما لو كانت دينا. نعرف طبعا ان مبررات الالتزام بالدين موجودة في داخله، اما مبررات الالتزام بالتقاليد فهي موجودة في خارجها، اي في المكان والزمان ونظام المصالح الذي اوجدها.
- ترى أن الفقهاء القدماء ساهموا في التباس الدين بالعرف، وإضفاء صفة القدسية الخاصة بالأحكام الدينية على كثير من العادات وبالتالي تحويلها إلى مقدس، كيف حدث هذا؟ وما هي أدلتك عليه؟
• أصل المشكلة في ظني هو الخلط بين الدين وعلم الدين. وقد اشرت سابقا الى ان الدين هو ما انزله رب العالمين، اما علم الدين فهو اراء البشر من علماء ومفسرين ورواة، وهم جميعا غير معصومين، يصيبون ويخطئون، ويتاثرون بما يحيط بهم من مصالح ومشكلات وضغوط، وما يتوفر في بيئتهم من علوم وثقافات وانماط حياة. عمل الفقيه او المفسر او المفكر ليس منفصلا عن الظرف الذي يعيش فيه.
دعنا نأخذ مثلا الاختلاف في صحة بعض الروايات المنقولة عن النبي (ص) : السبب الذي جعلها تنسب الى رسول الله، مع ان كثيرا من الفقهاء والاصوليين يشككون فيها، لسندها او لمتنها او لمفهومها. لا بد ان هناك اسبابا في البيئة الاجتماعية ولدت الحاجة اليها، وهناك اسباب مقابلة ولدت الشك فيها، هذه الاسباب هي افهام او افكار بدت لوهلة انها بديهية او ضرورية، لخدمة غرض ديني او دنيوي. لكن – وبسبب غياب الممارسة النقدية الحرة جرى تثبيت تلك الافهام باعتبارها قيمة مستقلة قائمة بذاتها. هناك امثلة على قواعد عقلية اتخذت نفس المسار، واقرب امثلتها قاعدة سد الذرائع التي استدل بها بعض الفقهاء المعاصرين على تحريم قيادة النساء للسيارات. ويريد البعض تثبيت هذا الراي الفقهي بغض النظر عن الظرف الخاص الذي استدعاه او المكان الخاص الذي كان يقتضيه. الحكم القائم على قاعدة سد الذرائع يتخذ لحاجة مرتبطة بظرف محدد وليس مستقلا، ولا يصح تعميمه الى ما يتجاوز ذلك الظرف. 
||في بلادنا كثير من المفكرين واصحاب الاراء الناضجة. لكنهم صامتون خوفا من الاذى||
المثال الاخر هو القاعدة التي يسميها الاصوليون بالتسامح في ادلة السنن، اي الروايات التي تفيد استحباب شيء او كراهة شيء آخر. غالبا ما يتساهل الفقهاء في التدقيق في الروايات التي تتحدث عن آداب فردية او عامة، لانها لا ترتب الزامات. لكنها من ناحية اخرى تساهم في صياغة رؤية الجماعة لنفسها وحياتها. من ابرز الامثلة على ذلك الروايات المتعلقة باللباس والزينة والسلوك الفردي، والتي اختلط فيها ما هو امر رباني بما هو عرف لجماعة او قبيلة او منطقة.
هناك ايضا تصوير الفقهاء السابقين للمصالح والمفاسد. ثمة جدل حول تعريف المصالح، هل يرجع الى العرف العام ام هو متروك للفقهاء. في الماضي والحاضر يقدم الفقهاء تعريفاتهم الخاصة للمصالح، والمصالح ويستدلون عليها بنصوص او قواعد شرعية. لكننا نعرف ان موضوع المصلحة متغير بحسب الزمان والمكان. تظهر المشكلة حين ياتي اشخاص، من اهل العلم او غيرهم، في زمن متأخر، ويسقطون تعريفا قدمه فقيه توفي قبل خمسة قرون، على مصلحة حاضرة، لا يجمع بينها وبين سابقتها غير الاسم. ثمة ميل شديد الى تثبيت الاسماء والعناوين القديمة، ربما ينبيء عن عجز عن صياغة مفاهيم جديدة منبثقة من حاجات اليوم وشروط البيئة. مثال ذلك مفهوم الحسبة الذي اختصرناه من مفهوم المحاسبة ومنع الظلم الى مفهوم ضيق قريب مما يعرف في بلاد اخرى بشرطة الاداب. ومثله ايضا مفهوم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يعني حرية النقد في المجال العام ويمارسه جميع اعضاء المجتمع، وقد ضيقناه الى وظيفة تقوم بها مؤسسة خاصة تراقب بالتحديد سلوك الافراد.
هذه الاشكالات ليست من انتاج فقهاء اليوم، بل بدأت قبل زمن بعيد. لكن فقهاء اليوم لم يتعاملوا معها تعاملا نقديا كما يفترض في المجتهدين، بل اخذوها كمسلمات. ربما لانها تتناغم مع مألوفهم ، وربما لان مبدعيها قد ماتوا وتقادم عليهم الزمن، وقد جرت عادتنا على تقديس ما مضى وتقديمه على ما هو حاضر، او لاننا غير قادرين على اجتهاد يتجاوز الشكليات والظواهر الى ما تحتها من مفاهيم او قيم او قواعد.
