‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاقتصاد. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاقتصاد. إظهار كافة الرسائل

24/05/2004

بيان نوايا

بيان النوايا الذي اصدره وزير العمل غازي القصيبي ضرب على اوتار حساسة انفقت فيها الصحافة المحلية اطنانا من الحبر والورق ، لكنه ابعد ما يكون عن خطة عمل لحل مشكلة البطالة . ولا يختلف اثنان في كفاءة القصيبي وشخصيته الحاسمة . 


لكن في التحليل النهائي ، فان هذا البيان لا يقدم رؤية عن مشكلة البطالة في المملكة ، ولا يقدم خطة متكاملة للتعامل معها على المدى البعيد . فهو يتضمن اشارات الى جوانب ثقافية ، وجوانب اقتصادية وجوانب تنفيذية. لكنه يثير الدهشة لاهتمامه بما قيل عن هروب رأس المال المحلي بسبب تبعات السعودة مع ان المعلومات المتوفرة تؤكد على ضآلة هذه المشكلة.  و ربما كان السبب في اثارتها هو اعلان عدد من تجار الذهب اخيرا عن الانتقال الى دبي . والواضح ان الامر يتعلق بعدد يعد على الاصابع ولا يمثل مشكلة تستحق الاهتمام . وفي المقابل فهناك ادلة ملموسة على نمو هائل لحجم الاستثمار المحلي خلال الاشهر القليلة الماضية انعكس بوضوح على السوق المالية ، وهو امر معروف للجميع .


الاستثمارات الجديدة هي الحل الامثل والطويل الامد لمشكلة البطالة ، ويظهر من التجربة الفعلية ان القطاع الخاص السعودي يتمتع بقدرة هائلة – وبرغبة ايضا – على الاستثمار المحلي . المشكلة اذن في الاوعية الاستثمارية المتاحة . ان الجزء الاعظم من هذه الاموال قد تركز في المضاربة على العقارات اضافة الى اسهم الشركات القليلة المدرجة في البورصة .

بديهي ان المضاربة في العقار لا تولد فرص عمل ولا فائض قيمة اقتصاديا – في منظور الاقتصاد الانتاجي -  ، وبالتالي فهي لا تزيد من قوة الاقتصاد الوطني وقدرته على استيعاب التحديات.  وهذا يقودنا الى النقطة الجوهرية في الموضوع ، اي المخطط البعيد المدى للاقتصاد الوطني . اننا بحاجة الى تصور محدد لما ينبغي ان يكون عليه الاقتصاد السعودي بعد عشرين عاما ، والخطط المفصلية التي يفترض ان تقود الى تكامل تلك الصورة .
كان القصيبي قد قاد خلال توليه وزارة الصناعة تجربة جديرة بالاهتمام ، لعل ابرز شواهدها هو تنظيم قطاع الكهرباء وانشاء شركة الصناعات الاساسية التي اصبحت اليوم قطب الصناعة السعودية . وقد وفرت هذه الشركة الاف الوظائف فضلا عن كونها اضافة كبيرة للاقتصاد الوطني . وكان مقدرا للشركة ان تلعب دور الدينامو لعشرات من الصناعات التكميلية المتوسطة والصغيرة . ولو تحقق هذا التقدير ، فلربما كانت مشكلة البطالة التي نتحدث عنها اليوم ضئيلة الى درجة لا تستحق معها انشاء وزارة خاصة للعمل .

لكن المشروع لم يتواصل ، وهذا هو جوهر المشكلة . حينما كانت الحكومة هي الممول الرئيس كان بالامكان اقامة مشروعات من نوع سابك ، وحينما توقف التمويل الحكومي بدأنا نواجه مشكلات مثل البطالة .

ترى ما هو السبب في عزوف القطاع الخاص عن الاقدام على مشروعات مثل سابك ، او حتى مثل الصناعات التكميلية والاستهلاكية التي كان مقدرا لها ان تقوم على حاشيتها ؟. امامنا تجربة تقول ان مثل هذه التجربة توفر حلولا جديرة بالاهتمام ، فهي تولد وظائف وتولد ارباحا كبيرة ، وهي تعزز من متانة الاقتصاد الوطني ، اي انها تمثل حلا طويل الامد يحقق اهداف الافراد والمجتمع معا.
اسباب مشكلة البطالة التي يعرضها – تلويحا - بيان الوزير ، هي تجليات لمشكلة اعمق ، سبق ان عالجها بنفسها وقدم لها حلولا ، تجلت في توجيه المال المتوفر للاستثمار الصناعي . لازالت هذه الفرصة امامنا ، وامامنا ايضا الفرص التي يتيحها قطاع السياحة الذي طرح حديثا . ولهذا فان ما تحتاجه البلاد هو المواجهة الصريحة والشجاعة للاسباب التي تحول بين المستثمرين الصغار والمتوسطين وبين المشاركة في هذا النوع من الحلول . وهنا يجدر الاشادة بشجاعة رئيس الهيئة العليا للسياحة الذي لم يجد حرجا في الحديث عن المعوقات الكثيرة ، القانونية والتنفيذية والاقتصادية التي تثبط جهود المستثمرين.

ان برنامجا وطنيا يشترك المستثمرون بشكل مباشر في تنفيذه يتوقف على الشفافية الكاملة وتوفير المعلومات وحماية المنافسة . نحن نسمع اليوم عن خطة لترخيص شركة خاصة للنقل الجوي ، وعن منح تراخيص لشركات تقدم خدمات الاتصالات . ونتساءل عن حجم الجهد الذي بذل لاستقطاب الاستثمارات المتوسطة والصغيرة الى مثل هذه المشروعات .  مشكلة البطالة ليست في عدد الشغالات او عمال التنظيف ، بل في استيعاب الطاقة التمويلية المتوفرة في استثمارات مفيدة ومولدة للوظائف.

