‏إظهار الرسائل ذات التسميات التنمية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات التنمية. إظهار كافة الرسائل

12/09/2006

قرشنا الابيض ليومنا الاسود

في ظرف الوفرة المالية الذي تعيشه دول الخليج اليوم ، يجب ان لا ننسى الظروف العسيرة التي مررنا بها في النصف الثاني من الثمانينات ومعظم عقد التسعينات. لا نسمع اليوم الشكاوى الكثيرة من البطالة التي كانت موضوعا يوميا للصحافة ومجالس المواطنين في تلك الفترة ، كما اختفت اصوات التذمر من السياسات الحكومية والمحسوبيات وسوء الادارة التي راجت يومئذ. ثبات المستويات العالية نسبيا لاسعار البترول وفر فرصة نادرة لاختفاء الكثير من المشكلات الاقتصادية وغير الاقتصادية التي شهدناها قبل بضع سنوات. يؤدي ارتفاع الدخل الوطني الى زيادة الاستثمار المحلي وتوفير فرص عمل جديدة وتحسن مستوى المعيشة لعامة السكان .

 ولعل كثيرا منا يتذكر ما حصل في منتصف السبعينات حين شهدت المنطقة انقلابا اقتصاديا لم يسبق له مثيل في تاريخها كله. وكان ذلك بفضل ارتفاع اسعار البترول بعد حرب رمضان 1973. في منتصف التسعينات اقترح احد المحللين نموذجا دائريا لفهم الحراك الاقتصادي في المنطقة . ويربط هذا النموذج بين الطلب على البترول والنشاط الاقتصادي في العالم ، لا سيما في الدول الصناعية ، فانخفاض اسعار البترول يحفز النمو في هذه الدول ويؤدي الى رفع الطلب والاسعار ، الامر الذي ينعكس ايجابيا على اقتصاديات الدول الخليجية المصدرة او المستفيدة .
 لكن اذا تجاوزت الاسعار مستوى معينا فسوف يتراجع الطلب ومعه الدخل القومي للاقطار المصدرة . اذا صح هذا النموذج ، فان على دول الخليج ان تستعد لهبوط في عائداتها بعدما تتجاوز اسعار البترول حاجز الثمانين دولارا. اي ان تستعد في حقيقة الامر لحقبة من العسر شبيهة بتلك التي عرفتها في السنوات الماضية. من المحتمل طبعا ان لا يكون هذا التحليل صحيحا ، او لعل عوامل اضافية تدخل في السوق لم تكن متوقعة من قبل ، مثل النهوض الاقتصادي في الصين والهند الذي يرجع اليه جانب كبير من الانتعاش الحالي في الاسواق. 

لكن ايا كان الامر ، فان تجربة العسر والانتعاش التي تكررت للمرة الثانية خلال اقل من ثلاثة عقود توفر مبررا قويا لكل عاقل كي يتأمل ويخطط ويستعد لمختلف الاحتمالات. من المحتمل ان تتكرر مرة اخرى نفس المشكلات التي عرفناها في السنوات الماضية ، ومن المحتمل ان نواجه – بالاضافة اليها - مشكلات جديدة.

في سنوات العسر شهدنا بوادر اولية لما يمكن وصفه بالاحباط ولا سيما بين الاجيال الجديدة ، وتجسدت هذه البوادر في تأزم العلاقات الاسرية والاجتماعية وشيوع التطرف السياسي والديني ، وكان اخطر تمظهراتها هو ارتفاع مؤشرات العنف. وعلى المستوى السياسي والاداري شهدنا شيوع الفساد واستغلال النفوذ والمحسوبيات وظهور انواع من التحزبات والتحالفات التي تسعى للاستئثار بالموارد العامة . وهذه كلها ظواهر يمكن ان توجد في ظرف الرخاء كما توجد في ظرف العسر ، لكن اثرها اشد وقعا في ظروف العسر وندرة الموارد ، ولهذا فمن الممكن ان تؤدي الى خلق احباطات ترتد على شكل تمرد فردي او جمعي .

ثمة طرق كثيرة لاستثمار ظرف الوفرة في وضع اساس متين للوقاية من الانعكاسات السلبية لظروف العسر. ويكفينا مراجعة الدراسات القيمة التي وضعها باحثون عرب واجانب خلال العقود الثلاثة الماضية لمعرفة نقاط البداية ونقاط الاستهداف. ثمة اقتراحات اجمعت عليها تلك الدراسات ، من بينها مثلا تنويع مصادر الدخل الوطني لتخفيف الاعتماد المفرط على عائدات البترول الخام في تسيير معيشة الناس والدولة ، ومن بينها التعجيل في التكامل الاقتصادي بين الدول العربية المتجاورة كي نضمن استفادة قصوى من الاموال التي تنفق في كل بلد على حدة.