- تقول أن لكل وقت أسئلته، وأجدني أتفق معك في ذلك ولكن إذا كنا لم نجب على سؤال الأصالة والمعاصرة بعد وهو سؤال أثير منذ اصطدامنا بالغرب وانهزام السيف أمام البارود.. وإذا كنا في زمن ما بعد الحداثة لا نزال مأزومين بثنائيات على شاكلة التراث والحداثة والخصوصية والعالمية، فكيف نستطيع الإجابة على أسئلة وقتنا؟ وما هو في تقديرك السؤال الأهم اليوم؟
• يؤسفني القول ان التحديات التي نواجهها لا تسمح لنا برفاهية الاختيار. نحن نعيش في عالم تبلورت معايير القوة فيه وأصبح الطريق الى القوة واضحا لكل عاقل. وهناك الكثير من التجارب التي يمكن لنا ان نرجع اليها كي نحدد اولوياتنا ومن بينها تجاربنا الخاصة. 
في ظني ان علينا انجاز ثلاث مهمات رئيسية، اذا نجحنا فيها فسوف نشق طريقا سريعا الى القوة والتقدم:
 المهمة الاولى: ترسيخ قيم حقوق الانسان، وابرزها احترام استقلالية الفرد وكفاءته وتساويه والحماية القانونية لحرياته الاساسية، وحقه في المشاركة النشطة في صناعة القرار المؤثر على حاضره ومستقبله.
المهمة الثانية: ترسيخ قيمة العلم والبحث العلمي، وتطوير نظامنا التربوي والتعليمي كي يساهم في تشكيل بيئة محفزة لانتاج العلم.
المهمة الثالثة: توسيع قاعدة الانتاج الاقتصادي باتجاه التحرر من الارتهان لمنتج وحيد هو البترول. ونحن نملك اليوم الموارد اللازمة لتوسيع تلك القاعدة ولدينا الفرص. من امثلتها الحج والعمرة الذي لا زلنا نتعامل معه كعبء بينما يمكن ان يشكل موردا اقتصاديا عظيما لو تعاملنا معه كفرصة. ولدينا الموارد المالية والبشرية والاسواق التي تشكل اساسا متينا لصناعة ضخمة ومتنوعة.
 لقد بدأنا فعليا في اختبار تلك المهمات وظهر لنا فائدتها، ولهذا فاننا لا نبدأ من الصفر، لكني اشدد على الحاجة الى التعامل الجاد معها وتكريس الجهود كي نحولها من مسارات ثانوية كما هو وضعها الراهن الى جوهر العمل العام وغرضه الرئيس لمدة لا تقل عن عقدين من الزمن. اي ان نجعل نجاحنا كمجتمع او فشلنا مرهون بنجاحنا في انجاز المهمات الثلاث خلال مدة زمنية محددة.
- تجديد الخطاب الديني قضية تثار منذ زمن بعيد، وهو دون شك ضرورة إذا ما أردنا النهوض واللحاق بركب الحضارة الحديثة التي نصر على أن نعب من منجزاتها دون قدرة على إنتاجها.. ما هي أبرز المعوقات التي تواجه تجديد الخطاب؟
• الحياة الدينية للفرد والمجتمع هي جزء من حياته اليومية العادية. عالم الدين بثقافته وتقاليده وحدوده وهمومه تشكل جزء عضويا من روح الجماعة وشخصيتها وسلوكها. ولهذا فانه يتعسر تجديد الخطاب الديني ما لم يكن هناك مسار تجديد شامل يطال مختلف جوانب الحياة والثقافة. بعبارة اخرى فان تجديد الخطاب الديني هو جزء من فكرة النهضة الاجتماعية وليس مسارا مستقلا بذاته. بديهي ان مجتمعا ساكنا متخلفا لا يستطيع انتاج ثقافة حية ومتجددة ولا يستطيع انتاج علم جديد. نحتاج الى تجديد حياتنا الاجتماعية كي ننتج ثقافة جديدة، واظن ان الشرطين الاولين لتجديد الحياة الاجتماعية هما التطبيق الكامل لمباديء حقوق الانسان، واصلاح نظام التربية والتعليم.
 رجوعا الى الجانب النظري من المسألة، يفهم تجديد الخطاب الديني على واحد من ثلاثة وجوه، كل منها يعبر عن نوع محدد من الهموم والاستعدادات :
 الاول: تحديث الادوات والوسائل وطرق العرض، مع المحافظة على المضمون القديم، وهذا يشبه اصدار طبعة حديثة لكتاب قديم. وهذا هو منهج التيارات المحافظة التي ترى ان كل ما ورثناه من الماضين طيب ولا ينقصه غير الوسيلة المناسبة للوصول الى المتلقين، ولهذا فهي تركز على ادوات التوصيل من دون تعديل جدي في المحتوى. مناهج التربية والتثقيف الديني في بلادنا هي اوضح الامثلة على هذا المسار.
الثاني: اعادة تفسير التعاليم القديمة واستخراجها من حالة السكون الى حالة الحركة، اي تحويلها من تعليمات محايدة الى تعليمات حركية قابلة للتوجيه والاستعمال في الصراع الثقافي والاجتماعي. وهو منهج الحركيين الذين يركزون على توجيه الافكار المتجذرة في نفوس الناس نحو اتجاه مختلف، اي تحويلها من ساكنة او محايدة الى نشطة، مثل فكرة الجهاد التي استثمرت كأداة رئيسية لتجنيد الانصار وصناعة القوة السياسية في الصراع ضد السلطة او ضد الغرب او ضد قوى اجتماعية منافسة.