   السبت - 5/3/1425هـ الموافق  24 / ابريل/ 2004  - العدد   1042
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/4/24/Art_97872.XML




10/11/1999

عن العولمة والبقالين والحمالين و السمكرية و…

الملخصات التي نشرتها (عكاظ) للاوراق المعروضة على مؤتمر رجال الاعمال الذي انعقد السبت ، تعطي القاريء انطباعا بأن معظم القضايا المطروحة تدور حول العولمة الاقتصادية ، أو انها وضعت على خلفية القلق من العولمة وانعكاساتها على الاقتصاد السعودي ، وباضافة هذا الانطباع إلى ما يخرج به المتابع لاحاديث اهل السوق وتقارير الصحافة المحلية ، فان المحصلة الاجمالية ، تدعم فكرة ان مسالة العولمة قد تحولت فعلا ، من قضية تثير الاهتمام إلى فزاعة ، فالجميع قلق من نهاية عصر الاقتصادات المسورة سياسيا ، والجميع يتساءل عما سينتج عن انضمام المملكة إلى منظمة التجارة العالمية ، والجميع يتبادل الافكار والاحتمالات عن مصير المؤسسات الصغيرة في البلد ، بل وصل الامر ببعض الاكاديميين إلى ادعاء ان هذه المؤسسات ستفلس وستخرج من السوق مع تطبيق اتفاقية التجارة العالمية .
نتيجة بحث الصور عن bureaucracy
وقد كتب الكثير من المقالات والبحوث حول العولمة وجذورها وانعكاساتها ، وبعض هذه الكتابات جاد وحريص على ايصال الفكرة ، لكنني ـ بعد قراءة بضع عشرة بحثا وعدد كبير من المقالات ـ اجد نفسي عاجزا عن تفسير الموضوع ، وتقديم اجابات شافية لمن يسألني عن التفصيل ، وظننت احيانا ان مخيلتي قد شاخت ، فعجزت عن استيعاب ما لا تراه العين متجسدا شاخصا ، وطلبت النجدة من زملاء أكثر شبابا وبصيرة ، فما وجدت لديهم شيئا يزيد عما قرأت .
 لكن واحدا من قرائي دلني يوم امس على حقيقة طالما نظرت اليها دون ان اراها ، وخلاصتها ان جميع الابحاث والمقالات التي قرأتها ، كانت تتحدث عن شيء قائم فعلا ، وكنت ابحث عن جديد ظننته ما زال جنينا في رحم الغيب ، وتذكرت معلمي الذي طالما تمثل بحكمة يدعي انها مشهورة ، وان كنت لم اسمعها من غيره ، تقول (توضيح الواضحات من أشكل المشكلات) والحق ان العولمة كنظام للعلاقة بين المجتمع والسوق ، وحركة الرساميل وتبادل السلع والخدمات ، واضحة وهي قائمة بالفعل ، ونحن نشارك فيها ولو مشاركة طرفية ، لكنها قائمة على أي حال ، وتستطيع ان تراها على الارض ، في الولايات المتحدة الامريكية وفي الاتحاد الاوربي ، واعتقد الآن ان انضمامنا إلى اتفاقية التجارة العالمية ، لن ياتي بشيء ازيد مما هو قائم في السوق الامريكية والاوربية ، فاذا اردنا معرفة ما سيجري لنا ، فلندرس ما جرى في اوربا بعد توحيد اسواقها ، ولندرس ما جرى في الولايات المتحدة منذ بداية الفترة الثانية من حكم الرئيس الاسبق رونالد ريغان.
بعد ان توصلت إلى هذه النتيجة ، نصحت نفسي بالبحث عن مقالات تشرح الاثار الفعلية ، أي  القابلة للمشاهدة والملاحظة على قطاع معين ، بدلا من صرف الوقت في قراءة الكلام العام عن الاقتصادات التي سوف تتناثر ، ولا سيما تلك التي اختصت باثارة المخاوف ، أو اقتصرت على عرض الاحتمالات ، انني اشعر الآن بالحاجة إلى مقال يعرض بالارقام والتفاصيل كيف ستفلس شركة محددة أو شريحة محددة ولماذا .
 ووجدت نفسي مرتاحة إلى حد ما ، بعد ما عرفت سر جهالتي المزمنة بهذا الموضوع الخطير ، وقلت لنفسي ان مؤتمر رجال الاعمال سيفيدني في هذا الجانب ، فالتجار هم أكثر الناس اعراضا عن العموميات ، واشدهم اهتماما بالتفاصيل والارقام والقراءات المحددة ، فكلام التجار من ذهب ، وليس من فضة مثل كلام الخطباء ، ولا من ورق جرائد مثل كلام الكتاب .
على انني بعد ما اعدت قراءة ملخصات الابحاث المعدة للعرض أمام رجال الاعمال ، وجدت انهم ربما اصيبوا بلوثة الكتاب ، فتحول كلامهم إلى ورق جرائد مثل كلامنا ، ولم يعد ذهبا كما هو المعهود ، فهاهي اوراقهم تتحدث عن احتمالات وتثير مخاوف ، وتبعث نصائح على طريقة العرائض التي تبدأ بجملة (لمن يهمه الامر ..(
كنت اتمنى ان اقرأ شيئا يخبرني عما سيجري للبقالين والفلاحين وسائقي التاكسي وصيادي السمك والبائعين المتجولين في الاسواق الشعبية وصغار المقاولين والخبازين وصانعي الاحذية الشعبية والمصورين وأصحاب المقاهي والبوفيهات وباعة الخضر والحمالين والحدادين والنجارين والسمكرية ، وأمثال هؤلاء الذين ينطبق عليهم وصف المؤسسات الصغيرة ، الذين تهددهم مقالات الصحف بالخروج من السوق .
اعتقد الآن ان ما قرأته ، وما يقال في المؤتمرات والاجتماعات ، كله ورق جرائد ، أو كلام جرائد كما يقول اخوتنا المصريون ، فقد رايت اولئك المهددين بالافلاس والخروج من السوق ، يعملون في الاسواق الامريكية والاوربية ، ورايتهم يحصلون على الزبائن واموال الزبائن ، رغم ما يتعرضون له من تحدي الشركات الصغرى والكبرى ، العابرة للقوميات والعابرة للحدود وحتى العابرة للمحيطات ، إذا كان هناك شركات تعبر المحيط .
ما الفرق بين فلاحنا وفلاحهم ، وما الفرق بين بقالنا وبقالهم ، وصيادنا وصيادهم ، وحمالنا وحمالهم ؟ .
مادام اولئك قد صمدوا في وجه التحدي ، فلا اجد مبررا للفزع من التحدي عندما يصلنا ، وأظن انه قد حان الوقت للحديث عن تاهيل هؤلاء ، وتعليمهم كيف يستعدون للتحدي ، بدل الاقتصار على تخويفهم ، فالعولمة ، وان كانت تنطوي على تحد ، الا انها ليست ـ بالتاكيد ـ فزاعة .
مقالات ذات صلة



09/07/1998

حـديـث النــــــــاس



رغم انشغال الناس بمتابعة مباريات المونديال ، فان الوضع الاقتصادي يحظى بنصيب كبير من الأحاديث التي تدور في المجالس والسوق ، لا سيما بعد القرارات التي اتخذت الشهر الماضي لخفض الانفاق في ميزانية العام الجاري ، وقد غذى الوزير النعيمي الآمال بتحسن قريب في الاوضاع ، حين بشر الناس بان اسعار البترول سوف ترتفع ، إذا التزمت الدول المنتجة باتفاقات تحديد الانتاج الأخيرة ، وان هذا التحسن سوف يبدأ بالظهور في اوائل السنة القادمة .