 واريد الاشارة ايضا الى ضرورة التعريف الدقيق للمرحلة الزمنية التي تمر بها المنطقة من الناحية التنموية ، واظن ان هذا التعريف يجب ان يلحظ كون المنطقة في مرحلة انتقال بين التقاليد والحداثة ، اي بين بداية النمو وبلوغ التنمية غاياتها. المقصود من تعريف كهذا هو تحديد قيمة السياسات والبرامج التي تتبناها الحكومات ، وتحديد القيمة السياسية او الثقافية للتفاعل الاجتماعي مع هذه السياسات . بديهي ان اعتبار الوضع انتقاليا يعني ان ما يجرى فيه هو مجرد مرحلة وليس نهائيا ، وبالتالي فاننا ننظر الى قيمته من زاوية عملية بحتة. وعندئذ فسوف ننظر الى المطالبات والنقد الموجه لهذه السياسات باعتباره تطلعا مشروعا الى الافضل وليس مؤشرا على رفض قطعي لما هو قائم ، كما ننظر الى الاعتراضات او حتى التمرد السياسي باعتباره ناتجا جانبيا للتغيير وليس موقفا نهائيا .

خلاصة القول ان ظرف الرخاء هو فرصة للتوقي من الانعكاسات السلبية لظرف الشدة ، واظن ان اي عاقل يستوعب حقيقة ان كلا الظرفين هو احتمال قائم لفترة قد تطول او تقصر وان الاعداد لكل منهما ضرورة في جميع الاوقات.