الثالث: مراجعة القواعد والاصول فضلا عن الفروع بحثا عن روح التشريع، اي الرسالة الداخلية التي يمكن وضعها في صيغ مختلفة بحسب اختلاف الازمنة والاماكن والموضوعات. وهو منهج المفكرين الذين يركزون على تطوير الفكرة اكثر من اهتمامهم برد فعل الجمهور.
من الواضح ان المنهج الاول هو الاكثر رواجا وهو تعبير عن الرغبة العميقة في الابقاء على المألوف، اما الثاني فيرتبط رواجه بالازمات، حيث توفر الازمة دوافع قوية لظهور الافكار الثورية. المنهج الثالث هو منهج الاقلية، لكنه في الغالب المحرك الاقوى للاصلاح الطويل الامد. ان ابرز الاصلاحات في الثقافة والنظام الاجتماعي هي ثمرة اعمال المفكرين سواء كان نقدا للسائد او اقتراحا لبدائل.
- تطالب بالفصل بين الدين والعلم في ذات الوقت الذي تطالب فيه باستئناف المصالحة بين العلم والهوية، أين يجتمع هذان المطلبان؟ . كما تطالب بالفصل بين الدين والعلم تطالب بالفصل بين الدين والسياسة، وتؤكد أن دور الدين في السياسة يقتصر فقط في تقديم القيم والمعايير الأساسية، وليس نماذج العمل التي تختلف بالضرورة من زمن لآخر، أليست هذه دعوة صريحة لتبني العلمانية؟
• المقصود من الفصل بين الدين والعلم هو التمييز بين العلم والحكم. وهما مرحلتان في العمل العلمي ولا بد من الفصل بينهما كي نكتشف الحقيقة. مثاله الرأي الفقهي في عمل البنوك: يمكن ان نبدأ بالحكم فنقول ان اخذ الفائدة على القرض او دفع الفائدة على الوديعة هو عمل البنك، وهو يطابق موضوع احكام الربا الواردة في القرآن الكريم. وهكذا ينتهي الموضوع. وبالعكس من ذلك يمكن ان نبدأ بدراسة عمل البنك ودوره ضمن النظام الاقتصادي القائم، وطبيعة العلاقة بين راس المال والعمل والقيمة الاقتصادية لكل منهما، اي دور كل منهما في توليد القيمة المضافة، ثم تحديد القيمة الاجتماعية للقيمة المضافة ذاتها، وهي تختلف بحسب النظام الاقتصادي وتوزيع مصادر المعيشة من جهة، وبحسب دور المال كمصدر للقوة الاجتماعية والسياسية من جهة اخرى، ثم نقارن نتائج هذه الدراسة بنظائرها في زمن النص «اي النظام الاقتصادي وحركة راس المال والعمل وتوليد القيمة المضافة وقيمتها الاجتماعية في ذلك الزمن». وبناء على هذه المقارنة نبحث في مدى التطابق بين 'موضوع' احكام الربا الواردة في النص و'الموضوعات' المطروحة حاليا. الفارق بين الطريقتين ان الحكم جاء متاخرا في الحالة الثانية الى ما بعد الدراسة العلمية المحايدة، اما في الحالة الاولى فقد قدمنا الحكم واهملنا العلم بالموضوع، ولهذا فقد خرجنا بنفس النتيجة التي كنا نعرفها سلفا، اي اننا لم نقم باي جهد علمي حقيقي.
هناك من يقول اليوم بان"الفائدة" ليست جوهر العملية الربوية، بل الاستخدام الاجتماعي للمال، والتوازن بين حصة راس المال وحصة الجهد الانساني في توليد القيمة المضافة، ولهذا فهؤلاء يجيزون القروض التنموية دون الاستهلاكية. والخلاصة ان المسألة بحاجة الى بحث ولا ينبغي الوقوف عند ظواهر الاشياء والتسرع في الاحكام.
المثال الثاني يظهر في المعالجات الراهنة لمسألة العنف، سواء العنف السياسي «الارهاب» او الجنائي «المخدرات، السطو.. الخ». التفسير الرائج للعنف السياسي يربطه بالغلو في الدين ويقارنه بحالة الخوارج في العصور الاسلامية الاولى. والتفسير الرائج للعنف الجنائي يربطه بالتفلت من تعاليم الدين وهو يربطه بالاعلام الفاسد وتزايد المال وضعف العلاقات الاسرية الخ.
بدلا من التسرع في اصدار احكام، نحتاج الى مراجعة التفسيرات العلمية المتوفرة حول ظاهرة العنف في كلا وجهيها السياسي والجنائي. هذه التفسيرات هي نتاج لدراسات وبحوث علمية ركزت على حالات محددة، فهي اذن تجربة كاملة، وأول العلم قراءة التجارب. قد لا نستفيد من ذات النتائج لانها ربما ترتبط عضويا بالتجربة التي انتجتها، لكنها على الاقل سوف تنير الطريق امامنا للبحث في الاسباب المحتملة لهذه الظاهرة. ربما يكون سببها الرئيس اقتصاديا، وربما يكون سببها تفكك منظومات القيم الاجتماعية، او لعل سببها العجز عن التكيف. وربما يكون السبب هو ما قيل اي عجز المعنيين عن استيعاب الصورة الصحيحة للدين، او ضآلة تاثير التوجيه الديني عليهم. وهذا بذاته يقودنا الى سؤال: لماذا، الذي يحتاج الى بحث علمي لا اصدار حكم سريع.