ونود ان نحمل تصريحات وزير البترول على محمل الجد ، فلنا حاجة في التفاؤل ، وانتظار الخير الآتي ، لكني آمل ان لا تؤدي هذه التصريحات الى اعتبار الامور طبيعية تماما ، أي ان لا يقول المخططون بأن الانخفاض الحالي في اسعار البترول ، طبيعي ويحدث في كل مكان .. الى آخر ما يقال عادة ، عندما يراد تطييب الخواطر القلقة في الازمات ، نأمل حقا ان تتحسن اسعار البترول في اوائل السنة القادمة ، لكن من جهة اخرى ، يصعب التصديق بانها سوف تتجاوز المعدلات التي سادت خلال السنوات العشر الاخيرة ، خلافا للتفاؤل الذي ساد اواخر العام الماضي ، بان الاسعار سوف تقف عند معدل 16 دولارا للبرميل .

كثير من الناس الذين يشغلهم هذا الموضوع ، وانا منهم ، يسمعون تصريحات متفائلة مثل هذه ، كما يقرأون ما ينشر ويسمعون ما يقال ، مما يخالف فحواها ، ويعلمون بان التطمينات وتطييب الخواطر لا تعالج مشكلة ولا تغير حالا الى احسن منه ، وان خففت من القلق الوقتي لدى القلقين . ما يهمنا الان هو النظر في المسألة ككل ، فالعاقل من يتعظ بتجارب غيره فضلا عن تجاربه الخاصة .

بدأت انعكاسات  الانخفاض الحالي في اسعار البترول ـ ومعها الدخل الوطني ـ تظهر تدريحيا في السوق ، فانخفض مؤشر اسعار الاسهم المحلية مع انخفاض الطلب ، كما تدور احاديث عن احتمال رفع اسعار الخدمات العامة مثل الكهرباء والوقود ، وهي اجراءات سبق ان اتخذت عندما واجهت البلاد ازمة مماثلة قبل ثلاثة اعوام ، ونجحت الى حد ما في اختصار عجز الميزانية ، لكن معالجة عجز الميزانية ليس دواء طويل الامد لاقتصاد البلاد ، الا اذا اردنا التوقف في المستوى الابتدائي للاقتصاد أي ابقاء الناس متكلين في حياتهم ومعايشهم على الانفاق الحكومي المباشر ، وهو أمر لا يريده أحد ولا يستصوبه أحد .

يقول أهل الرأي في السوق بأن ما نحتاجه اليوم ، هو حلول جذرية وسياسات واقعية واستراتيجيات طويلة الأمد ، تؤدي الى تحرير الاقتصاد الوطني من الاعتماد الكلي والكامل على مبيعات البترول الخام ، واذا كنا قد وجدنا انفسنا مضطرين في بدايات معركة النمو ، الى التعويل على عائدات البترول ، والتساهل في ربط حياة الناس بصورة كاملة بالانفاق الحكومي ، فلا ينبغي الاسترسال في هذا النهج الى النهاية ، فهو يتحول  مع مرور الزمن ، من حافز للنمو الى مثبط لامكاناته ، في الوقت الذي لا تستغني البلاد عن مصادر جديدة لمواصلة نموها الاقتصادي والاجتماعي .

من ناحية أخرى فان رفع اسعار الخدمات العامة ، ليس محبوبا ولا مبررا عند أكثرية الناس ، لا سيما من الطبقات الوسطى والفقيرة ، صحيح ان الحكومة تدعم اسعار الكهرباء مثلا ، لكن من الصحيح ايضا ان الناس ليسوا مسئولين عن السياسات التي تتسم بالتبذير من جانب شركات الكهرباء ، والتي تتحول تاليا الى فواتير يتحمل عبئها المستهلك الذي لا ناقة له ولا جمل ، والحق ان الاحتكار الشامل الذي تتمتع به الشركة السعودية الموحدة للكهرباء (سكيكو) قد مكنها من فرض اراداتها الخاصة على جمهور المستهلكين ، وهناك من يدعي ان بالامكان اختصار فواتير الكهرباء  بصورة ملموسة ، لو وجدت شركات منافسة لشركة سكيكو ، وهناك من جرب فعلا وتأكد من هذا المدعى ، الامر نفسه يقال بالنسبة للوقود ، فنحن نعلم ان تكاليف انتاج البترول في المملكة ، تعتبر الاقل على مستوى العالم ، وان الحكومة لا تدعم اسعار الوقود ، أي ان ارامكو كانت تربح سابقا ، ولا تزال تربح من مبيعات الوقود ، والاحرى ان تخفض اسعاره  الآن ، تماشيا مع انخفاضه في السوق العالمية ، لا ان ترفعه كما يتوقع المتشائمون . الغرض ان التفكير يجب ان ينصب على سياسات اكثر واقعية ، وعدم رمي عباءة المسئولية على الحائط الواطئ للمستهلك البسيط .

منذ عدة أعوام يلح الخبراء على تخصيص شركات القطاع العام وخفض النفقات الحكومية ، باعتبارهما عنصرين جوهريين لتصحيح المسار الاقتصادي ، وقد بدأت أولى بشائر القبول بهذه الاقتراحات مع قرار تخصيص خدمة الاتصالات ، والحديث عن تخصيص النقل الجوي ، لكن الواضح ان الامر بحاجة إلى ما هو أكثر ، كما يحتاج إلى إزالة الصفة الاحتكارية التي تتمتع بها هذه القطاعات ، مع تحولها من مفهوم الخدمة العامة إلى الخدمة التجارية المدفوعة الثمن ، إذ لا يعقل أن تحافظ شركة الهاتف على احتكارها لهذه الخدمة ، مع أن التزامها الاول سيكون منصبا على مصالحها كشركة تجارية ، كما انه لن يكون منطقيا تمتع الخطوط السعودية بميزة احتكار خدمة النقل الجوي بعد تخصيصها ، واجبار المستهلك على دفع قيمة أعلى لما يشتريه من الخدمات ، اذا كان بالوسع ايجاد هذه الخدمة باسعار اقل .