الايام 12-9-2006

28/08/2004

التنمية على الطريقة الصينية : حريات اجتماعية من دون سياسة


يقال عادة ان التنمية السياسية ليست وصفة جاهزة  قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان . منذ اواخر الستينات الميلادية اصبحت المقومات المحلية للتطور السياسي – او الخصوصيات كما تسمى احيانا - الموضوع المحوري للابحاث حول امكانات النمو وعوائقه. الخصوصية قد تكون وصفا ايجابيا ، بمعنى وجود فرص افضل لتنمية سياسية واسعة ، وقد تكون وصفا سلبيا بمعنى انعدام او عسر فرص الحراك السياسي او الاقتصادي او ضيق الامكانات المتاحة للنمو.
رغم كثرة الدراسات حول التنمية في العالم الثالث ، فان الاهمية الكبرى تعطى في العادة للوصف الذي يقدمه مفكرو كل بلد عن خصوصيات مجتمعهم ومدى قربها او بعدها عن معايير التنمية المتعارفة عالميا . في حقيقة الامر فان مفكري كل بلد مطالبون باقتراح النموذج التنموي الاكثر تلاؤما مع ظروف مجتمعهم الاقتصادية والثقافية وطرحه للنقاش. وفي الوقت الراهن فان علم التنمية يتمثل في مجموع الابحاث المحلية والمناقشات المتعلقة بها ، ومقارناتها مع المعايير العامة لفكرة التنمية الشاملة .
نموذج التنمية هو تركيب منظومي من المفاهيم الاساسية ، الاهداف المرحلية ، الطرق وادوات العمل التي تصمم على ضوء الشروط الخاصة للمجتمع المحلي . انه بكلمة اخرى النموذج المتعارف في العالم مع بعض التعديلات ، من اضافة او حذف.  من بين النماذج التي حققت نجاحا ملحوظا ضمن شروط العالم الثالث ، يعتبر النموذج الصيني متميزا ، لا سيما في ظل تغير اسواق العمل الدولية خلال العقد المنصرم.
يقوم هذا النموذج على اعتبار الاقتصاد محورا اساسيا – بل وحيدا الى حد كبير – للنمو ، ولهذا فهو يعتبر قاصرا عن المقاييس العالمية المتعلقة بالتنمية الشاملة . لكن الصين لفتت الانظار بقدرتها على تصميم منظومة من المحفزات للنمو جعلتها الهدف المفضل للاستثمارات الدولية . والحقيقة ان عددا هائلا من الشركات الكبرى في الدول الصناعية قد نقلت جانبا مهما من اعمالها الى الصين ، الامر الذي وفر لها فرصة لنمو سنوي ثابت في الناتج القومي ، كان هو الاعلى عالميا خلال السنوات الماضية . وخلال العام الجاري كان الحجم الهائل للنمو في هذا البلد سببا في ضغوط قوية على اسواق المواد الانشائية والوقود في العالم كله .
يقوم النموذج الصيني على استبدال الديمقراطية بالحريات الاجتماعية والثقافية . لقد اصبح من البديهي اعتبار الحريات العامة وحاكمية القانون قاعدة اساسية لاي تحرك تنموي . ان الاستثمار طويل الامد غير متوقع في مجتمعات تغيب عنها الحريات وسيادة القانون . والحقيقة ان دولا كثيرة – معظم دول الشرق الاوسط مثلا - قد حاولت اقناع العالم بان هيمنة الدولة يمكن ان تعوض عن سيادة القانون وان الانضباط هو بديل افضل عن الحرية ، وقد نجحت احيانا في استقطاب مستثمرين مهتمين بالميزات النسبية التي تتمتع بها هذه البلدان .
الا ان الاستثمارات الاجنبية منها والمحلية بقيت محدودة جدا بالقياس الى حركة راس المال العالمي . وكشف تقرير نشر العام الماضي ان الصين وحدها استقبلت ما يزيد عن مئة ضعف ما حصلت عليه اقطار الشرق الاوسط مجتمعة من استثمارات . كما ان تقريرا اخر يظهر ان الاموال الخليجية التي استثمرت في اوربا وشرق اسيا زادت خلال العقد الماضي عن تلك التي استثمرت في الخليج نفسه.
لا يفاخر الصينيون بالديمقراطية فهم يفتقرون اليها ، لكنهم يفاخرون بالحريات الاجتماعية والثقافية الواسعة وسيادة القانون التي تعني المساواة بين الجميع في الفرص وامام القانون ، كما تعني الشفافية والتاكيد على المسؤولية والمحاسبة. وتدعي الحكومة الصينية انها قد نجحت بنهاية العام الماضي في توفير التعليم الالزامي لكل الاطفال ، بمعنى انه لم يعد اي طفل في سن الدراسة خارج المدرسة. بالنسبة للمستثمر فان ما يهمه هو ضمان استثماراته على المدى البعيد . هذا الضمان مستحيل في غياب الحريات العامة وسيادة القانون . بالنسبة للحكومة فان الاستثمار الاجنبي يوفر وظائف للملايين من طالبي العمل .
يمثل النموذج الصيني – رغم قصوره في الجانب السياسي - محاولة ناجحة حتى الان في الربط بين حاجة السوق الدولية والميزات النسبية المحلية – اليد العاملة المؤهلة والرخيصة بالدرجة الاولى – والحدود الخاصة بالسياسة . لم يكن هذا الخيار سهلا او دون عوائق ، فقد تطلب تنازلات من النخبة الحاكمة وتركيزا على المواءمة بين عناصره المختلفة .
 عكاظ ( السبت - 12/7/1425هـ ) الموافق  28 / أغسطس/ 2004  - العدد  1168