خلاصة الفكرة اذن هي ان العلم «او الدراسة العلمية للموضوع» هي مرحلة سابقة على تحديد القيمة او اصدار الحكم الديني. البحث العلمي يجب ان يجري من دون قيود، وغرضه الوحيد هو الوصول الى الحقيقة، وبوسعنا ان ناخذ بهذه النتائج او نرفضها فيما بعد، لكننا على اي حال نعرف اننا قد بذلنا جهدا معقولا في فهم موضوع الحكم قبل اصداره.
اما الدعوة الى المصالحة بين العلم والهوية «والمقصود هو الثقافة الدينية باعتبارها المكون الرئيسي للهوية» فهي ترتبط بذات الاساس السابق. اذكر مثلا ان العالم العربي ابن الهيثم وصف في كتابه "المناظر" معادلة فيزيائية صمم على ضوئها النموذج الاولي للكاميرا في أزمان تالية. وكانت فكرته تدور حول انتقال الضوء والتناظر بين أحجام المرئيات. ولو واصل العرب نشاطهم العلمي لكانت الكاميرا اختراعا عربيا. كان ابن الهيثم رياضيا وعالما في الدين. لكن فقهاء القرن العشرين حرموا التصوير في أول الامر لانهم طبقوا النصوص الواردة في صناعة التماثيل على عمل الكاميرا. تحريمهم هذا ناتج عن عدم معرفتهم بالفيزياء وعمل الكاميرا. واصدارهم الحكم مع عدم علمهم هو نتاج لاعتقاد سائد فحواه ان كل شيء وكل جديد يجب ان تحدد قيمته على ضوء ما ورد في الكتاب والسنة. نعرف ان هذا مستحيل لان النص توقف عند زمن محدد ولا يمكن ان يستوعب كل جديد في الحياة. وحسب راي الامام الغزالي فان النص محدود والموضوعات لا محدودة ومحال ان يستوعب المحدود غير المحدود. فيما بعد جاء فقهاء وقالوا ان عمل الكاميرا هو حبس الضوء وليس النحت او التمثيل وبناء عليه اجازوا التصوير. ومن هذا وذاك نعرف ان المصالحة بين العلم والهوية تعني على وجه التحديد توضيح الخط الفاصل بين ما هو موضوع اشتغال للحكم الديني وما هو موضوع لعمل العقل والعلم، ما يدخل ضمن تخصص الفقيه وما يخرج عنه. 
|| لا طريق للتقدم والاصلاح من دون حرية النقد المطلقة التي لا تحدها قوانين ولا قيود ولا احكام ولا اعراف ولا مجاملات ||

نحن اليوم نعيش في حال التباس بسبب شعورنا بالحرج من البحث في موضوعات معينة او علوم معينة، خشية ان تكون مصادمة في الجوهر او في العرض للقيم الدينية. نحن في حرج لان الراي السائد هو ان البحث في الدين مقصور على من درس كتبا معينة، في مدراس معينة، وبطريقة معينة. وهذا يجعل سائر المسلمين من اهل العلم وغيرهم مستبعدين قسرا من النقاش في امور الدين وما يخص تطبيق قيم الدين في الحياة اليومية. نحن في حرج ايضا بسبب تصورنا ان كل شيء يجب ان يكون قد ورد في الكتاب والسنة او ان له حكما فيهما. والحق ان اكثر جوانب الحياة تصنف ضمن المباحات اي انها موضوعات لعمل العقل، والاحكام التي نصدرها عليها هي احكام اخلاقية تقوم على معايير عقلية بحتة.
في اطار المصالحة بين العلم والهوية نحتاج الى تحرير العلم من التصنيف التقليدي الى طيب وخبيث او جائز ومحرم، واعتبار العلوم كلها «بما فيها علوم الشريعة» محترمة، لكن غير مقدسة، واعتبار نتائجها مؤقتة وتاريخية لا معصومة ولا نهائية، وفتح الباب امام كل عالم في اي تخصص لقول رايه العلمي سواء جاء مطابقا لما قاله الفقهاء السابقون، او ما يقوله فقهاء هذه المدرسة او تلك، او مخالفا لجميعهم. راي هذا العالم وراي الفقهاء السابقين والمعاصرين كلها غير مقدسة، بل هي تاريخية وقابلة للنقد من دون حرج.