ما أردت قوله ان تخصيص الخدمات العامة ذات الطبيعة التجارية ، وهو الاجراء الذي اعتبره الخبراء ضروريا لخفض النفقات الحكومية وتنشيط القطاع الخاص ، بحاجة الى أن يوضع ضمن مفهوم أوسع من بيع اسهم الشركات المملوكة للحكومة ، لتوفير بضعة عشرات من الملايين ، ينبغي ان يوضع ضمن مفهوم تطوير اهتمامات القطاع الخاص من الاستثمارات الجزئية والقصيرة الامد ، الى الاعمال الاستراتيجية الطويلة الامد ، ولتحقيق هذا المفهوم ، فاننا بحاجة الى تحرير السوق من الامتيازات الاحتكارية التي تتمتع بها بعض الشركات على حساب البقية ، ولا سيما على حساب المستهلك النهائي ، كما ينبغي التأكيد على تضمين مفهوم الخدمة العامة في الاستثمار ، والتخلص من عقلية الربح المادي الاقصى ، السائدة في السوق ، والتي ترسخت في السنوات الماضية كنتاج للتدفق المفاجيء للثروة والفرص ، وقصور المفاهيم والقيم التي يجري نشرها وتعليمها ، عن استيعاب الحقائق الجديدة ، التي افرزها تطور الصراع بين المال والقيمة الاجتماعية ، بين العناصر المادية وغير المادية في النمو الاقتصادي

يقول الناس ايضا ان المحافظة على المستوى المرتفع للمعيشة ، بحاجة الى ابتكار مداخل وأدوات واطارات استثمار جديدة ، لا سيما في قطاع الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة ، ويضربون مثلا على هذا المدعى بقطاع البناء والاسكان ، الذي لا يمكن التساهل في اهميته وحيويته ، فمع تراخي صندوق التنمية العقاري او توفقه احيانا عن الاقراض السكني ، فان هذا القطاع قد انكمش الى حدود مقلقة ، وقد كان يمثل شريحة واسعة من اجمالي القطاع الخاص ، ويمكن اعادة تنشيطه بتغيير سياسات الاقراض السائدة في البنوك المحلية .

 ولنا في تجارب الدول الاخرى درس وعبرة ، في بريطانيا مثلا يتم تمويل 60 بالمائة من عمليات بناء وتملك البيوت السكنية بقروض شخصية ، ونظرا لاتساع هذا القطاع فقد تأسست ـ الى جانب البنوك العادية ـ بنوك متخصصة في هذا المجال ، يطلق عليها (جمعيات البناء) حيث يستطيع أي مواطن بغض النظر عن امكاناته المادية الفعلية ، اقتراض مبلغ لشراء مسكن خاص ، كما ان شركات البناء تنظم اتفاقات مع تلك البنوك ، لاقراض من يرغب في شراء المساكن التي تبنيها ، ان قطاع الاسكان من القطاعات المزدهرة في بريطانيا رغم ان الحكومة لا تقدم قروضا ، بل تضع سياسات وتوجيهات لتعمل هيئات التمويل الخاصة على ضوئها . ان تنشيط قطاع البناء يمكن ان يتوازى مع وضع توجيهات للاستثمار في صناعة مواد البناء ، ومعظمها من نوع الاستثمارات المتوسطة ، من اجل رفع مستوى التكامل الرأسي لهذه الصناعة ، وتمكين البلاد من انتاج كل ما يلزمها لبناء مساكن ابنائها .

في نفس المجال نحن بحاجة الى تغيير بعض مفاهيم الملكية السائدة في الانظمة ، والمفاهيم السائدة في المجتمع ايضا ، لتمكين المواطن من امتلاك شقة في عمارة او طابق في بيت ، يتشارك في ملكية ارضه مع الغير ، والسماح بتأجير الارض لفترات طويلة ، مئة سنة مثلا ، بحيث تعامل المنشآت المقامة فوقها معاملة الملك الحر طيلة فترة التاجير ، اضافة الى تشجيع اقامة الجمعيات التعاونية للسكن ، ومنحها امتيازات مالية او قانونية ، لتخفيض كلفة البناء او الاستملاك السكني ، مما سيؤدي الى تنشيط قطاع البناء والعقار والصناعات المرتبطة بالبناء .

الخلاصة ان الناس ـ معظمهم على الاقل ـ ينظرون بقلق الى انعكاسات الانخفاض الراهن في الدخل الوطني على معيشتهم ، لكنهم في المقابل ليسوا غافلين عن حقيقة ان هذا التطور السلبي لم يكن اختياريا ، كما ان اعادة الوضع الى ما كان عليه في أوائل الثمانينات او بعيدها ، ليس من الاحتمالات التي ينظر اليها غالبية الناس ، الاكثرية حسب ما أظن تعرف بعض الحقائق او كلها رغم انها لا تعلن بصورة رسمية ، ولا تناقش في الصحافة المحلية ، ما يطمح اليه الناس هو سياسات جديدة تتعامل مع الشأن الاقتصادي باعتباره قضية مستقبلية ايضا ، وليس مشكلة وقتية محدودة ، ذلك يحتاج الى سياسات جديدة والى توجيه جديد لمراكز الثقل ، وتعديل الانظمة السائدة لتكون عونا على هذا التوجيه ، فلعلنا نعود الى وضع اقتصادي طبيعي ، لا يعتمد كليا وقطعيا على عدد براميل البترول التي نبيعها وقيمة كل برميل .

عكاظ 9 يوليو 1998

17/04/1995

البيئــة .. حاجــة اقتصــادية ايضــا



اينما ذكر الخليج العربي تواردت الى الاذهان صورة  البترول ، البترول وهو مكائن تنبش الارض بحثا عنه ، والبترول وقد تحول من زيت اسود كريه الرائحة كما وصفه المكتشفون الى ثروة تصنع جمال الحياة وناعم العيش ، فالبترول هو سر الخليج الاعظم ، وهو صانع حاضره.