28/02/2004

المطالب الشعبية والنظام العام


||علة وجود الدولة هي تلبية الحاجات التي لا يستطيع الافراد انجازها بانفسهم. اذا لم يمكن توفير جميع هذه الحاجات فان تحديد اولوياتها هو جوهر موضوع السياسة||
يبدو ان صيانة التوازن بين النظام العام وتلبية المطالب المتغيرة للجمهور هي اكثر مهمات السياسيين حرجا. فكرة التوازن ليست اختراعا جديدا على اي حال ، فقد شكلت جزءا هاما من الدراسات الغربية حول الدولة والتحديث . وقد اشتهرت في هذا السياق اراء المفكر الامريكي صمويل هنتينجتون (وهو بالمناسبة معروف في الوسط الاكاديمي كعالم سياسة ومنظر للتنمية قبل اشتهاره عندنا بنظرية صراع الحضارات). يدعو هنتينجتون الى تحديث متوازن وتدريجي لاجهزة الدولة والنظام الاجتماعي . وفي رايه ان التحديث السريع وما يوفره من حريات وما يكشف عنه من فرص يطلق تيارا هائلا من التوقعات والامال التي يستحيل تلبيتها في فترة وجيزة . عجز الدولة والنظام الاجتماعي عن تلبية تلك الامال ، يحولها الى مولد للقنوط والقلق بين الاكثرية من الجمهور. ويقود بالتالي الى تصدع المجتمع وتبلور ظواهر العنف والخروج على القانون والفساد الخ .
ومع اني لا اميل الى نظرية التنمية التي دعا اليها هذا المفكر ، الا انها تقدم حلولا جديرة بالتامل ، من بينها مثلا تركيزها على مؤسسات العمل الجمعي. النظام العام عند هنتينجتون وليد لتوازن فعال بين مطالب الجمهور وحاجات الدولة . على المستوى الاجتماعي ، يتحقق هذا التوازن اذا امكن تأطير مطالب الجمهور في قنوات عمل جمعي تعمل على تحويل التطلعات الفردية من افكار غائمة الى مشروعات عمل . كما يتحقق التوازن على مستوى الدولة اذا امكن تقريب المسافة التي تفصلها عن المجتمع ، من خلال التوسع في الحوار وانتقال الافكار بين الطرفين. النظام العام – حسب هذه التصوير – ليس وليد استعراض الجبروت الدولتي بل وليد القناعات المشتركة التي يخلقها التفاعل عند الطرفين.
لا يمكن لاي دولة في العالم ان تلبي "جميع" مطالب الناس ، كما يستحيل عليها ان تعرف جميع تلك المطالب . لكن في الوقت نفسه فان النظام العام لا يمكن ان يستقر دون تلبية حد معقول منها . فلسفة عمل الدولة بل وعلة وجودها هو تلبية الحاجات التي لا يستطيع الافراد تحقيقها بانفسهم. وبالتالي فان جوهر المسألة هو تحديد ما يحظى باهمية قصوى وما يمكن تاخيره . عمل الدولة – اي دولة في العالم – لا يتجاوز في حقيقة الامر هذا المعنى. كل حاكم او وزير او مسؤول يتمنى ان يفعل كل شيء ، لكنه في نهاية المطاف مضطر الى ملاحظة الامكانات المتوفرة والزمن المتاح وبالتالي فلا مفر من الرجوع الى جدول اولويات مناسب.
السؤال الان : من يقرر ان مطلبا معينا اولى من غيره ، وما هو المعيار في التقديم والتاخير؟.
في اعتقادي ان رضى عامة الناس يجب ان يكون المعيار الاول لاختيار اولويات عمل الدولة. ويرجع هذا الاختيار الى فكرة النظام العام التي بدأنا بها هذا الموضوع . ثمة دائما اعمال مهمة وضرورية لكنها لا تحظى برضى الجمهور ، واخرى اقل اهمية لكنها توفر الرضى. اذا قبلنا بفكرة ان التفاعل بين الدولة والمجتمع هو القاعدة التي يقوم عليها النظام العام والاستقرار ، فيجب ان نأخذ بهذا المبدأ حتى لو بدا لبعض النخبة ناقصا او معيبا.

يستتبع هذا - بالضرورة – توفير الفرصة لافراد الجمهور كي يحولوا اراءهم وتطلعاتهم الى مطالب عقلانية ، منظمة وقابلة للطرح العلمي والمناقشة الموضوعية ، اي – بصورة مختصرة – تحويلها من راي خاص الى راي عام . الوسيلة التي توصل اليها العالم المعاصر للقيام بهذه المهمة هي ما يعرف بالمجتمع المدني . مؤسسات المجتمع المدني ، من صحافة وجمعيات نفع عام وجمعيات حرفية وتخصصية ، هي الوسيلة التي مهمتها بلورة الاراء وعقلنتها وتحويلها من ثم الى مشروعات عمل . تحديد المطالب والاولويات هو – اذن - عمل المجتمع ، وهو التجسيد الابرز لفكرة التفاعل بين الدولة والمجتمع كقاعدة للاستقرار والنظام العام.