- العلمانية مصطلح سيء السمعة، رغم أن الكثير من المفكرين الإسلاميين يرون أن للعلمانية جذور في عمق الدين الإسلامي؟ ألا ترى أنه حان الوقت لقشع الضبابية المحيطة بهذا المصطلح وتبييضه ليدرك عامة الناس ماهيته؟
• نحن مصابون بمرض اسمه نقل القوالب والجدل فيها ثم اصدار الاحكام عليها من دون فتحها وتفكيكها. هكذا فعلنا بالعلمانية وهكذا فعلنا بالسيارة ايضا. الا ترين ان خلاصة علم الميكانيكا عندنا هو استعمال المنتجات المستوردة بدل تفكيكها واعادة انتاجها ضمن شروط وحاجات بيئتنا الخاصة. خلاصة ما يمكن قوله هنا ان العلمانية بالمفهوم الراسخ في الثقافة الاوربية نقيضة لثقافتنا وغير قابلة للتنسيج فيها. ونحن لسنا مضطرين للاخذ بكل ما يقوله الاخرون. لكننا بحاجة الى دراستها والتفكير فيها. نستطيع التمييز بين العلمانية كمذهب او ايديولوجيا خلاصتها الفصل بين الدين والحياة العامة، وبين العلمنة اي المسار الذي يؤدي الى نزع القداسة عن بعض الاحكام ذات المصدر الديني وتحويلها الى اعراف مفتوحة لتصرف البشر. من ذلك مثلا تحويل بعض الاحكام الشرعية الى قوانين وطنية تطبق باستعمال قوة الدولة، فيطيعها الناس خوفا من العقاب الدنيوي او رغبة في المكافأة المادية، لا رغبة في طاعة الله ورضاه. هذه القوانين دنيوية او علمانية «بحسب بعض التعريفات» رغم ان مصدرها ديني. يمكن ان نفكر في العلمانية كتجسيد لاستقلال العلوم وتمايزها عن بعضها فثمة علوم دينية وثمة علوم غير دينية مثل العلوم الطبيعية والتجريبية والرياضيات والفلسفة الخ، فهذه يمكن ان توصف بالعلمانية لتمييزها عن العلوم الدينية. 

أخيرا يمكن ان نفكر في العلمانية في صورة فصل "المؤسسة الدينية" عن "مؤسسة الدولة"، وجعل الايمان اهليا اختياريا للافراد لا قسرا عليهم، واقامة قوانين الدولة على ارضية المصلحة العرفية لا على اساس النص الديني، وجعلها بالتالي موضع نقاش ونقد بين العامة لا مقدسات يحرم الكلام فيها. او يمكن التفكير في الفصل بين الحكم الديني والعلم الديني، الحكم الديني واجب الطاعة اما العلم الديني فهو قابل للنقد والمعارصة.
خلاصة القول ان مفهوم العلمانية ليس قالبا نهائيا، وليس الغرض من الكلام فيه هو دائما ابعاد الدين عن الحياة العامة. في كثير من الحالات يكون هدف النقاش هو تخفيف الاعباء التي حملت على كاهل الدين واثقلته بما ليس منه. وتقديم الدين للمؤمنين كسبيل للحياة والتقدم لا كقيد في ايديهم وعلى عقولهم. 
لكن لا شك ان مفهوم العلمانية السائد في الغرب لا يتناسب مع معتقداتنا الدينية. وبالمناسبة فقد نشرت كتابا مشتركا مع خمسة باحثين بعنوان "الديمقراطية في بلد مسلم"، وهو عمل تجريبي يستهدف اختبار العلاقة الممكنة بين ما نعتبره دينيا وما يعتبره الغرب علمانيا، وركزت هذه المحاولة على الصور الممكنة للتقريب بين قيم الدين ومباديء الديمقراطية، وهو يقدم شروحات مفصلة حول الاحتمالات الممكنة للجمع بين الطرفين.
- لا يمكن أن نتقدم دون ممارسة النقد الذاتي ولكن هناك عقبات كثيرة تقف أمامنا.. ما هي في تقديرك أبرز هذه العقبات؟ وكيف نعيد تفعيل قيمة جهاد النفس وربطها بالنقد الذاتي؟
• ابسط صور الممارسة النقدية هي ان يقول كل رأيه في النقطة المحددة من دون سعي الى اقناع الطرف الثاني بهذا الراي، اي يخلق خيارا جديدا ويترك للاخرين حق الاختيار. النقد الموضوعي هو الذي يتوجه الى الفكرة المطروحة للنقاش ويغض الطرف تماما عن صاحب الفكرة. نحن نفتقر الى النقد لاننا نفتقر الى النقاش العلمي. النقاشات عندنا قليلة جدا، ومعظم هذا القليل يتناول الاشخاص ويساجل دفاعا عن الذات. الناقدون يضعون نصب عينهم اسم صاحب الفكرة وانتماءه الايديولوجي او السياسي او الجغرافي «واحيانا الاثني» وينظرون الى ارائه من خلال هذه الزوايا. لهذا تجدهم يحتفون بافكار بسيطة واحيانا ساذجة لاشخاص معينين ويحتقرون افكارا عظيمة لاشخاص آخرين.
في بلادنا كثير من المفكرين واصحاب الاراء الناضجة. لكنهم صامتون خوفا من الاذى او بسبب ضيق المساحة المتوفرة للتعبير الحر عن الرأي. في الصحافة نعاني من تضخم في الرقابة وارتياب من جانب الرقباء وانعدام تام للمعايير المكتوبة التي على ضوئها يسمح او لا يسمح بالنشر.
 لدينا اذن مشكلة الافتقار الى اطارات قانونية ومؤسسية تضمن حرية التعبير وتحمي اصحاب الاراء من العسف والتحكم. لدينا اخيرا مشكلة الخلط بين الراي والدعوة. فريق من النخبة ينظر الى الراي كأمانة ومسؤولية، ويطالب الكتاب بان لا يقولوا شيئا يخالف قواعد راسخة او اعرافا جارية او متبنيات لهذا الفريق او ذاك. ويبرون هذه المطالبة بان القلم امانة وان الصحافة المنشورة تؤثر على افكار الناس وعقولهم، وهم لا يريدون للناس ان يعرفوا شيئا سوى ما هو مؤكد الصلاح.