لكن هذا الزيت الاسود الثمين ، هو ـ من الناحية الاخرى ـ المصدر الرئيسي للتحدي البيئي في المنطقة ، ثمة اسباب كثيرة يحتمل ان تؤدي الى افساد البيئة النظيفة ، التي نمني النفس ببقائها والتمتع بنعيمها ، لكن البترول يبقى هو التحدي الكبير .

شهدت حرب الخليج الثانية تبلور المخاطر التي يمثلها البترول على البيئة المحلية في الخليج ، فقد ادى القصف المتبادل الى اصابة عدد من منشآت البترول اصابات مباشرة او غير مباشرة ، وشعر الناس لاول مرة بحقيقة مايتهدد حياتهم من وراء هذا العملاق ، الذي كان في زمن السلم مصدرا للرفاهية ونعيم العيش .


البيئة كسلاح
ويعتبر التخريب المتعمد الذي قام به الجيش العراقي خلال المراحل الاخيرة للحرب ، السبب الرئيسي للمخاطر البيئية التي شهدتها هذه الحرب ، فقد قام الجنود قبيل انسحابهم من جنوب الكويت ، بتدمير الصمامات وخطوط النقل المتصلة بالابار ، وجعل الزيت الخام يتدفق باتجاه شاطيء الخليج ، في الوقت الذي كانت المنطقة تتعرض للقصف المدفعي والصاروخي ، الامر الذي ادى الى اشتعال الزيت المتدفق وحول المنطقة المحيطة بالحقول الى بركان ، يقذف بالادخنة السوداء ، والغازات الضارة الى أجواز الفضاء .

وقيل في تفسير هذا العمل التخريبي ، ان العراقيين كانوا يريدون تغطية انسحابهم السريع من المنطقة ، باشغال المقاتلين على الجبهة الاخرى ، او لمنع انزال محتمل للمشاة والمعدات على الشواطيء ، لكن كثيرا من المحللين اعتبروا غرض القيادة العراقية أوضح من هذه التفسيرات ، وهو يتلخص في اشعار الطرف الآخر ، بقدرتها على جعل الحرب مكلفة وفادحة الاضرار ، فالتخريب المتعمد لمنشآت مدنية ، لايؤدي في حقيقة الامرالى اضعاف الجهد العسكري ، قدر مايؤدي الى بلبلة الراي العام .

لبضعة اشهر بعد التحرير بقيت اراضي الكويت مغطاة بسحب من الدخان الاسود ، كانت ـ لكثافتها ـ تحجب الشمس في الاسابيع الاولى ، ثم تلاشت حتى انتهت بمرور الزمن ، وقد ادت كما قالت الصحف الكويتية الى مضاعفة معدلات الاصابة بامراض الجهاز التنفسي ، فضلا عن الامراض الناتجة عن القلق والتوتر النفسي ، وكنت اظن ان من المهم للمنطقة ، ايلاء الموضوع القدر الكافي من الاهتمام على المستوى العلمي ، لكن لم يتسن لي الاطلاع على دراسات متكاملة ، حول مخاطر التلوث البترولى في المنطقة ككل ، ولعلها لاتكون موجودة او متداولة ، ماخلا الدراسات التي وضعتها الهيئة الاقليمية لحماية البيئة البحرية ، التي كانت نشطة قبل الحرب ، وركزت على مشكلات التلوث البترولي في السواحل .
نماذج وطنية
وبالنظر لهذا النقص الملحوظ ، فقد قامت وزارة الدفاع بتاسيس المشروع السعودي للتوعية البيئية ، الذي يأخذ بعين الاعتبار موضوع نظافة البيئة كتحد راهن ومستقبلي ، وحسب علمي فان هذا المشروع هو الاول على المستوى الخليجي ، الذي ينظر للقضية من وجوهها المختلفة ، ولاسيما المحافظة على التنوع البيئي ، وهو الجانب غير المثير للاهتمام كثيرا ، على رغم جوهريته واهميته .وعلى المستوى الرسمي ايضا فان الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس ، بذلت جهدا طيبا في وضع ضوابط ملزمة ، على المعدات والاجهزة التي تنتج غازات او نواتج ملوثة ، وبين ابرزها السيارات ومعدات النقل ، اضافة الى المكائن المستخدمة في الصناعة ، فضلا عن الموصفات الخاصة بالاغذية المستوردة .

 لكن لايزال جهد الهيئة مركزا على السلع المستوردة ، وهذا امر قابل للتفهم اذ انها ليست هيئة بيئية بالمعنى الفني ، بل هيئة رقابة على المواصفات ، تنشط اساسا في نقاط الاتصال بين المملكة والاسواق الدولية . لذا فالذي نتطلع اليه هو تطوير مشروع التوعية البيئية ، ليأخذ على عاتقه مجموع العناصر التي تتعلق بالبيئة ، وذلك يقتضي ان تتحول الى هيئة وطنية ، قادرة على وضع المواصفات او اقتراح الانظمة .

نشير ايضا الى جهد تقوم به هيئة اخرى غير بيئية ، لكنها تقدم خدمة جليلة على هذا الصعيد ، وهو مشروع هيئة الاغاثة الاسلامية للاستفادة من علب الالمونيوم المستعملة ، اننا نستهلك كل يوم عشرات الالاف من هذه العلب ، التي تباع فيها المرطبات ، وقد وزعت الهيئة حاويات في بعض المدن لتلقى فيها العلب الفارغة ، حيث يجري صهرها واعادة انتاجها ، فتوفر الهيئة من بيع الالمونيوم الخام تمويلا لبعض مشروعاتها الخيرية .

البيئة .. اقتصاد ايضا
 ان المخلفات المعدنية هي واحدة من مسببات التلوث الرئيسية ، لكنها من الناحية الاخرى تمثل مصدرا للثروة لو اعيد تدويرها واستخدامها كخامات صناعية ، وفي بعض الدول الاوربية تضع البلديات حاويات لكل شيئ قابل للتدوير، من الصحف المستهلكة الى القناني الزجاجية الى علب الالمونيوم والاخشاب ، ويلعب الاعلام والتعليم دوره ، في اقناع الناس وتعويدهم علىان يحملوا مخلفاتهم من هذه المواد الى تلك الحاويات ، التي تتحول من عبء يكلف التخلص منه اموالا كثيرة الى مصدر للمال .