14/02/2004

انهيار الاجماع القديم


يمكن تلخيص مضمون التغيير التي طرا على المجتمع تحت عنوان "ظهور الفرد" . لو تاملنا في المنظومة الثقافية التي سادت مجتمعنا في الماضي ، لوجدنا انها تدور في المجمل حول تكريس مكانة الجماعة وسلطتها ، وتلغي تماما دور الفرد ، وفي المقابل فان الثقافة التي جاءتنا مع الانفتاح على العالم تنظر للامر من الزاوية المعاكسة تماما ، الفرد فيها هو الاساس ، وهو عندها مستقل ومسيطر على مصيره وحر في اختيار انتمائه ومصالحه واسلوب عيشه وعلاقاته.
 شكا الاستاذ عبد العزيز الخضر مما يصفه باختلاط الرؤية تجاه مسألة التجديد ، وهو يرجع جانبا من المشكلة الى الانفصام بين الثقافة والواقع ، والى تزاحم الفقهي والفلسفي في الخطاب الديني . هذه القضية – رغم قلة المنشغلين بها بين الناس – هي لب المشكلة التي يعاني منها مجتمعنا ، بل والمجتمعات العربية  عامة . ومنذ ستينات القرن الماضي كانت موضوعا للكثير من النظريات و الابحاث التي اهتمت بقضية النمو في العالم الثالث. يمكن اختصار المسألة كلها في ثلاث كلمات : التغيير، الاجماع ، والاستقرار.
الفرضية الاساسية هي ان النشاط الاقتصادي وانتشار التعليم والاعلام والانفتاح على العالم يؤدي الى تغييرات عميقة في النظام الاجتماعي، في القيم الناظمة لسلوك الافراد وفي هيكل العلاقات الاجتماعية وفي المفاهيم المعيارية التي تتحكم في رؤية الفرد لنفسه ومحيطه. ومن بين ابرز ما يتغير هو تصور الفرد لمنظومة السلطة ، سواء سلطة العائلة او سلطة الدين او سلطة الدولة او سلطة المدرسة ، او غيرها من السلطات التي ينظر اليها عادة باعتبارها ذات حق في فرض ارادتها على الجميع.
يؤدي التغيير الى  نوع من توحيد الافكار بين الداخل والخارج ، ونجد ابسط تمثلات هذا الامر في انتشار اللغات الاجنبية - الانكليزية مثلا - في البلاد ، وتماثل اساليب المعيشة والاستهلاك ، والرغبة في السفر والاهتمام بقضايا العالم البعيد .. الخ . هذا التوحيد – وهو ابسط اشكال العولمة – يؤدي في احد وجوهه الى انحسار منظومات القيم ومعايير السلوك المحلية لصالح تلك التي سادت في العالم واصبحت معيارية على المستوى الكوني.

فلنأخذ مثلا فكرة الحرية ، حرية التعبير وحرية السلوك الاجتماعي وحرية الانتماء ..الخ . مفهوم الحرية لم يكن على  الاطلاق جزءا من ثقافتنا القديمة ، ولعل كثيرا من الاباء شعر بالقلق حين تكاثر الكلام حولها ، وقفزت الى اذهانهم مظاهر العجز عن ضبط الاجيال الجديدة التي تريد العيش بحرية غير معتادة . ومثل ذلك يقال عن فكرة المشاركة وتقرير المصير الخ .

بعد اربعين عاما من الانفتاح الواسع على العالم ، فان الفرد المذكور لم يعد واحدا او عشرة او مئة الف خريج جامعي ، بل جيلا باكمله يسيطر اليوم على مفاتيح الحياة على  امتداد المجتمع . سيادة الجيل الجديد ، تعني بالضرورة ان المنظومة الثقافية التي كانت سائدة في المجتمع لم تعد كذلك اليوم . لكن المشكلة ان هذا التغيير لم يجر على وفق نظام محدد ومخطط سلفا ، لاننا في الاساس لم نعتبره قضية كبرى . والعادة في العالم العربي انهم يخططون لخمس سنوات او عشرا ، لكنهم لا يفكرون في صورة البلاد بعد ثلاثين عاما ولا يدرسون انعكاسات التغيير المقصود وما يتبعه من هزات ارتدادية على المدى الطويل ، ولهذا فان ما نحن بصدده اليوم يبدو للكثير من الناس مفاجأة غير سارة .
اذا اردنا وضع التغيير المذكور تحت عنوان اوسع ، فان افضل وصف له هو "انتهاء الاجماع القديم" . الاجماع الوطني هو الاساس في التوافق بين اطراف المجتمع وهو الوسيلة الوحيدة لضمان الاستقرار . على المستوى السياسي ، فان اعادة تكوين الاجماع الوطني هو المهمة الاكثر الحاحا ، ذلك ان الاجماع هو القاعدة التي تقوم عليها مشروعية النظام . اعادة تكوين الاجماع لا تتحقق بالدعوة الى الوحدة والحث على ترك الاختلاف كما يفعل بعض الدعاة والكتاب ، بل بالنظر في الهموم التي ينشغل بها الجيل الجديد من المواطنين والتطلعات التي يسعون الى تحقيقها .
 في ظرف مجتمعنا الحاضر ، فان اعادة انتاج الاجماع القديم في اي صورة ، لن يولد اجماعا جديدا ، بل مزيدا من الانقطاع بين الشرائح الاجتماعية . ويبدو لي ان الخطوة الاولى لتكوين اجماع جديد ، هي الاعتراف بالمجتمع كما هو ، اي بما يتمثل فيه من تيارات ومصالح وتوجهات ، سواء رضينا عنها او أساءتنا . هذه الخطوة ستمهد لاجماع لا يتناقض مع التعدد والتنوع ، اجماع يتيح الفرصة للجميع كي يشعروا بمعنى المواطنة الحقة والشراكة المتساوية في تراب الوطن.