في رأيي ان هذه المبررات وتلك المطالبات كلها سقيمة لا تصلح ولا تصلح. الراي ليس أمانة بل اعلان عن معرفة قد تتفق مع المتعارف او تتمايز عنه. ووظيفة الكاتب ليس اصلاح الناس بل التفكير والتعبير عن افكاره. والناس ليسوا دجاجا في حظيرة كي نتحكم في الغذاء والهواء الذي يصل اليهم. اول العلم هو حرية التعبير والنقد والاختلاف. وليس ثمة طريق للتقدم والاصلاح من دون حرية النقد، واعني الحرية المطلقة التي لا تحدها قوانين ولا قيود ولا حكام ولا اعراف ولا مجاملات.
- تطرح قضية التفكير في الذات وأهميته وتحليل الأمور وتفكيكها وعدم قبولها على علاتها أو ما يسمى بالعقلية النقدية. ولكن كيف يتكون العقل النقدي ومنظومتنا التعليمية قائمة على آلية التلقين والقولبة، وإعادة إنتاج الآت تحفظ ولا تفهم وتستظهر ولا تفكر؟
• حين نتحدث عن الذات، فان جوهر حديثنا يتعلق بفهم الذات، وقدرة الفرد على ان يفكر في ذاته من دون ان يتأثر بتصوره المسبق حول هذه الذات. وهو ما يعرف في الفلسفة باسم الذاتانية او subjectivity. ينطوي هذا النقاش على اسئلة عديدة، بعضها ضروري كي يحدد الفرد مكانه في العالم. 
لعل اول الاسئلة وابسطها هو سؤال العلاقة بين الفرد والجماعة: هل انا فرد مستقل بذاته، مستقل بعقله وفكره، قادر على التعبير عن ذات خاصة غير ذائبة في المجموع. ام انا نقطة في بحر المجموع، مجرد كسر يكمل الرقم، او امتداد لواحد من الوان اللوحة. هل اصنع هويتي الخاصة ام ارثها او استعيرها من الهوية الجمعية. هل انا الذي اصوغ حياتي ورؤيتي وتطلعاتي ام انا منساق فيما صاغه غيري من اسلوب حياة او رؤية للعالم او تطلعات؟. هل انا هنا لاني قررت ان اكون هنا، ام لان الاقدار ساقتني الى هذا المكان؟. هل احمل هذه الرؤية لانني توصلت اليها بعقلي الخاص، ام لأن عائلتي او مدرستي او مجتمعي زرعوها في عقلي؟. هل انا انا لاني اردت ذلك ام لان غيري قرر لي ان اكون كذلك؟. 
|| الحريم الشخصي هو المكان الذي يتمتع فيه الفرد بوجوده الانساني الخاص، الذي قد يتوافق وقد يختلف مع الغير. خلافا للمجال العام الذي يمثل نطاقا مشتركا بين الناس ||
 حين تطرح هذه الاسئلة على بعض الناس، فان جوابهم السريع - والمتوقع – سيكون: حسنا.. الفرد مستقل وهو في الوقت نفسه جزء من الجماعة، لديه هوية فردية واخرى عضوية. واذكر كتابا قديما للاستاذ محمد قطب حاول فيه مناقشة المسألة، وتوصل في ختام تلك المناقشة الى هذه التسوية التي يعرفها جميع الناس حتى لو لم يناقشوا الامر. 
نعرف بالبديهة ان الفرد لا يعيش في فراغ بل وسط جماعة. لكننا نتكلم عن جانبين مختلفين: الاول هو الحدود الفاصلة بين ما هو فردي وما هو جمعي، والثاني ارضية النقاش هل هي استقلال الفرد ام محورية الجماعة. اذا قلنا باستقلال الفرد فيجب ان نقر بوجود مجالين متمايزين في الحياة الاجتماعية: المجال الخاص والمجال العام. 
المجال الخاص حريم شخصي للفرد، يمارس فيه رغباته وحرياته المطلقة واراداته الخاصة، ولا يجوز خرقه او الحكم او التحكم فيه او اصدار القوانين او تحديد الحركة ضمنه من جانب اي طرف ولاي مبرر. الحريم الشخصي هو المكان الذي يتمتع فيه الفرد بوجوده الانساني الخاص، الذي قد يتوافق وقد يختلف مع الغير. خلافا للمجال العام الذي يمثل نطاقا مشتركا بين الناس، ولذلك فهو مجال اشتغال الارادة الاجتماعية والقوانين والسلطات والاعراف والتوافقات الخ. 
ويترتب على القول باستقلال الفرد توفير الحماية القانونية لحقه في مخالفة الجماعة، وعدم ايقاع عقوبات رجوعا الى اعراف او توافقات او قناعات جمعية، الا اذا حددت سلفا في القانون العام.