وعلى اي حال فان اعادة تدوير المواد المستهلكة هو بحد ذاته باب واسع ، نحتاج للدخول فيه لاعتبارات عديدة ...
اولها التخلص من المواد المستهلكة التي تسبب اضرارا للبيئة ، اوعلى اقل التقادير خفض كميتها الى الحد الادنى .

 وثانيها المحافظة على مواردنا الطبيعية غيرالقابلة للتجدد ، او البطيئة التجدد .
 وثالثها اضافة نشاط جديد الى الحياة الاقتصادية يوفر مزيدا من الدخل ومزيدا من فرص العمل ، فضلا عن انه يوفر بعض المال العام ، الذي ينفق على نقل النفايات والتخلص منها .

لقد ادى التحسن السريع في مستوى المعيشة ، الى ايجاد نمط حياتي طابعه العام الاستهلاك المفرط ، وليس من المقدر ان ينخفض هذا المستوى من العيش ، خلال السنوات القليلة القادمة ، الى حدود مقلقة ، لكن الشيء الذي يبدو مؤكدا  ،  هو انه لن يتطور الى مراحل اعلى خلال الفترة نفسها ، بالنظر الى الاوضاع الاقتصادية العامة ، التي تمر بها المنطقة والعالم ، ولهذا فمن الضروري ان نفكر جديا في الحفاظ على الحد الاقصى الممكن من الموارد المحلية ، التي سيكون استبدالها مكلفا لو فرطنا فيها بلا حكمة ، ويبدو لي ان سياسة شاملة تعتمد على دراسة موسعة لكل مايمكن اعادة تدويره والاستفادة منه تكرارا ، اصبحت اليوم شديدة الاهمية ، وستزداد اهمية مع مرور الزمن .
اليوم   17 ابريل 1995

03/04/1995

الارض وهموم التلوث

تصنف منطقة الخليج والجزيرة العربية ضمن المناطق النظيفة البيئة نسبيا ، ويرجع هذا الى اتساع الرقعة الجغرافية ، وقلة عدد السكان والمصانع التي تعزى اليها الاسباب الرئيسية لتلوث البيئة .

 ومن المفترض ان يبقى هذا الوضع الايجابي لفترة طويلة في المستقبل ، اذا مابقي معدل النمو في النشاط الصناعي على مستواه الحالي ، وتم الالتزام بالاجراءات الوقائية ، التي بدأت حكومات المنطقة في اتخاذها ، لتقييد حجم ونوعية النواتج الصناعية الملوثة ، باشتراط مقاييس معينة في عمليات الانتاج ، او معالجة ذلك النوع من النواتج لابقائها عند الحد الادنى ، ثم التحكم في ظروف تخزينها ، وفي ظل هذا الاهتمام فمن الممكن الاطمئنان ، الى اننا سنتمتع ببيئة نظيفة خلال المستقبل المنظور .

البيئة والحياة

والحقيقة ان (الهم البيئي) بمعناه الشامل لم يصل الينا بعد ، لاننا لانعاني مشكلات بيئية واسعة النطاق او موجعة ، خلافا للدول الصناعية او المزدحمة السكان ، او تلك التي تحتوي اراضيها على تضاريس جغرافية غير مناسبة .

 وثمة مدن في العالم الثالث ، ترتفع معدلات تلوث الهواء فيها الى اضعاف المعدل المسموح به للصحة العامة ، مثل القاهرة وطهران ومومباي ، حيث يقال ان نسبة الغازات الضارة المتواجدة في هواء المدينة ، تزيد عن اربعة اضعاف المعدل ، الذي يتحمله الجهاز التنفسي للانسان دون مشاكل صحية ، ولهذا السبب فان نسبة عالية من سكان هذه المدن او العاملين فيها ، يعانون من امراض الجهاز التنفسي والصداع المتكرر ، فضلا عن الامراض الاخرى ، التي لاتعتبر نتيجة مباشرة لتلوث الهواء ، على الرغم من ان التلوث يعتبر عاملا مهما في ظهورها.

موضوع جديد

ويعتبر الاهتمام بالبيئة موضوعا حديثا في العالم ، اذ لايبدو ان اهتماما جديا كان يبذل في هذا السبيل ، قبل منتصف الستينات الميلادية ، وهو لايزال على اي حال موضوعا ثانويا عند عامة الناس ، بالقياس الى معظم المشكلات التي يعاني منها المجتمع البشري ، لكن من الواضح ان سلامة البيئة تحظى باهتمام متعاظم عند جميع الامم .

 وفي معظم الاقطار الاوربية تشكل السياسات البيئية للحكومات ، احد عناصر النشاط اليومي للجماعات السياسية ، التي يخصص كل منها مفوضين ولجانا خاصة ، لمراقبة وضع البيئة المحلية ، وتاثير السياسات الحكومية عليها ، بل ثمة احزاب سياسية مختصة بقضايا البيئة ، يطلق عليها حركات الخضر ، او (السلام الاخضر) وهو اسم الحركة البيئية الرئيسية في اوربا الغربية .

قمة الارض

وقد شهد العام 1992 بلوغ الاهتمام الدولي بالبيئة الكونية مداه الاعلى ، حيث عقدت هيئة الامم المتحدة ، أول اجتماع على مستوى القمة ، يستهدف اثارة اهتمام الدول الاعضاء فيها ، بالتحديات التي تتعرض لها حياة البشر بسبب تلوث البيئة ، او اختلال التوازن بين عناصرها .

وشارك في (قمة الارض) التي عقدت في ريو دي جانيرو بالبرازيل 35 ألف مندوب من بينهم 117 رئيس حكومة ، وقعوا خلالها او بعدها ، مجموعة من الاتفاقيات الدولية الرئيسية ، من اهمها اتفاقية تحديد الغازات التي تعتبر مضرة بالغلاف الجوي ، والزام الدول الاعضاء بالعمل على معالجة اسباب التلوث البيئي ، والحفاظ على المصادر الطبيعية والتنوع الحيوي ، في اي جزء من الارض باعتبارها حاجة انسانية عامة .