Okaz ( Saturday 14 Feb 2004 ) - ISSUE NO 972

14/02/1999

متفائلون على أعتاب الالفية الثالثة : هل يتقدم العرب



أظن أن كل عربي حصل على نصيب من الثقافة ، قليلا أو كثيرا ، قد توقف ساعة أو ساعات امام العتبة الزمنية التي يوشك ان يجتازها العالم بعد أشهر ، أعني نهاية القرن وبداية الألفية الثالثة .

ويبدو ان العالم العربي قد تجاوز موقف الغفلة ، فمعظم العرب ، المتعلمين منهم على وجه الخصوص ، على وعي بأن الحديث عن الألفية الثالثة لا يتعلق بعبور زمني خال من المعنى .
قبل عشرين عاما ، حين كان القرن الرابع عشر الهجري في نهاياته ، وجه السيد ابراهيم الوزير دعوة إلى المسلمين ، كي يقدموا لأنفسهم جردة حساب عما اكتسبوه أو خسروه خلال القرن الرابع عشر ، وان يضعوا نصب اعينهم مسارات محددة في القرن الهجري الجديد ، وعرض العلامة الوزير في كتابه (على مشارف القرن الخامس عشر) أبرز التحديات التي تواجهنا في هذا القرن ، وكرر مفكرون آخرون هذه الدعوة ، لكن اوضاع العالم الإسلامي كانت يومئذ شديدة الالتباس ، فضاعت تلك الدعوات في زحمة الأحداث ، لكني أظن اليوم ان العشرين عاما الماضية لم تضع هباء ، فالاحداث المتزاحمة اوجدت قدرا من الوعي عند العرب والمسلمين ، يؤهلهم اليوم أو غدا لاختيار طريقهم .

القضية الكبرى الدائمة هي التجدد الاجتماعي والتجديد الثقافي . التجديد الثقافي ، يعني بصورة محددة تطوير المنتجات الثقافية لتكون قادرة على تحليل حياتنا ونقدها واقتراح البدائل ، وبالنظر إلى ان النتاج الثقافي الفعال بحاجة إلى حياة ثقافية نشطة وسليمة ، فان التجديد مرهون بطبيعة الاطارات التي تحتوي النشاط الثقافي من حيث الضيق والسعة ، ومن حيث الحرية أو التقييد ، ونعلم ان القيود الاجتماعية المفروضة على التعبير ، هي المسؤول الاول عن تحجيم الحياة الثقافية من ناحية الكم وتفريغها من ناحية الكيف ، بديهي ان الحياة الثقافية المتحررة من القيود ، والمتروكة للمبادرات الفردية ، وغير المقيدة باطارات محددة ، هي الدليل الأقوى على رغبة المجتمع في تجديد ثقافته ، وتعزيز دورها في  البناء وتحديد صورة المستقبل .

أما التجدد الاجتماعي ، فيتحدد في وعي المجتمع بحاجاته الحقيقية وقدرته على تلبيتها أو سعيه في هذا الاتجاه ، والواضح ان العرب يعون اليوم أكثر من  أي وقت مضى ، انهم قد تأخروا كثيرا عن ركب المدنية الانسانية ، وهذا ما ينكشف عند أي مقارنة بينهم وبين المجتمعات المناظرة .