هذه الاسئلة هي المنطلق في تحديد فلسفة التربية والتعليم. نظامنا التعليمي اليوم يدور في الجوهر حول نقل الموروث الثقافي والتجربة الاجتماعية الى الجيل الجديد، فهو اذن يركز على التواصل والاستمرارية بين الاجيال، ولا يهتم الا نادرا بالتغيير او القفز على الفواصل الزمنية. الطريقة المتبعة هي ذات الطريقة المعروفة في الكتاتيب القديمة، اي شرح النص واقناع الطالب بان هذا النص هو اطار الحقيقة وحدودها. وهذه الطريقة سائدة في تعليم العلوم الانسانية والعقيدة وفي تعليم العلوم الطبيعية والتجريبية وحتى الرياضيات. فلسفة التربية والتعليم في بلادنا تستهدف اذن انتاج نسخ جديدة عن الجيل القديم مع القليل من التعديلات. 
|| لا اشك ان انسان هذا العصر اقدر من اسلافه الذين عاشوا في العصور الماضية على ابداع حلول اكمل ||
اذا اردنا انتاج جيل مفكر ومنتج للعلم، فنحن بحاجة الى تربية عقل شكاك ومتسائل، عقل متمرد على الاطر والموروثات. عقل يتطلع الى كشف الغيب وليس الوقوف امام جدرانه، عقل يؤمن بالغيب، اي بوجود عالم وراء المشهود والمعروف والمتفق عليه. الايمان بالغيب هو ايمان بوجود اوسع من الوجود المرئي والمشهود، وان الانسان مكلف وقادر في الوقت عينه على الوصول الى ذلك العالم اذا خرق جدار الغيب، اي اذا فكر وجرب وتأمل في الاشياء وحاول عبور السطح الظاهر الى ما تحت السطح من خفاء.
العقل المفكر والعقل المتسائل والعقل الشكاك يحتاج الى بيئة تسمح بالاختلاف، وتقدر المبادرة الفردية ولو كانت مخالفة للسائد. نحتاج اذن الى فهم الذات باعتبارها حرة مستقلة، قائمة بذاتها، شجاعة في ابداع الجديد، لا مجرد "صامولة" في الة ضخمة اسمها المجتمع، وظيفتها الوحيدة هي تسهيل عمل الالة او تكميل الوان اللوحة.
- لاحظت في كتابك «الحداثة كحاجة دينية» أنك لا تفصل بين التحديث والحداثة، ألا ترى أننا نحتاج لهذا الفصل والتفريق بينهما لنعي أن ما حدث في عالمنا العربي هو تحديثات دون تبني للأساس المعرفي القائمة عليه وهو الحداثة؟
• الحداثة هي تيار في الفكر الانساني ظهر في القرن السابع عشر الميلادي، ويدور بمجمله حول فهم جديد لثلاثة عناصر متفاعلة: الانسان الفرد، الزمن، العلم.
الانسان – عند الحداثيين - محور الكون وهو غايته ونهايته. كل شيء من صنع الانسان وكل شيء غرضه تحسين حياة الانسان. الزمن – عند الحداثيين – هو الحاضر والمستقبل، اما الماضي فهو مجرد مخزن للافكار والمعلومات يرجع اليه الانسان متعلما لا مستفتيا. اما العلم فهو المعرفة الناتجة عن الفحص والتجربة والنقد واعادة التجريب في اطار منهجي يسمح بالتفنيد والتعديل. ولا يوجد عندهم علم معصوم. كل ما ليس قابلا للنقد او التفنيد فليس علما، بل ميتافيزيقا تقبله او ترفضه بحسب ارادتك بغض النظر عن دليله. 


 تركز دعوى الحداثة على قابلية الانسان لصياغة ظرفه الحياتي وتطوير بيئته والسيطرة عليها اعتمادا على المعرفة العلمية والتجربة والاستخدام السليم للتقنيات التي يطورها لحل مشكلاته. تدعو الحداثة الى اختبار كل وجه من وجوه الحياة الانسانية لكشف سبل التقدم وما يعترضها من معوقات وتطوير حلول علمية لازاحتها. وهي اخيرا تنبذ السكون، وتركز على التغيير المتواصل باعتباره الطريق الطبيعي للارتقاء، وترحب بكل مختلف عن السائد باعتباره نافذة محتملة على مستقبل افضل.
وبالمقارنة فان التحديث هو العمل الهادف الى ارساء القيم الاساسية للحداثة في الحياة الاجتماعية، اي التاكيد على محورية الانسان الفرد كسيد للكون، وهدف للتشريعات، وصانع للحياة. والتركيز على العلم كاساس لاتخاذ القرار في المجالين الفردي والاجتماعي. والنظر الى الحاضر باعتباره اعلى قيمة من الماضي واكثر كمالا، واعتباره النطاق الاساس لكل الجهود التي غرضها صياغة المستقبل.
من الناحية المبدئية نعتبر الحداثة مرحلة متطورة في تاريخ الانسانية وسعيها للارتقاء. لكنا لا ناخذها كقالب جاهز. بل نتعامل معها تعاملا نقديا، وهدفنا هو اعادة انتاجها ضمن الشروط المادية والثقافية الخاصة بمجتمعاتنا. قد نقبل بعض اجزائها ونرفض الاخر، وقد نقدم بعضها ونؤخر الاخر او نعدله. في كل الاحوال نعتبر الحداثة "معرفة" و "تجربة" مفتوحة لاي جهد انساني، بغض النظر عن الاطارالحضاري الذي ظهرت فيه وتطورت. 
|| الأغلبية الساحقة من النساء السعوديات يتطلعن الى الحداثة باعتبارها السبيل الوحيد لحياة لائقة ||
التعامل الانتقائي مع الحداثة يختلف عن التعامل النقدي. في التعامل الانتقائي يقتطع الانسان اجزاء وينقلها، وهذا هو الجاري في المجتمعات العربية. فنحن ننقل نظم البناء الغربية كما هي، وننقل التقنيات المختلفة وننقل النظم الاقتصادية والمالية من دون تعديل. اما الذي ندعو اليه فهو اعادة انتاج الحداثة، اجزاءها او مجموعها، ضمن الشروط الثقافية والمادية الخاصة بنا. اعادة الانتاج تاتي ضمن قراءة نقدية تتعلق بقيم الحداثة نفسها وبموضوعات اشتغالها المقترحة في آن واحد. 