ومع ان الولايات المتحدة تحت ادرة الرئيس السابق جورج بوش ، كانت شديدة التحفظ في الالتزام بمعظم الاتفاقيات ، التي وجد فيها الجمهوريون سببا اخر للضغط على فرصهم الانتحابية القريبة ، بالنظر لما تتحمله الدول الموقعة من نفقات اضافية ، او من اجراءات تزيد من الاعباء الاقتصادية التي تتحملها الحكومات ، الا ان الزخم السياسي القوي جدا ، الذي شكله اجتماع هذا العدد الكبير من رؤساء الدول والحكومات ، دفع المتحفظين الى مواقف اكثر اعتدالا ، لاسيما في مواجهة مطالب الدول الفقيرة بمساعدات مادية وتقنية ، لمواكبة التطور العالمي في مجال الحفاظ على البيئة .

تكاليف الوقاية

 ويبدو ان المجموعات الاقتصادية الرئيسية في الدول الصناعية ، ليست شديدة الحماس لمطالبات البيئيين المكلفة ، ويقول محللون بريطانيون في القطاع الصناعي ، ان الاجراءات المقترحة لتقليل التلوث الناتج عن الصناعة ، تحتاج الى استثمارات جديدة مرتفعة لتجديد المنشآت ووسائل الانتاج ، أو ابتكار اساليب  جديدة في تدوير المنتجات القابلة لاعادة التصنيع ، بما يقلل من استهلاك المواد الطبيعية الآخذة في النفاذ .

ومع الاخذ بعين الاعتبار اشتداد المنافسة وارتفاع تكاليف الانتاج ، فان من الصعب على المجموعات الصناعية الوفاء بتلك المتطلبات .

وبالنسبة لدول مثل ايطاليا واليابان فقد حاولت التخلص من مشكلات البيئة ، بتصدير اسبابها الى خارج الحدود ، اما ببيع المصانع القديمة الى الدول الفقيرة كما تفعل اليابان ، او بتصدير النواتج الصناعية الخطيرة كما تفعل ايطاليا .

ولازالت الطريقة اليابانية مقبولة ، لاسيما وان معظم الاقطار النامية تعاني صعوبات في نقل التكنولوجيا الضرورية للنمو ، فهي تقبل بما تستطيع الحصول عليه ولو كان متخلفا ، بالقياس الى ماهو موجود في الدول الصناعية الرئيسية ، اما الطريقة الايطالية فهي تثير استنكارا في العالم اجمع ، مع ان الحكومة الايطالية قد دابت على التبرؤ منها وشجبها .

 وينسب الى ايطاليا والمانيا معظم الحوادث ، التي كشفت عن تصدير براميل نفايات سامة او ملوثات صناعية ، في دول العالم الثالث سيما تلك التي تعاني من حروب ، او انحسار في قدرة السلطة الرسمية ، كما هو الحال في لبنان خلال العقدين الماضيين ، او الصومال خلال السنوات الخمس الماضية .

- هل تواجه منطقة الخليج تحديات جدية على المستوى البيئي ؟

-  يبدو انه من الصعب تجاهل التحولات المستقبلية المحتملة ، واذا كان الهم البيئي في الدول الاخرى يتمحور حول التلوث بصورة اساسية ، فان مايواجهنا هو اختلال التوازن البيئي وانكماش المصادر الطبيعية ، ولهذا الموضوع حديث آخر نعود اليه الاسبوع القادم .

اليوم  3 ابريل 1995

 

مقالات ذات صلة

البيئة وحاجات الحياة

الارض وهموم التلوث

البيئــة .. حاجــة اقتصــادية ايضــا

هكذا انتهى زمن الفضائل

21/11/1994

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة



خلال تجربتها الانمائية الحديثة حصدت بلادنا الكثير من ثمار النمو الاقتصادي ، على اصعدة عديدة منها اتساع القاعدة الانتاجية للاقتصاد الوطني ، وارتفاع مستوى المعيشة ، فضلا عن تكامل الحد الادنى المطلوب من الخدمات المدنية ، وقد تغيرت صورة البلاد  بسرعة كبيرة ، قياسا الى التجارب المماثلة في بلدان أخرى ، فخلال السنوات القليلة الفاصلة بين أواخر الستينات ومنتصف الثمانينات ، تحولت من دولة يغلب عليها الطابع الصحراوي الخشن ، الى دولة حديثة المظهر حيوية الاقتصاد .
كان لهذا النمو السريع والشامل ، تكاليفه على الصعيد الاجتماعي كما كان له ثماره ، وتلك معادلة في الحياة الاجتماعية لايمكن التنكر لها او تغافلها .
على اي حال ، لانحتاج للوم انفسنا على الانعكاسات السلبية للنمو الاقتصادي. ثمة انعكاسات هي ناتج قسري عن تغير طبيعة العمل ومستوى المعيشة ، واخرى ناتجة عن اغفال المعالجة الضرورية ، للتطورات الاجتماعية المحتملة خلال مرحلة الانماء وما يليها ، فلننظر الى بعض الامثلة.

اعوام العزلة

حتى منتصف الثلاثينات الميلادية كانت معظم اقاليم المملكة ـ باستثناء المدن الثلاث الرئيسية في الحجاز ، التي ياتيها الناس مرة او مرات قليلة في العمر ـ منعزلة عن الاخرى على المستوى الاجتماعي ، فلا طرق معبدة ولا وسائل انتقال ، ولا وسائل اتصال ميسرة ليجول الناس بين هذا الاقليم وذاك ، أو يعرف اهل هذا الاقليم عن جيرانهم في الاقليم الاخر ، ولهذا فقد كانت المجتمعات المتعددة التي تألفت منها المملكة ، غريبة عن بعضها ، مختلفة في وسائل تدبير لقمة عيشها ، وبالتالي في العديد من وسائل تعبيرها عن ذاتها ، وتقرير خياراتها الحياتية .
لكن وصول بعثات  التنقيب الاجنبية الاولى ، ثم تدفق البترول وما اوجده من فرص عمل غير متوقعة ، وما جاء به من ثروة ومكانة ، غير هذه الصورة  ،  فقد بدأ الالاف من الناس من مناطق مختلفة يتحركون صوب منطقة البترول ، التي يوفر العمل فيها عائدا مجزيا ومريحا ، بالقياس الى مصادر  العيش الضيقة المعتادة ، أو صوب المدن الرئيسية التي استقبلت ثمار الدفعات الاولى من عوائد البترول ، على شكل زيادة في الطلب على الخدمات والسلع ، مما ادى الى تنشيط سوق العمل.