على الجانب الآخر من العالم ، فان المجتمعات الصناعية تستعد للقرن الجديد بزخم هائل من الأفكار ومناهج العمل والمبتكرات ، وهو ما دعا بعض كتابنا إلى استدعاء القضايا المطروحة هناك باعتبارها قضايا كونية ، والحق انها ليست كذلك ، فما يواجه المجتمعات الصناعية من تحديات ، يتناسب ومستوى تطورها ، ولاننا في مستوى آخر ، فان القضايا التي تواجهنا مختلفة كليا ، وان تشابهت مع تلك في عناوينها.

 وأذكر هنا المفارقة التي عرضها د. حازم الببلاوي حين تحدث عن العلاقة بين الانتاج والاستهلاك ، فهو يشير إلى ان صناعة الاعلان حيوية للمجتمع الصناعي ، لانها الوسيلة الرئيسية لتضخيم الاستهلاك وبالتالي تسهيل الطريق امام الابتكارات الجديدة ، أما في المجتمعات القليلة الانتاج ، فان الاعلان ثم الاستهلاك يلعب دور المضخة التي تسحب الثروة الوطنية إلى الخارج ، وتقلل فرص الادخار الضروري للاستثمار فالانتاج ، لان ما يعرضه الاعلان من سلع وخدمات ، مستورد غالبا من الخارج ، ويمكن تطبيق هذا القياس على المصارف والاسواق المالية وصناعة الاعلام ، بل وحتى التعليم في بعض  الحالات .

من مصاديق التجدد الاجتماعي ، العودة إلى الثقة بالذات ، واكتشاف القدرات الذاتية ، ولدينا على المستوى العربي فرص هائلة إذا حسنت ادارتها ، لكن هذا بحاجة إلى تخفيف الموجة الاقليمية والقطرية التي سادت عالم العرب منذ اواخر الثمانينات ، والتي لم يكن وراءها من ثمرة سوى ان العرب اغلقوا أبوابهم دون أشقائهم وشرعوها أمام الغرباء ، لكن لحسن الحظ فان العرب اقتنعوا اخيرا بجدوى فتح أسواقهم على بعضها ، وبدأ بشكل جدي ـ كما تشير الانباء ـ تطبيق اتفاق الوحدة الجمركية ، وهي عودة بعنوان مختلف إلى فكرة الوحدة التي نعاها كثيرون في اوخر الثمانينات ، مع انها طريق العرب الوحيد على الارجح ، إلى مواجهة التحديات الاقتصادية التي لا يستطيع كل قطر بمفرده احتمال اعبائها .

على ابواب الالفية الثالثة ، سوف نحتاج إلى التفاؤل ، وسوف نحتاج بالطبع إلى العمل الجاد لاكتشاف الذات وصياغتها من جديد .
في 14-2-99

15/12/1998

هل نحتاج حقا إلى طريق ثالث ؟



جاري في هذه الصفحة الأستاذ عبد الله القفاري ، صياد أفكار لا يشق له غبار ، وقد تحدث الثلاثاء المنصرم عن الحاجة إلى طريق ثالث ، بديل عن الاشتراكية التي فقدت صلاحيتها ، والليبرالية التي تتكشف عيوبها ، ولا يبعد ان تواجه مصير أختها في وقت قريب ، وهو طرح اقترحه في صورة سؤال يفيد تقرير الجواب ، على طريقة المتنبي في قوله :
 وكثير من السؤال اشتياق     وكثير من رده تعليل

عبد الحميد الابراهيمي
فكرة الطريق الثالث التي تحدث عنها بعض المفكرين في الغرب ، هي اصلاح لليبرالية بادماج بعض فضائل الاشتراكية ضمن نسيجها ، وهو يقتضي تعديل بعض ما قامت عليه من أسس ، ولا سيما في موضوع العلاقة بين الفرد والمجتمع ، والعلاقة بين المجتمع والدولة ، وإعادة النظر في دور الدولة وتعريفها الوظيفي ، وهي فكرة خلفيتها اعتبار الليبرالية نهاية حقيقية للتاريخ ، وتقرير لها كأيديولوجيا نهائية للبشرية ، حتى لو اعترض البعض على اعتبارها أيديولوجيا .
لكن الاستاذ القفاري يدعونا إلى طريق ثالث نبدعه أو نشارك في إبداعه ، بغض النظر عما يسعى اليه توني بلير ، الذي يريد ارتداء عباءة المنظرين ، بعد ان  شارك بكفاءة في إبعاد حزبه عن النظرية ، وتحويله إلى حزب سياسي صرف .