في الاقتصاد مثلا نحن ننقل قوانين عمل تطورت في اطار فلسفة اقتصادية- اجتماعية مختلفة، وقد لا تلبي حاجاتنا، لا سيما بالنظر الى الفارق الكبير في الثقافة وفي مستوى النمو بين مجتمعاتنا والمجتمعات الصناعية. كان من الافضل لنا ان ندرس علم الاقتصاد من جهة وندرس حاجاتنا من جهة اخرى، فنعدل قوانين العمل تلك او نبتكر بدائل كي تستوعب وتلبي هذه الحاجات لا ان ننقل نسخة كاملة عن البنك الاوربي والبيروقراطية الاوربية الخ. خلاصة القول اننا بحاجة الى انتاج حداثتنا الخاصة، ويمكن ان تكون القراءة النقدية للحداثة الاوربية هي الخطوة الاولى في هذا الطريق.
- علاقتنا بالغرب كانت ولازالت علاقة شائكة وأنت تطالب بالانفتاح على الثقافة الغربية، وترى أننا ندور بين فشلين فشل في الإتباع وفشل في الإبداع، وأن الخروج من هذه الدائرة لا يكون إلا بإعادة الإنتاج من خلال العلاقة النقدية.. كيف السبيل إلى ذلك إذا كان مثقفونا أنفسهم إما مستلب للغرب وإما ناقم عليه؟
• علاقتنا مع الغرب هي واحدة من نقاط التازم البارزة في تاريخنا المعاصر. نحن نكرهه ونرغب فيما عنده. نتألم من هيمنته ونخشى من الانفكاك عنه. نطالبه بالعدل معنا ونتجاهل قيامنا بالعدل فيما بيننا. وهناك اضافة الى هذا هيمنة السياسة على تصورنا لهذه العلاقة. فكلما تحدثنا عن الغرب قفزت الى واجهة الحديث صورة الدولة القاهرة المهيمنة. وباء السياسة جعل النقاش الموضوعي مستحيلا. وجعل كل متحدث عن فضائل الغرب غبيا او مشبوها.
لا نتكلم عن الغرب بالمفهوم الجغرافي، بل بالمعنى الثقافي والزمني. نحن بعبارة اخرى نتحدث عن التجربة وارضيتها الفلسفية والمعرفية، سواء جرت هذه التجربة في بريطانيا او اليابان او في مصر او السعودية او اي مكان آخر. الغرب الثقافي والحضاري هو رمز لمرحلة تاريخية هي الاخيرة في تاريخ البشرية وسعيها المتواصل من اجل التقدم وتسخير الموارد التي اودعها الله في الكون وطلب من عباده استثمارها ﴿ هو انشأكم في الارض واستعمركم فيها ﴾. 
اذا اردنا النهوض فان نقطة البداية هي استيعاب ما وصل اليه الغربيون، وفهم مصادر القوة التي قادت الى هذه الحضارة او تولدت في اطارها، ثم العمل على اعادة انتاجها ضمن نسيجنا الثقافي الخاص وتبعا لحاجاتنا ومصالحنا الخاصة. بين ابرز مصادرالقوة التي كشفت عنها تجربة الغرب، اشير الى التفكير العلمي والعقلاني، وانتاج العلم، والابداع في مجال الاقتصاد، وتمكين المجتمع من المشاركة الفاعلة والمؤثرة في صياغة الحياة العامة والمستقبل. وامامنا امثلة قريبة مثل كوريا الجنوبية التي بدأت بتقليد الصناعة الغربية وهي اليوم تنافسها في عقر دارها. وقبلها اليابان وسياتي في السنوات القليلة القادمة مثال الصين، وبينهما تجارب عديدة من ماليزيا الى البرازيل. في كل هذه الاقطار جرى التركيز على الانسان باعتباره منتج العلم والمدنية. 
ونحن اليوم نشكو من ان النشاطات التي تسمى تنموية تركز على الاشياء وتهمل الانسان. فنحن نفتقر الى اجماع حول محورية الفرد وحول حقوق الانسان ولا سيما حرية التفكير والتعبير، كما نفتقر الى التربية المدرسية التي تبني العقل العلمي والتفكير العقلاني، واخيرا نفتقر الى الاطارات القانونية والمؤسسية التي تسمح بمشاركة الافراد في صياغة النظام الاجتماعي الذي يعيشون فيه والمستقبل الذي يسعون اليه. يمكن لنا ان نتعلم الكثير من التجربة الغربية، نتعلمها ثم نطور تجربتنا الخاصة التي قد تكون مرحلة موازية وقد تاتي بمستوى ارقى مما وصل اليه الغربيون. لكن في كل الاحوال لا يمكن الابتداء من الصفر، ولا يمكن اغفال تلك التجرب القيمة، سواء احببناها ام كرهناها. 


مقالات  ذات علاقة
-------------------


رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...