توسع المدينة

 لعلها من المفارقات ان المئات من اهل بلادنا ، الذين غادروها في الربع الاول من القرن العشرين ، الى الهند والبحرين والعراق والشام بحثا عن الرزق ، اصبحوا الان قادرين على استقدام اعداد متزايدة من اهل تلك البلاد للعمل هنا ، فلقمة العيش كبرت واصبحت قريبة .

في الرياض ـ على سبيل المثال ـ لم يستطع الاستاذ محمد المانع (1903-1987) كما يخبرنا في بعض كتاباته ، العثور على سكن خاص له ولموظفين آخرين ، عملوا في الديوان الملكي في ثلاثينات القرن ، الا بعد جهد جهيد ، فلم تكن المدينة لتستقبل من الاغراب الا قليلا ، يحلون ضيوفا على اهلها ، ولم يتوقع احد ان احدا من خارج اقليمها بحاجة الى السكن الدائم فيها ، اما الاستاذ سعيد الغامدي الذي درس تطور المجتمع القروي في قرى بلحمر الجنوبية ، فيروي ان واحدا من اهلها استقدم عاملا يمانيا لمساعدته ، فكانت هذه الخطوة موضوع حديث المجالس لعدة اشهر ، وعقدت لاجلها اجتماعات ودارت مناقشات بين شيوخ القرية ، انتهت الى (قرار) بان يقيم الرجل سكنا خاصا لأجيره على اطراف القرية ، لان القرية لاتحتمل رؤية (اجنبي) بل وتخشى منه .

اما اليوم فهذه القرية ، كما هو الحال في الرياض ، تضم بين جنباتها من غير سكانها ، مايوازي عدد هؤلاء او ربما يزيد ، لقد تغير التركيب السكاني في مدن المملكة وقراها خلال العقود الثلاثة الماضية ، بحيث اصبحت قادرا على ان ترى في كل مدينة ، نماذج اجتماعية لكل اقليم من اقاليم المملكة .

تأثير الهجرة

يؤدي خروج عدد كبير من الناس من مجتمعاتهم الاصلية ، الى اهتراء في النظام الداخلي لهذه المجتمعات ، يتجسد في صورة انحلال لقوة الضبط الاجتماعي للافراد ، ثمة قرى كانت تعتبر الراديو اداة من ادوات الشيطان ، وتعليم العلوم الحديثة تهيئة للكفر بالله ، اما السفر الى البلاد الغريبة فهو رضى بالكفر عن الايمان ، لكن العشرات من الشباب الذين خرجوا الى المدن الكبرى ، لاجل العمل اكتشفوا عادة الاستماع الى الراديو ، ومن ثم الانخراط في الصف المدرسي ، ولحقتهم اخواتهم او بناتهم ، ثم استطاع بعضهم السفر الى البلاد المبغوضة ، فوجدوا ان متعة الاكتشاف تستحق التمرد على الضوابط القديمة .

ولان الامر لايبقى سرا على الدوام ، فقد انتهى ذلك التمرد الابتدائي ، الى تلاشي قدرة المجتمع على ضبط ابنائه ، ضمن الاطارات السلوكية السائدة ، والتي يحميها توافق اجتماعي ، هو مانسميه بالقيم او التقاليد ، بكلمة اخرى فان هذه التقاليد التي سادت عشرات من السنين ، اصبحت عاجزة عن الصمود في وجه رياح التغيير .

الفرصة والقصور

هل كان هذا الامر طيبا بصورة مطلقة ؟
ربما كان ضروريا ، له نتائجه الحسنة وهي كثيرة لكنه لايخلو من بعض الاشكالات ، من بين نتائجه الطيبة هو ظهور الفرصة التي تحتاجها البلاد ،  لتحقيق مفهوم التواصل الثقافي والاندماج الاجتماعي بين سكانها ، فلم يكن من الصحيح بقاء ابناء البلد الواحد ، غرباء عن بعضهم متجاهلين احوالهم ، بينما تفرض عليهم الحقائق الموضوعية ، ان يكونوا شركاء في سرائهم وفي ضرائهم .

ومن النتائج السلبية هو قيام مجتمعات جديدة غير متعارفة . في المدن الكبرى على سبيل المثال ، ستجد المهاجرين من الاقاليم ، اكثر ميلا الى اقامة شكل جديد عن مجتمعهم الاصلي ، يعبر عنه في صورة تكتلات اجتماعية لابناء قرية واحدة او قبيلة واحدة ، وينطوي هذا الاتجاه على مبررات للانعزال عن شركائهم في هذه المدينة ، ممن ينتمون الى الاقاليم والقرى الاخرى.

ولا ارى لهذا التوجه الانعزالي مبررات كافية ومعقولة ، ماخلا الشعور الطبيعي بالتوافق الثقافي ، بين ابناء القرية او القبيلة الواحدة ، وهو توافق يوفر لاصحابه الاطمئنان والامان النفسي ، ويندر تحققه بسهولة بين اشخاص ينتمون الى اقاليم مختلفة.

على ان هذا التبرير يكشف ـ اذا صح ـ عن حالة غير مقبولة ، من ضعف التكيف الاجتماعي والثقافي لدى المواطن ، يعبر عنه بالهروب من المجتمع الواسع والمتنوع الذي تمثله المدينة ، الى مجتمع ضيق وأحادي ، هو اعادة انتاج متكلف لصورة القرية ، وهذا بدوره ناتج عن قصور في المنهج التعليمي والاعلامي ، الذي ينبغي ان يعيد صناعة صورة المجتمع في ذهن الفرد ، منذ طفولته وحتى يكبر ، المجتمع الكبير المتمثل في الوطن ، بديلا عن مجتمع القرية الصغير والسابق للدولة ، ان التواصل بين الافراد من مختلف الاصول والانتماءات الاجتماعية ، هو الذي يحقق مفهوم المواطنة ، ويقيم علائقها بين ابناء الوطن الواحد ، اما الانقطاع ـ ايا كان سببه ـ فهو سبب قوي لقيام حالة من الشتات الاجتماعي ، يصعب في ظلها بناء وطن للجميع .
نشر في (اليوم) 21نوفمبر 1994

مقالات ذات علاقة 

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...