والمفهوم من سياق الكلام ، ان القفاري سيتوصل إلى ان الاسلام هو الطريق الثالث المقترح ، وهي فكرة سبقه  اليه كثير من الكتاب في العالم الإسلامي ، بعضهم بطروحات مجردة هي أقرب إلى الدعوة ، منها إلى اثبات المدعى ، وقليل منهم كلف نفسه عناء عرض الأدلة التي تناسب القضية ، ومن المساهمات الحديثة التي لفتت نظري ، دراسة رئيس الوزراء الجزائري السابق ، د. عبد الحميد براهيمي (العدالة الاجتماعيةوالتنمية في الاقتصاد الإسلامي) الصادرة في سبتمبر 1977 عن مركز دراسات الوحدة العربية ، التي حاول فيها تحديد أطراف الموضوع ، الذي سيكون مجالا للبحث في أي دراسة لاحقة حول فرص اشتغال نظرية العدالة الاجتماعية ، وقد أصاب في هذا الاختيار ، لأن العيب الاساسي في أكثر الدراسات والدعوات التي عالجت القضية ، هو عدم تحديد الموضوع ، ومعالجة قضايا في غاية السعة والتشعب ، هي عند التحديد العلمي موضوعات كثيرة ، لا يمكن ان تدرج في بحث واحد ، أو ان يقترح لها ضابط أو نظام واحد للبحث .

عدا عن هذا الاستطراد ، فقد لفت نظري في مقال الاستاذ القفاري مسمى (الطريق الثالث) وكنت اتساءل في نفسي كلما قرأت مساهمة حول الموضوع : هل ينبغي حقا التفكير في طريق ثالث ؟ .

المسلمون الذين سبق لهم الدعوة إلى طريق ثالث ـ معظمهم على الأقل ـ افترضوه شيئا جديدا ، مستقلا ومختلفا عن الطروحات السائدة ، الليبرالية والاشتراكية وما هو تجميع من هذي وتلك ، وهذا الاقتراح يثير إشكالين كبيرين :
الأول : هل لدينا مشروع اسلامي جاهز ليحل مكان أحد الطريقين؟.
الثاني : على افتراض ان الاسلام هو الطريق الثالث ، فما هو حجم الفجوة التي تفصله عن كل من الطريقين السابقين ، وهي فجوة تتضح خصوصا في حال الانتقال ، وليس بعيدا عنا ما حدث في روسيا منذ أن بدات الانتقال من الاشتراكية إلى الليبرالية ، في بداية التسعينات ، وهي فجوة تحولت إلى هوة قاتلة ، ما تزال تحصد الضحايا حتى هذا اليوم .

والمراد من السؤال الأول ، تقرير ان ثمة فرق بين مشروع العمل الذي يقوم على فلسفة الاسلام وفي إطاره ، وبين صورة الاسلام المتداولة عند عامة المسلمين وكثير من الدعاة ، وهي صورة تميل بشدة نحو التبسيط ، ان صورة الاسلام التطبيقي في أذهاننا ، هي تركيب غير تاريخي لبعض مشاهد التاريخ ، وعامل التركيب الذي جمع بين هذه المشاهد ، هو الشوق إلى تصور المثال ، وليس المعرفة أو الدليل ، ولا يخفى اننا بحاجة إلى فقه جديد ، متصل مع العصر وتحدياته ، لا سيما في المجالات التي أهملها الفقه التقليدي .

أما المراد من السؤال الثاني ، فهو تقرير الحاجة إلى طرح المشروع الإسلامي المعاصر ، باعتباره متصلا ومتواصلا مع تجربة الانسان المعاصر ، وليس إقحاما للتاريخ في الحاضر ، ونحتاج هنا إلى إعادة فهم المشروع الإسلامي ، باعتباره حلقة أعلى في مسيرة البشرية ، وليس قفزة خارج هذا المسار ، ويؤول تقرير هذا الفهم إلى احترام ما توصل اليه الانسان من معرفة لذاته وللطبيعة ، وتقرير لمكانته بين مجمل المخلوقات ، وفي مقابل أخيه الانسان ، واعتبار محصلة هذه المعرفة ، أساسا يسهم في حمل المشروع ، ضمن هذا الفهم فقد لا نكون بحاجة إلى طريق ثالث ، بل إلى استكمال ما ينقص منظومة افتراضية ، نتفق على اعتبارها نقطة الاتصال بين ما هو سائد وما هو مطلوب.

مقالات ذات علاقة

عكاظ 15-12-1998

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...